عاد التوتر مجددًا يخيم على أجواء العلاقات الأردنية الإسرائيلية جراء اعتداءات قوات الاحتلال على المسجد الأقصى خلال الأيام الخمس الماضية، والإصرار على تمهيد الطريق لاقتحام المستوطنين باحات المسجد، احتفالًا بعيد الفصح (15-22 أبريل/نيسان) بعد تفريغه من المرابطين والمصلين، الأمر الذي أسفر عن سقوط مئات المصابين والمعتقلين في صفوف الفلسطينيين.
البرلمان الأردني أول أمس رفع مذكرة لحكومة بلاده موقعة من 87 نائبًا (من إجمالي 130) تُطالب بطرد السفير الإسرائيلي، أمير وايسبورد، من الأردن، وفق وكالة الأنباء الأردنية، وبعد ساعات قليلة من هذا التحرك استدعت الخارجية الأردنية القائم بأعمال السفارة في عمان، الخطوة التي قوبلت برد فعل استنكاري من حكومة نفتالي بينيت.
تزامن هذا التوتر مع جهود دبلوماسية مكثفة أجراها العاهل الأردني مع زعماء وقادة الدول العربية وبعض الدول الإقليمية والكيانات الدولية، خلال الأيام الماضية، أبرزهم الرئيس المصري وأمير قطر وولي عهد أبو ظبي، للضغط على تل أبيب لوقف الاعتداءات على مدينة القدس والتحذير من خرق الوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى.
تصاعد التوتر بين عمان وتل أبيب بعد أجواء دافئة شهدتها العلاقات منذ قدوم بينيت، مقارنة بما كانت عليه خلال فترة بنيامين نتنياهو، أثار الكثير من التساؤلات عن الدوافع الرئيسية وراء الارتفاع المفاجئ في درجة حدة الخطاب السياسي الموجه للحكومة الإسرائيلية، إذ من المرات النادرة أن يتناغم الموقف الرسمي الأردني مع المزاج الشعبي بشأن دولة الاحتلال وانتقاد إجراءاتها وتحركاتها العنصرية.
تصعيد التوتر
وصلت قمة التوتر باستدعاء وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية، للقائم بأعمال السفارة الإسرائيلية في عمان، إلى مقر السفارة لتسليمه احتجاج رسمي لحكومة بينيت بشأن الاستفزازات والانتهاكات داخل المسجد وفي باحاته، مع التأكيد على ضرورة وقف تلك الأعمال كما جاء على لسان المتحدث باسم السفارة، هيثم أبو الفول الذي يرى أن الأعمال التي تقوم بها قوات الاحتلال ستقود إلى تغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد وفرض التقسيم الزماني والمكاني وهو ما يمثل خرقًا مُدانًا استنادًا للقانون الدولي.
في المقابل أثار هذا التحرك حفيظة الحكومة الإسرائيلية التي عقدت جلسة تقدير موقف عاجلة لدراسة التصعيد الأردني، واتهم وزير خارجية الاحتلال، يئير لبيد، حكومة عمان بأنها تعمل على رفع منسوب التوتر في القدس وتعرض حياة الناس للخطر.
الخارجية الإسرائيلية ردت ببيان شديد اللهجة على خطوة استدعاء سفير بلادها لدى عمان معتبرة أن هذا التحرك “يمسّ بالجهود لتحقيق الهدوء في القدس ويدعم أولئك الذين يمسون بقدسية الأعياد ويلجأون ويستخدمون العنف الذي يهدد حياة مواطنين مسلمين ويهود على حد سواء”.
دوافع التصعيد.. بين الفعل وردة الفعل
الخطوات السريعة التي يسير بها مسار التوتر بين البلدين خلال الساعات الماضية فتحت باب التكهنات عن الأسباب الرئيسية والدلالات المحورية التي تعكسها تلك القفزات في وقت يفترض أن العلاقات بين حكومة بشر الخصاونة ونفتالي بينيت في أوج قمتها التي تجسدت في زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لعمان في مارس/آذار الماضي، بعد فترة فتور عاشتها تحت ولاية نتنياهو.
تهميش دور المملكة.. التفسير الأبرز في قراءة المشهد يتعلق بالرفض السياسي لعمّان لتهميش دور المملكة إزاء القضية الفلسطينية، وهو ما عبر عنه العاهل الأردني صراحة في 8 يونيو/حزيران 2021، حين قال خلال لقائه بشخصيات سياسية: “هناك مؤامرة (لم يحدد طبيعتها) كانت تُحاك لإضعاف الدولة الأردنية والقضية الفلسطينية، لكن تمكنا من التصدي لها”.
هذا التهميش عززته بعض المؤشرات الأخيرة التي شهدتها ساحة الصراع العربي الإسرائيلي أبرزها عدم دعوة المملكة لحضور القمة السداسية التي استضافتها دولة الاحتلال في منطقة النقب المحتلة (جنوب)، التي شارك فيها 6 وزراء خارجية عرب (مصر والإمارات والمغرب والبحرين و”إسرائيل” والولايات المتحدة)، التي عُقدت على مدار يومين، الأحد والإثنين 27 و28 مارس/آذار 2022، هذا بخلاف تجاهل حضور عبد الله الثاني للقمة التي عقدت في شرم الشيخ قبل 5 أيام فقط من قمة النقب بمشاركة الرئيس المصري وولي عهد أبو ظبي ورئيس الحكومة الإسرائيلية.
تقرأ عمّان الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة داخل المسجد ومحاولة تفريغه من المرابطين لإدخال المستوطنين تحت حماية الشرطة العبرية بأنه يأتي ضمن مخطط تهميش نفوذها الديني والسياسي
تهديد الوضع القانوني للقدس.. لم يكن تهميش دور الأوقاف الأردنية في فلسطين بمعزل عن مخطط التهميش السياسي، فهما وجهان لعملة واحدة، وهو ما تحاول الحكومة الإسرائيلية العمل عليه منذ عدة سنوات، إذ تبنت بعض السياسات التي تستهدف من خلالها تقزيم النفوذ الأردني على المقدسات الإسلامية في القدس وهو النفوذ الذي أقره القانون الدولي للحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني لتلك المقدسات وعلى رأسها المسجد الأقصى.
تقرأ عمّان الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة داخل المسجد ومحاولة تفريغه من المرابطين لإدخال المستوطنين تحت حماية الشرطة العبرية بأنه يأتي ضمن مخطط التهميش الديني، وهو المخطط الذي وصل قمته في أكتوبر/تشرين الأول 2021 حين أصدرت “محكمة الصلح الإسرائيلية” في القدس، قرارًا – هو الأول من نوعه – يسمح لليهود والمستوطنين بأداء طقوسهم الدينية في المسجد الأقصى.
وبدأت خطوات تلك المؤامرة رسميًا عام 2002 حين أخضعت “إسرائيل” عملية دخول السياح إلى المسجد لقبضتها المطلقة، عبر باب المغاربة الذي تهيمن على مفاتيحه منذ 1967، وفي العام التالي أجبرت الأوقاف الأردنية على غلق باب الرحمة التزامًا بقرار محكمة الاحتلال، وفي 2007 نزعت الحكومة الإسرائيلية صلاحيات الترميم من يد الأوقاف لتحتكرها هي، وكانت البداية بترميم أحد أبواب المسجد، لتفرض جدولًا زمنيًا يحدد مواعيد دخول المصلين لأداء الصلاة تمهيدًا لدخول اليهود والمستوطنين.
وعامًا تلو الآخر باتت المقدسات الإسلامية تخضع عمليات ترميمها وتجديدها وإدارتها والإشراف عليها حكرًا على السلطة الإسرائيلية فيما تراجع نفوذ وحضور الأوقاف الأردنية، الأمر الذي أثار حفيظة عمّان بصورة لافتة وكان أحد أسباب التوتر مع حكومة الاحتلال.
امتصاص الغضب الشعبي.. لأول مرة منذ سنوات يتطابق المزاج الشعبي مع الموقف الرسمي فيما يتعلق بالهجوم على دولة الاحتلال، فلطالما تصدت السلطات الأردنية للأصوات الشعبية الرافضة للتطبيع مع المحتل، ودخلت في مواجهات بعضها دامية مع الشارع بسبب دفاعها عن سياستها الخارجية إزاء التقارب مع “إسرائيل” لاعتبارات أمنية وسياسية واقتصادية.
السنوات القليلة الماضية شهدت عشرات التظاهرات الشعبية الرافضة للوضع المعيشي المتدهور في ظل الأزمة الاقتصادية التي تحياها المملكة، فقد طالب الشعب بإقالة الحكومة أكثر من مرة، وحملها مسؤولية الفشل في إدارة الملف الاقتصادي تحديدًا بعدما تزايدت معدلات البطالة وارتفعت نسبة الفقر، وفي بعض الأحيان اضطر العاهل الأردني للتدخل لتسكين الشارع الثائر.
هناك علاقة أمنية طردية بين الوضع في القدس والوضع في عمّان، فإن زاد التوتر في العاصمة المقدسة فلسطينيًا زاد كذلك في العاصمة الأردنية، والعكس صحيح
الوقوف عكس عقارب ساعة الشعب في الموقف العام من الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة في الأقصى، ربما يزيد من حالة الاحتقان، بالنظر إلى الوضعية المعيشية الحرجة، وعليه فإن تبني خطاب سياسي متصاعد ضد حكومة بينيت سيكون له صداه على العلاقة بين الديوان الملكي والشارع الأردني.
وفي سياق آخر، فإن هناك علاقة أمنية طردية بين الوضع في القدس والوضع في عمّان، فإن زاد التوتر في العاصمة المقدسة زاد كذلك في العاصمة الأردنية، والعكس صحيح، وهو ما يدفع الديوان الملكي لبذل كل الجهود لضمان عدم خروج الوضع في القدس عن السيطرة حفاظًا على استقراره الداخلي.
علاقات متأرجحة
منذ توقيع معاهدة السلام بين البلدين (وادي عربة) عام 1994، والعلاقات الإسرائيلية الأردنية تشهد موجات متلاطمة من التوتر بين الحين والآخر، مرجعها الأساسي الفجوة الكبيرة بين الموقف الرسمي البرغماتي الذي يحاول المواءمة في ضوء حزمة من الحسابات والاعتبارات، والإرادة الشعبية الرافضة تمامًا لتلك الخطوة في ظل استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية.
وقد مرت العلاقات بين البلدين بالعديد من المحطات التي أفقدت كل طرف الثقة في الآخر وعززت من مشاعر الاحتقان والتربص، أبرزها ما حدث عام 1997 حين حاول الموساد الإسرائيلي اغتيال زعيم حركة المقاومة حماس في العاصمة الأردنية، تلاها حادثة مقتل القاضي الأردني رائد زعيتر عند معبر جسر الملك حسين بين الضفة والأردن على أيدي الإسرائيليين عام 2014 بسبب اعتراضه على إجراءات التفتيش، وقبل ذلك عام 2009 حين زودت تل أبيب الأردنيين بمياه ملوثة.
إن تناغم الموقف الرسمي ابتداءً مع المزاج الشعبي، فإن ذلك لا يعني الاستجابة للطلبات المرفوعة وعلى رأسها مثلًا الانسحاب من اتفاقية التطبيع وإلغاء الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين البلدين
وفي عهد بنيامين نتنياهو توترت الأجواء بصورة أكثر ضراوة، بلغت حدتها في يوليو/تموز 2017، حين قتل موظف أمن في السفارة الإسرائيلية في عمّان موظفين أردنيين بإطلاق النار عليهما، وهو الحادث الذي كانت له تبعاته الحادة على أجواء تلك العلاقة، تصاعدت الأمور مع التضييقات التي فرضتها سلطات الاحتلال على الزيارة التي أعلن عنها ولي العهد الأردن، الأمير الحسين بن عبد الله، للمسجد الأقصى، ما دفع الجانب الأردني لإلغائها.
وبالتزامن مع تأرجح العلاقات الرسمية بين البلدين كان الشارع الأردني الأكثر حضورًا في المشهد، فمنذ اليوم الأول لتوقيع اتفاقية وادي عربة كان الرفض التام للتطبيع والاتفاقيات المبرمة مع دولة الاحتلال هو الشعار الأبرز للمواطن الأردني الذي يرى في التقارب مع المحتل خيانة للقضية الفلسطينية.
وشهد الشارع الأردني خلال السنوات العشرين الماضية مئات التظاهرات المنددة بالتطبيع والمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي وقطع العلاقات مع دولة الاحتلال، وهو الحراك الذي قوبل في الغالب بالقبضة الأمنية المشددة من السلطات الأردنية التي كان لها حساباتها الخاصة في استمرار تلك العلاقات.
في ضوء المعطيات السابقة فإنه ورغم هذا التصعيد، هناك خطوط حمراء من الصعب تجاوزها، وإن تناغم الموقف الرسمي ابتداءً مع المزاج الشعبي، فإن ذلك لا يعني الاستجابة للطلبات المرفوعة وعلى رأسها مثلًا الانسحاب من اتفاقية التطبيع وإلغاء الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين البلدين، وعليه فإن كل التحركات الأردنية الأخيرة تأتي في إطار الضغط – ليس إلا – على الحكومة الإسرائيلية لإثنائها عن موقفها التصعيدي الأخير في القدس.