“من الحزم سوء الظن بالناس” هذا مأثور علائقي قالته العرب وهو جدير بالتدبر ويمكن استعماله سياسيًا، وأجد من الحكمة والنباهة استعادته في سياق سياسي تونسي يستعيد السيد نجيب الشابي ويقدمه كمفتاح لحل معضلة الانقلاب وما بعده، إذ تصبغ على الرجل هذه الأيام صفة الزعيم السياسي الوطني قائد المعارضات المتتابعة ضد الديكتاتورية الذي يتحلى بحكمة بالغة وسداد نظر كفيل بإخراج البلد من أزمته.
في هذه الورقة أعبر عن حقي في نقد الرجل وسيرته، وفي التعبير عن حذري من حلول سياسية عجولة ترمم ولا تؤسس، بدعوى أن الأمر يستدعي الإسراع في لملمة الوضع قبل انفراطه بما يفعله الانقلاب بمؤسسات الدولة.
نعم ولكن
لا يضار السيد الشابي برذيلة التعامل مع جهة أجنبية طيلة مسيرته السياسية، لكن لم يوضع عليه يومًا فيتو فرنسي أو غربي مثلما وضعت فيتوات كثيرة على المرزوقي والغنوشي وحتى عبد الفتاح مورو، فهو مقبول دومًا بشكل ما، وإن لم يتلق فيما نعلم دعمًا ماديًا يمكنه من السلطة، فهل نحسب له هذا الطهر السيادي أم نتساءل عن سر عدم الاعتراض عليه؟
هل كان دومًا جنرال احتياط في مشهد بلا زعامات مقبولة غربيًا؟ أرجح أنه كان دومًا في حالة انتظار دعم (خارجي) يقدمه على غيره ويسرّبه للموقع الأول من تحت غطاء الاعتراض على الشخصيات ذات المواقف الجذرية وفي مقدمتهم الدكتور المنصف المرزوقي.
إذا كان السيد الشابي اليوم في المشهد فلأن هناك عرفًا سياسيًا فاسدًا يقول بعدم تصدر شخصية إسلامية (ليس بالضرورة الغنوشي) لموقع رئاسي، وهذا الموقف ليس موقفًا نابعًا من القاعدة الناخبة وإنما هو فرض خارجي رُوّج له حتى صار مسلمة سياسية تونسية، والسيد الشابي لم يعترض عليه أبدًا ولم يره تدخلًا في الشأن الوطني الداخلي، بل نراه يغتنمه ليقول للإسلاميين: أنتم غير مقبولين وأنا أصلح لتغطية الرفض، دون أي سؤال منه عن مبدأية أن تتدخل قوى أجنبية فتضع أعرافًا وقيودًا على مشهد سياسي لا دخل لها فيه قانونيًا وسياسيًا.
في صورة الغنوشي والشابي يبرمان اتفاقًا بشأن المستقبل أقرأ ما يلي: “قدموني وقفوا ورائي لأنكم غير مقبولين دوليًا واشكروا فضلي إذ أسوقكم للعالم”، ولو دقق لقال فرنسيًا ولكن لماذا؟ الإجابة تعني موتًا سياسيًا للسيد الشابي، نعم إنه لا يتخابر مع جهة أجنبية لكن الجهة الأجنبية تفتح له الطريق وتغلق على منافسيه المحتملين.
لقد سميت هذا الموقف الخبيث في نصوص سابقة الاستئصال الناعم “السوفت” الذي يستفيد من الاستئصال “الهارد” الذي مارسه خاصة اليسار المتطرف، هل هو توزيع أدوار بين الاستئصاليين، احتفظ بحقي المواطني في رؤيته كذلك، فنتيجته استئصالية وإن تنكر في خطاب ديمقراطي.
التذلل النهضوي يدمر الديمقراطية
كثير من الخطباء والكتاب يروجون لفكرة التنازل التاريخي الذي على حزب النهضة تقديمه كتسبقة منه أو ضريبة لبناء الديمقراطية، وهذا الطلب يعتمد على نفس الروح الاستئصالية التي كرست فكرة خاطئة وهي أن كل سوءات الحكم قبل الانقلاب سببها النهضة وبالتالي فقد صارت غير صالحة للحكم وعليها الاختفاء من المشهد.
لكن أغلب هؤلاء يطلبون من النهضة أن تدعمهم بجمهورها المتماسك والمنضبط وأن تهيج الشارع ضد الانقلاب، حتى إذا سقط تنازلت لهم عن كل مشاركة مع ضرورة أن تقر على نفسها بخراب ما قبل الانقلاب وتتحمل كلفته وحدها بما يعنيه ذلك من ثمن على المستقبل، فمثل هذا الإقرار يعني أن لا عودة للعمل السياسي ولو بعد دهر طويل، إنهم يطلبون منها الموت السياسي الآن وغدًا وأبدًا وليس تنازلات تبني مشتركات يكون للنهضة فيها قسط يعادل قوتها في الشارع.
المريب في المشهد أن حزب النهضة يظهر استعدادات غريبة للقبول بصفقة على حسابه، ويقبل بسوم مشاركته للانقلاب سومًا بخسًا، وإذا كنا لا نملك أن نتدخل في أمور الحزب الداخلية التي تصلنا منها الأصداء، فإننا نملك أن نقول إن هذه الذلة تشكل خطرًا على الديمقراطية.
إن تراجع النهضة أمام المطلبية الاستئصالية يعني تسليم البلد إلى قوى هشة (ليست أكثر من زعامات بلا قاعدة مثل السيد الشابي)، وهذا خطر جاثم على الديمقراطية، إذ ستكون ديمقراطية نخبة بلا شارع يسهل العبث بها مهما كانت قوة مقترحاتها.
هل هذا دفاع عن النهضة؟ لا أبدًا هذا دفاع عن ديمقراطية لا تبنى بتفضل أحد على أحد، خاصة على زعم ضمانة سلامته من الاستئصال دون السؤال عن سبب الاستئصال، وهذا من الحزم القائم على سوء الظن وهي حكمة
نقدر أن هذا الزعامات الهشة وبعد أن تدفع النهضة إلى الخلف أو تخرجها من الركح السياسي ستكون ضعيفة وفاقدة للسند الشعبي وهو ما لن يمكنها تألفيه أبدًا وسيكون من الصغار السياسي مستقبلًا أن تسارع هذه القوى (يفترض أن تكون في موقع حكم) إلى الاستنجاد بالنهضة في كل مصيبة تلم بها.
هل نقول للنهضة لا حق لك في التنازلات المطلوبة الآن وعليك مجابهة هذا الخطاب الإقصائي بالتصرف كصاحب حق في الحكم؟ إن تحويل الحزب تراجعه إلى واجب أخلاقي تجاه الديمقراطية يخدم به أصدقاءه هي عملية غش سياسي (لا مجال لحسن النية هنا).
سيكون القبول بالانسحاب (بشهامة فرسان أو بذلة عبيد) تخريبًا غبيًا لقاعدة الديمقراطية، وهذه هي القناعة التي تبلورت بعد حكم السنوات العشرة، الشارع يصوت للنهضة والنهضة تمنح الحكم لسياسيين هواة بلا قاعدة، وهو أهم سبب لانفضاض الناس من حول الأحزاب عامة ومن حول النهضة خاصة، ونرى النهضة وهي تقف خلف الشابي ووجوه أخرى كثيرة بلا قاعدة مواصلة لهذا الغش الذي سيكون أثره مدمرًا على ما بعد الانقلاب.
لست أقدم دروسًا
في تونس توجد موضة فكرية اسمها تقديم دروس سياسية لحزب النهضة، وقد يظهر المكتوب أعلاه جزءًا منها لكن النية لم تكن تقديم دروس لأحد، لكن اعتبر ما أتابعه (وما أشارك فيه) من مناورات توليف جبهة سياسية معارضة للانقلاب تتحايل فعلًا على الديمقراطية من منطلق استئصالي، تساهم النهضة في تدعميه بإظهار نوايا الاستسلام والطاعة لهذا الخطاب والممارسة.
نتحمس كمشاركين في العمل السياسي المشترك ونراه مخرجًا ديمقراطيًا ضروريًا ونطلب (بصفتنا ناخبين محتملين) أن تبلور القوى المتعاونة صورًا أوليةً للمستقبل تضمن مقادير نجاح واستمرار يعيد البلد إلى سكة القانون والمؤسسات، لكن نتحفظ بقوة (وهو ما نقدر عليه) على بناء هذه الجبهة/الائتلاف/القائمة الوطنية المشتركة (وهي مسميات رائجة) على غش وخديعة يغفل الأحجام والأدوار في الشارع أو يقدم تنازلات ظاهرها التضحية وباطنها الاستيلاء لاحقًا.
إنها شراكة إما أن تقوم على الوضوح وإما لا تقوم أبدًا، ونعتبر السيد الشابي بحكم ما يقدم له نفسه وبحكم ما يعول عليه أن يكون أكثر الشركاء صراحةً وألا يتعامل مع “شعب النهضة” كما تعامل معه المرزوقي أي كقوة ناخبة غبية يمكن أن تمن عليها بسلامتها من الذبح.
هل هذا دفاع عن النهضة؟ لا أبدًا هذا دفاع عن ديمقراطية لا تبنى بتفضل أحد على أحد، خاصة على زعم ضمانة سلامته من الاستئصال دون السؤال عن سبب الاستئصال، وهذا من الحزم القائم على سوء الظن وهي حكمة.