ستجري روسيا تقويمات هيكلية على اقتصادها الذي يمرّ بضائقة غير مسبوقة، فيما يتمنى الغرب أن يعلن الاقتصاد الروسي إفلاسه قريبًا، زاعمًا أن ذلك مسألة وقت لا غير، كما تستعدّ دول أوروبية لفرض عقوبات جديدة، تستهدف القطاعَين المصرفي والطاقوي بعد تطوير آلية جديدة تسمح بإدماج النفط الروسي ضمن ترسانة العقوبات الاقتصادية.
تضخم غير مسبوق والاحتياطي ينفد قريبًا
بلغ مستوى التضخم في روسيا أعلى مستوياته منذ 20 عامًا، إذ ارتفع إلى 16.7% وفقًا لمؤشرات مارس/ آذار 2022، أول شهر كامل من الحرب الروسية على أوكرانيا، التي يسمّيها الكرميلن بـ”العملية العسكرية الخاصة”، ونتيجة لذلك أدّى تقلب الروبل، في خضمّ العقوبات المتشددة، إلى ارتفاع حادّ في أسعار كل شيء تقريبًا، بما في ذلك المواد الغذائية والألبسة والأجهزة الإلكترونية.
ولا تزال مخاطر الاستقرار المالي قائمة، حيث سيستمر التضخم السنوي في الارتفاع، ومع ذلك تشير بيانات البنك المركزي الروسي إلى تباطؤ في معدلات نمو الأسعار، بما في ذلك سعر صرف الروبل، فيما يواجه الاقتصاد الروسي ظروفًا خارجية صعبة، تقيّد النشاط المالي والتجاري بشكل كبير.
قريبًا سوف تنفد احتياطات البنك المركزي، ليبدأ بعد ذلك التحول الهيكلي والبحث عن نماذج أعمال جديدة، وفي الوقت نفسه لن يتدخل البنك الروسي لتقليل التضخم مهما كانت الوسيلة، لأن ذلك من شأنه إعاقة تكيُّف الأعمال مع الظروف الجديدة، وفقًا لتصريحات رئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، مؤكدة أن اقتصاد بلادها يدخل منعطفًا عصيبًا من التغيرات الهيكلية بسبب العقوبات.
حارسة خزائن روسيا أوضحت أن الارتفاع المفاجئ في أسعار السلع الاستهلاكية سوف يرتبط أساسًا بانخفاض العرض، مع ذلك لا يجب أن يخرج التضخم عن نطاق السيطرة، ما يؤدي إلى انخفاض الدخل والمدخرات، فيما يتوقع البنك المركزي العودة إلى المعدل المستهدف للتضخم المحدَّد في 4% خلال عام 2024.
بموجب العقوبات التي قامت بتجميد نصف احتياطات النقد الأجنبي، يستطيع البنك الروسي التصرُّف فقط بالنصف الآخر المتبقي، الذي يقدَّر في مجمله بـ 609.4 مليارات دولار، بما فيها أصول الذهب واليوان الصيني اللذين لا يخضعان لمخاطر العقوبات، ومع ذلك يبقى حجم العملات الاحتياطية محدودًا، بعدما اتخذت العديد من البلدان التي تصدِّر السيولة النقدية الأجنبية إجراءات غير ودية ضد روسيا.
إلى حدود اليوم، يجدُ صنّاع القرار المالي في روسيا صعوبة في تحديد آفاق الذهب واحتياطات النقد الأجنبي، حيث إن العقوبات المفروضة على البنوك والشركات الروسية منعت في الغالب الاقتصاد الروسي من التعامل بالعملات الاحتياطية، بالتالي على السلطات المالية أن تتحرك، بعدما مهّدت الطريق لتقليص الميزانية العمومية من خلال خطة التقشف، حيث ستحتاج ربما إلى تنفيذ هذه الخطة على نحو أقسى خلال الفترة المقبلة.
مدة الصمود محدودة
تشير أسوأ السيناريوهات إلى أن الاقتصاد الروسي سوف يصمد لشهور فقط، على خلاف ما ادّعته روسيا، بأنها حصّنت اقتصادها جيدًا ضد العقوبات خلال 8 سنوات، أي منذ اجتياح شبه جزيرة القرم وضمّها إلى الكيانات التابعة للاتحاد الروسي، إذ بدأ الغرب فعليًّا في امتشاق الأسلحة الاقتصادية، حيث توالت العقوبات التي دفعت الروبل الروسي إلى الانهيار دون أن تترك له مجالًا للتعافي.
كل يوم يزداد الوضع الاقتصادي سوءًا، ووفقًا للخبير الاقتصادي الروسي فلاديسلاف إينوزيمتسيف، سيفشل الاقتصاد بنسبة 15%، ولن تهدأ موجة التضخم إلا بحلول عام 2024، وعلى الجميع التكيُّف مع حالة الطوارئ العسكرية، رغم أنه لم تتضح بعد كيفية هذا التكيف.
كما أوضح إينوزيمتسيف قائلًا: “افترض أنك سقطت من الطابق الثالث، وتعرضت لكسر 4 عظام، فإنه يمكنك أن تتعالج.. لكن على ما يبدو أننا ما زلنا نطير في السماء، وعواقب السقوط ما زالت غير واضحة بعد”.
لم تظهر بالكامل نتائج العقوبات الاقتصادية على روسيا، لكن على مستوى سوق العمل بدأت الشركات الروسية في تخفيض عدد العمالة، كما حذّر الخبراء الاقتصاديون من انهيار الأجور وتفاقم حاد في البطالة إذا استمرَّ الوضع على حاله، فمنذ بدء الغزو الروسي في فبراير/ شباط الماضي، لم يمرَّ يوم واحد لم تعلن فيه الشركات الغربية عن انسحابها من السوق الروسية أو تعليق عملها أو إنهاء إمدادات السلع، ونتيجة لذلك تتوقع مجلة “فوربس” أنه بحلول نهاية عام 2022 سيفقد أكثر من 600 ألف روسي وظائفهم، وقد يصل معدل البطالة إلى 10% بحلول شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل إذا لم يتمَّ اتّباع تدابير الدعم الحكومية الفعّالة.
عقوبات ذات حدَّين
للعقوبات الواسعة النطاق عواقب وخيمة، ليس على روسيا فحسب ولكن على العالم بأسره، حيث يستعدّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتنفيذ عقوبات اقتصادية جديدة تستهدف تقييد موارد الطاقة الروسية، وتحديدًا النفط، من أجل وقف تمويل العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بينما في المقابل ادّعى نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، “أنه لن يتمكن أحد من عزل روسيا وخنق اقتصادها بمساعدة العقوبات”.
في الواقع، يواجه الكرملين خيارَين كلاهما صعب، إما دعم الاقتصاد وإما تمويل العمليات العسكرية، في الوقت الذي تزيد الولايات المتحدة وحلفاؤها من تشديد العقوبات، وحتى لو انتهت الحرب فإن الغرب سوف يستمر في تعميق عزلة روسيا، فقد قالت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين: “تحلوا بالهدوء حتى ينهي بوتين الحرب الوحشية التي اختارها، وستعمل إدارة بايدن مع الحلفاء لدفع روسيا إلى مزيد من العزلة الاقتصادية والمالية والاستراتيجية”.
هذه العقوبات ذات حدَّين، صحيح أنها ألحقت ضررًا كبيرًا بالاقتصاد الروسي، ولكن عددًا من الشركات والمؤسسات المالية الغربية المرتبطة بروسيا تعاني من تقلبات هي الأخرى، خصوصًا ألمانيا التي كانت تمارس نشاطًا تجاريًّا موسّعًا مع روسيا، ومع ذلك قررت تعليق اعتماد خط أنابيب “نورد ستريم 2″، الذي كان من المتوقع أن يضخَّ لها غازًا روسيًّا بتكلفة أقل وفي وقت أسرع.
في الغالب سوف تتمادى روسيا في ركوب عنادها، غير مبالية بهذه الترسانة الانتقامية التي اعتادت عليها من الغرب لسنوات، حيث في وقت سابق سخرَتْ روسيا من غريمها الأمريكي عندما وصفته بـ”مدمن العقوبات”.