ترجمة وتحرير: نون بوست
بالنسبة للمدنيين في الصراع طويل الأمد في جنوب آسيا، فإن الصور على الإنترنت لها عواقب وخيمة.
بعد أن نجت من هجوم صاروخي تركها مغطاة بجروح من الشظايا، وكان من الممكن أن يقتل طفلها الرضيع، أرضعت أم أوكرانية ابنتها الصغيرة في مستشفى في كييف، وعندما التقط مصور إخباري صورتها، سرعان ما انتشرت على الإنترنت كالنار في الهشيم.
أصبحت الصورة بالفعل أيقونة للدمار الذي عانى منه الأوكرانيون في الحرب. لكن بعد سنوات من الآن، ما الذي ستعنيه لتلك الأم وطفلتها؟ تدوم صور البالغين والأطفال المتأثرين بشدة من العنف في الذاكرة العامة والشخصية، وتبقى مخزنة للأبد على الانترنت بينما تعود للظهور بين الحين والآخر.
على بعد آلاف الأميال، في كشمير – موطن أحد أطوال الصراعات في العالم – يمكن أن يكون التأثير طويل المدى لصورة مثل تلك عنيفًا بالنسبة لشخص فردي. ويمكن أن تكون العواقب مغيرة للحياة.
لنأخذ في عين الاعتبار محنة فاروق دار التي حدثت في سنة 2017، بعد الإدلاء بصوته في انتخابات عنيفة أدت إلى إشعال شرارة العنف العام، اشتهر ضباط الجيش الهندي بالقبض على الرجل الكشميري البالغ من العمر 33 سنة، حيث ضربوه ثم قيدوه بمقدمة سيارة جيب، والتي قادوها لمسافة 17 ميل و”دار” مربوطًا بإطار السيارة الاحتياطي، واستخدموه بشكل فعال كدرع بشري في منطقة النزاع، حيث كان الجيش معرضًل للهجوم.
عندما توقفت السيارة؛ التقط ضباط الجيش صورًا لـ”دار” بأنفسهم، حتى عندما توسل ألا يتم تصويره؛ حيث يتذكر دار قائلًا “في تلك اللحظات، شعرت بأنني لم يكن يجب أن أكون موجودًا في هذا الكون”. وانتشرت الصور على الفور على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأثارت الصور غضبًا مهيبًا، لكن الجيش الهندي دافع عن أفعاله، كما فعلت الحكومة، وباع أنصار حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم قمصانًا تضم صورًا للواقعة، وتحمل تعليقًا: “الجيش الهندي ينقذ م****، سواء أعجبك ذلك أم لا!” بل وأعيد تمثيل الحادث في فيلم بوليوودي.
أخبرني “دار” في مقابلة مؤخرًا: “كانوا يجنون المال من مأساتي. استخدمني الهنود بفظاعة”، وأضاف: “عندما التقطوا صورتي ورفعوها على الانترنت، أظهروا للعالم مدى شجاعتهم غير مبالين بكيف سيدمر هذا حياتي”.
الصراع السياسي طويل الأمد في كشمير
بدأ الصراع في وادي كشمير في سنة 1947 بسقوط الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية والانبثاق اللاحق للهند العلمانية نسبيًا، وباكستان، وهي موطن ينشده المسلمون الذين يخشون هجوم الأغلبية الهندوسية. تم منح أقاليم مثل كشمير الخيار، على الأقل على الورق، بالانضمام لأي من السيادتين. سقطت كشمير في مستنقع: فقد كانت – ولا زالت – بالدرجة الأولى مسلمة لكنها كانت محكومة من مستبد هندوسي والذي انضم إلى الاتحاد الهندي بشروط موعودة، قدمها أول رئيس وزراء للهند، باستفتاء عام والذي فيه يقرر سكان المنطقة أي بلد يريدون الانتماء إليه، لكن الاستفتاء لم يحدث قط.
عاش الكشميريون منذ ذلك الحين أجيالًا من الصراع السياسي وعدم اليقين، مع استمرار الكثيرين في المطالبة بحقهم في تقرير مصيرهم من نيودلهي غير المبالية، وقوبل تحديهم بالوجود المتفشي للجيش الهندي؛ وحظر التجول الشامل وإغلاق المواصلات؛ والعزلة الاقتصادية؛ والقتل والتعذيب غير القانوني؛ وقائمة طويلة من انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى.
“لا يمكنني الاختباء”
في البداية لم يكن لدى “دار” أدنى فكرة أن صور الحادثة انتشرت؛ حيث كان الإنترنت مغلقًا في كشمير، كما هو الحال عادةً. وعندما عاد الاتصال، اكتشف “دار” أنه أصبح معروفًا بـ”الدرع البشرى” – وهو لقب مازال عاجز عن الهروب منه، حتى بعد مرور خمس سنوات – فقد تعرف عليه الناس في كل مكان، وأصبح فجأة غير قادر على إيجاد وظيفة، أو حتى امرأة للزواج، فكل الزوجات المحتملات ضعفت أعصابهن مما حدث له، وفي النهاية – بعد سنة – تزوج “دار” من امرأة من قطاع جامو في ولاية جامو وكشمير، والتي لم تكن على دراية بما حدث له، وهو يخفي القصة عنها حتى الآن.
حاول “دار” الانتحار، وفكر في الهروب من كشمير وبدء حياة جديدة، لكنه خشي أن ذلك لن يكون كافيًا؛ حيث قال: “لا يمكنني الاختباء. هذا ما يفعله الإنترنت بك. مشاركة واحدة ويعرفك كل العالم”، مضيفًا: “[طالما] الإنترنت موجود، ستظل هذه الصورة. كادوا أن يقتلونني ذلك اليوم لكنني نجوت”.
مطارد منذ سن مبكرة
ليس “دار” وحده تمامًا في تلك المعاناة؛ حيث عانى فازيان صوفي من تلك الصدمة النفسية لسنوات، فعندما كان في الثانية عشر، اعتقل بتهمة الشغب، بعد أن ظهرت صورة له وهو يقذف الحجارة على الإنترنت؛ حيث قال: “كنت صغيرًا جدًا. كان خطأً وعدنا أنفسنا بألا يتكرر أبدًا”.
وبعد بضعة أيام من اعتقاله؛ بينما كان يتم نقل صوفي من المحكمة إلى منشأة للأحداث، جهش بالبكاء هو وأخته الصغرى بينما تشبثت بذراعه، والتقط صحفي هذه اللحظة، وسرعان ما انتشرت الصورة على الإنترنت، وعلى الرغم من أنها خلقت موجة من التعاطف تجاه أولئك الأطفال وانتقادات حادة للحكومة في ذلك الوقت، إلا أن الصورة طاردت صوفي حتى سن الرشد.
فخلال السنوات العشر التي تلت الحادث؛ اعتُقِلَ صوفي خمس مرات أخرى، وبعد أن اعتقلته الشرطة في الحرم الجامعي، قرر الانقطاع عن الدراسة، بعد أن تخلى عنه أصدقاؤه. ومثلما حصل لـ”دار”، لم يتمكن صوفي من العثور على عمل، ولا يزال يتصارع مع الاكتئاب والأرق؛ حيث يقول: “على مر السنين، لقد أراني الناس صورتي عدة مرات. وعلى الرغم من أنني أعلم أنني لم أفعل أي شيء خاطئ، إلا أنه شعور مؤلم”.
أحد أصغر الأشخاص الذين يواجهون هذا التحدي هو صبي كشميري يبلغ من العمر خمس سنوات، أصبح مشهورًا بعد تصويره قبل عامين جالسًا بجانب جثة جده، الذي قتل خلال تبادل لإطلاق النار من معركة مسلحة اندلعت في مدينة سوبور الشمالية. يحاول أفراد عائلة الصبي الآن الحدّ من استعماله للإنترنت، لمنعه من العثور على صورته، وقد أخبروني أنهم كانوا يفضّلون لو قام ملتقط الصورة بحجب وجه الصبي قبل أن يتشاركها مع العالم.
وقال عم الصبي: “نحن متأكدون أنه إذا رأى صورته يومًا ما، فستعود إليه جميع ذكريات ذلك اليوم التي ما يزال غير قادر على فهمها”.
من يحق له أن يصبح منسيًّا؟
هذه ليست ظاهرة جديدة، فقد خلّفت الصورة التي التقطها نيك أوت عام 1973 بعنوان “رعب الحرب” (المعروفة أيضا باسم “فتاة نابالم”) التي تظهر فتاة عارية تصرخ هاربة من هجوم نابالم في فيتنام الجنوبية، آثار مماثلة. وفي هذه الحقبة الرقمية، تنتشر مثل هذه الصور بسرعة البرق، وغالبًا دون الخضوع لتدقيق المحرر.
وقالت أنورادا بهاسين، رئيسة تحرير صحيفة “كشمير تايمز”، إحدى أقدم الصحف في جامو وكشمير، إن الصحفيين بحاجة إلى التفكير في مخاطر تحميل صور الضحايا، حيث تتسائل: “بأي حق ننشر تلك الصور، وفي أي سياق؟”
في المقابل، تقر بهاسين بأن هذه المشكلة لا تقتصر فقط على الصحفيين، إذ أن طبيعة الشبكات الرقمية، التي تمكّن أي شخص من نسخ ومشاركة أي صورة أو مقطع فيديو بسهولة، تضمن عدم اختفاء أي محتوى أو قدرته على الظهور من جديد بطريقة أو بأخرى. في الواقع، لا يوجد حلّ مؤكّد بالنسبة لهؤلاء الأشخاص مثل صوفي أو دار، لكن تدخل المحاكم أو شركات الإنترنت الرئيسية من شأنه أن يحدث فرقا، من خلال تقليل وتيرة نشر الصور أو حتى حظر توزيعها.
ويشير أبار غوبتا، الخبير القانوني الهندي والمدير التنفيذي لمؤسسة حرية الإنترنت، إلى “حق الناس في أن يصبحوا منسيين” ضمن قانون الخصوصية وأمن البيانات في أوروبا، والنظام الأوروبي العام لحماية البيانات. يتيح القانون لأي شخص أدين بجريمة سابقة، وأتم عقوبته أو أثبتت براءته، المطالبة بمحو بياناته الشخصية، حيث صمّمت شركات مثل غوغل أنظمة رئيسية لمعالجة مطالب “الحق في أن تُنسى” في أوروبا.
على الرغم من أن بعض الولايات القضائية الأخرى تمتلك أطر قانونية تساعد الناس على تأكيد حقهم في التصرّف في صورهم، إلا أن معظم البلدان، من بينهم الهند، لا تملك قوانين شاملة لحماية البيانات قد تساعد الأشخاص الذين يواجهون هذه المواقف.
وذكر غوبتا أن “الحق في أن تُنسى” يتطلب تعريفًا أكثر وضوحًا مما يوجد في الكتب في أوروبا، والذي يمكن أن يساء استخدامه من قبل أصحاب السلطة، والسياسيين على وجه الخصوص، الذين يسعون إلى تطهير الإنترنت من المعلومات التي يمكن أن تضر بسمعتهم. وأضاف غوبتا أنه: “في الوقت الحاضر، يتم التقاضي بشأن هذا الحق في العديد من القضايا في الهند؛ حيث يطالب الناس بإزالة بياناتهم الشخصية من نتائج محرك البحث بخصوص القضايا التي يشاركون فيها”.
وفي الهند، قُدم مشروع قانون حماية البيانات الذي يتناول حق الشخص في أن يُنسى في البرلمان في عام 2019. وعلى الرغم من طرح مقدمي الالتماس لقضايا حماية البيانات في محاكم متعددة، إلا أنه لا وجود لنظام أساسي يدعم القضية بعد.
الإنترنت لا ينسى أبدا
تلعب منصات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيس بوك ويوتيوب، دورًا أيضًا كموزعين رئيسيين لهذه الأنواع من الصور، لكن لا توفر أي من الشركات الرائدة آلية تخدم الأشخاص الذين يطلبون بإزالة صورهم من هذه المواقع، ما لم تنتهك الصور بالفعل قواعد محتوى المواقع، مثل العري والعنف غير المبرر. ولا تندرج الصور المعنية في هذه الفئة، بل السياق الذي التقطت فيه هو ما يجعلها قوية جدًّا.
وقال مكنون واني، خريج وارد في معهد أكسفورد للإنترنت، إن المخابرات الاصطناعية والمشرفين البشريين في شركات التواصل الاجتماعي قادرون على حظر المحتوى والحد بشكل كبير من تداولها، وأضاف: “إن مشغلي الإنترنت، وشركات وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرهم من المشرفين على المحتوى قادرون على الحد من الوصول إلى ذلك المحتوى، وبإمكانهم محاولة تحقيق ذلك بأكبر كفاءة ممكنة لمنع أي من مستخدمي الإنترنت من الوصول إلى هذا المحتوى، وبالتالي عدم عرضه بتاتًا أمام الطفل أو الشخص الذي قد يصاب بصدمة بسبب تلك الصورة أو الفيديو”.
وفي حال سمحت شركات وسائل التواصل الاجتماعي للمستخدمين بإزالة المحتوى المراد إزالته بناءً على هذه الأسس، فقد تساعد بالتالي في تقليل الآثار الطويلة المدى لهذا النوع من الصور، ولكن لا يوجد مؤشر على أن هذا الأمر سيتحقق في أي وقت قريب.
وحدّثتني العالمة في علم النفس السريري، زويا مير، التي تعيش في كشمير، عن التأثير السلبي الذي تخلّفه مثل هذه الصور على الصحة العقلية للأشخاص في هذه الحالات، الذين شهدوا بالفعل صدمة خطيرة. ويتمثّل التحدي – خاصة بالنسبة للشباب مثل صوفي – في العثور على وسيلة تمكّنهم من المضي قدمًا، ولكن بالنسبة للأشخاص المتواجدين في مناطق الصراع، تصعّب الإنترنت هذه الإمكانية. وقالت مير في هذا الشأن: “من خلال نشر صورة على الإنترنت، فإننا نرفض فكرة انتهاء شيء ما في الواقع. ونجعله في المقابل راسخًا إلى الأبد”.
المصدر: كودا ستوري