استبشر شعب جنوب السودان خيرًا حين حصل على استقلال بلاده وانفصالها رسميًّا عن السودان الأمّ في 9 يونيو/ حزيران 2011، متوهّمًا أن خارطة الثروات التي يمتلكها وفي المقدمة منها النفط، ستكون ضامنة له لحياة كريمة أفضل ممّا كان عليه تحت ولاية الخرطوم، غير أن الأمور وبعد 11 عامًا على الاستقلال لم تكن كما خُطِّط لها.
اليوم وبعد أكثر من عقد كامل على الانفصال غرق جنوب السودان في أتون الفقر والعوز، جرّاء الحروب الأهلية التي شهدتها الدولة الوليدة وأودت بحياة أكثر من 400 ألف شخص، فضلًا عن نزوح 1.6 مليون مواطن داخل مناطق متفرقة من البلاد، فيما اضطر أكثر من مليوني آخرين إلى الهجرة.
ورغم أنها واحدة من دول أفريقيا التي تتمتّع بموارد وثروات اقتصادية جيدة، إلا أن أكثر من 82% من سكانها البالغ عددهم 11 مليون مواطن يقبعون تحت مستوى خطر الفقر، فيما يعاني 60% منهم من الجوع جرّاء الحروب والنزاعات والفساد بحسب البنك الدولي.
وتبلغ مساحة جنوب السودان نحو 620 ألف كيلومتر مربع، فيما يترواح عدد السكان بين 10 و11 مليون نسمة، وتنقسم الدولة إلى 10 ولايات، تتّسم بالتنوع العرقي واللغوي، ومن بين أكبر الجماعات العرقية التي تهيمن على خارطة السكان الديموغرافية، الدينكا والنوير والشلك.
عصب الاقتصاد
يشكّل النفط عصب اقتصاد جنوب السودان الأبرز، إذ يمثّل نحو 98% من دخل البلاد، فيما يقدَّر متوسط إنتاجه اليومي بنحو 155 ألف برميل، مقارنة بما كان عليه قبل الاستقلال حين كان يتجاوز 600 ألف برميل يوميًّا، غير أن النزاعات والحروب التي خاضها خلال السنوات الأخيرة كان لها تأثيرها الكارثي على خارطة الإنتاج.
وفي المرتبة الثانية على رادار الاقتصاد، تأتي الزراعة التي تعدّ المجال الأكثر استحواذًا على الأيدي العاملة، رغم أن البلاد لا تستغل سوى 6% فقط من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة التي تتجاوز 90% من مساحة الدولة الكلية، وتشير التقارير إلى أن حجم الناتج المحلي الإجمالي بلغ نحو 3.7 مليارات دولار، بينما بلغ نصيب الفرد من الناتج القومي نحو 275 دولارًا.
ورغم نمو الاقتصاد العام الماضي بنحو 7.9%، وهو معدل جيد إلى حدّ ما، إلا أن معدلات التضخم ارتفعت لتصل إلى 60.8%، فيما بلغ معدل البطالة 12.7%، وإن كانت تذهب التقديرات غير الرسمية إلى أن تلك المعدلات أقل ممّا هي عليه على أرض الواقع، وهو ما تلمّح إليه مؤشرات الفقر والمجاعة.
ويعدّ النقل القطاع الأبرز في خارطة الاقتصاد، إذ يمثل نحو 10% من الناتج القومي، يليه قطاع التجزئة بنحو 9%، ثم التشييد بنحو 7%، وبعده الزراعة 3%، ثم الصناعة 2%، فيما تمتلك الدولة العديد من الموارد المعدنية غير المستغلة، والتي تمَّ استنزاف الكثير منها خلال فترة الحرب الأهلية الممتدة فترة 2013-2018.
أزمة إنسانية طاحنة
يعاني جنوب السودان من أزمة إنسانية طاحنة، وصفتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) بأنها الأسوأ حتى الآن، لافتة خلال الاحتفال بالذكرى العاشرة للاستقلال إلى أن أكثر من 300 ألف طفل دون سنّ الخامسة يواجهون خطر المجاعة، محذّرة من تفاقم الوضع إذا ما استمرَّ على المتوالية الحالية.
التقرير الذي أصدرته المنظمة أرجع حالة الفقر المدقع التي تحياها البلاد إلى ضعف البنية التحتية، والأزمات الاقتصادية الطاحنة، وتداعيات التغيُّر المناخي، بجانب جائحة كورونا التي عمّقت من الأزمة، فيما ترى الخبيرة في شؤون جنوب السودان، كليمنس بينود، الأستاذة المساعدة في كلية هاميلتون لوغار للدراسات العالمية والدولية بجامعة إنديانا، أن هناك “الكثير من الأخطاء” في هذه الدولة الوليدة.
وتحذّر العديد من المنظمات الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن الحقوقي والإنساني من تنامي الأزمة الإنسانية التي تواجه سكان جنوب السودان وتتصاعد عامًا تلو الآخر منذ الاستقلال وحتى اليوم، وهو الأمر الذي دفع الاتحاد الأفريقي ودول الجوار إلى فتح قنوات اتصال رسمية وغير رسمية مع الدولة الحديثة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل حدوث كارثة محققة قد تطيح بحياة عشرات الآلاف بسبب الجوع والعطش.
أم الكوارث
إذا كانت الحروب تعدّ معول هدم الاقتصاديات الكبرى، فكيف يكون الحال مع الدول التي تعاني من هشاشة اقتصادية؟ إذ استنزفت الصراعات الأهلية ما تبقّى من موارد جنوب السودان الاقتصادية، سواء كان ذلك عن طريق النهب أو سوء الإدارة أو كلفة الاحتراب الذي يتطلب أموالًا طائلة.
وشهدت البلاد حربًا أهلية شعواء على مدار 5 سنوات كاملة، في فترة 2013-2018، سقط فيها أكثر من 400 ألف قتيل، فضلًا عن نزوح الملايين، في الداخل والخارج، وما زال الحصاد المُرّ لتلك الحرب يخيّم على الأجواء حتى اليوم، إذ إن الملايين ما زالوا يعانون من آثارها.
وبنهاية تلك الحرب توقّع البعض أن الأمور ستعود إلى حالة الهدوء والاستقرار، غير أن مستويات العنف التي شهدتها بعد ذلك أصبحت “أسوأ بكثير” ممّا كانت عليه خلال الحرب، كما أشار التقرير الصادر عن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنوب السودان.
رئيسة اللجنة الأممية، ياسمين سوكا، في تعليق لها على التقرير، قالت إن العنف في البلاد ما زال مستمرًّا بسبب غياب العقاب والمحاسبة، معتبرة أن ما يحدث الآن لا يقلّ عمّا كان يحدث قبل عام 2018، حتى إن لم يرتدِ المتنازعون زيًّا عسكريًّا، إلا أن جميع طوائف الشعب والميليشيات والشخصيات الدينية قد تورّطت في هذا المستنقع.
وبطبيعة الحال انعكست تلك الحروب على الوضع الاقتصادي للبلاد بأكملها، ومن ثم الحالة المعيشية للمواطنين الذين يُزَجّون إلى الفقر بقوة دفع غير طبيعية، تلك القوة التي عزّزتها الكوارث الطبيعية من فيضانات وحرائق وتغيرات مناخية، حتى أن بعض المناطق بأكملها باتت على شفا المجاعة.
معمل الفقر الأكثر تخصيبًا
لو كان مكمن الأزمة الطاحنة التي تحياها البلاد الآن في العنف، لربما كان الأمل في تجفيف منابعها مستقبلًا، من خلال الحلول الدبلوماسية والسلمية، حلًّا واردًا للخروج من عنق الزجاجة؛ هذا لسان حال سكان جنوب السودان، غير أن ما يضفي اليأس أحيانًا على الشارع الجنوب سوداني هو تفشّي الفساد الذي تحول إلى سرطان ينخر عظم الدولة من كافة أركانها.
كشفَ التقرير الصادر عن المفوضية الأممية لحقوق الإنسان في البلاد عام 2020، عن تورُّط مسؤولين حكوميين في جرائم فساد هائلة، من غسيل أموال ونهب ثروات الدولة وتلقي رشاوي وتهرُّب ضريبي، فيما أشار التقرير إلى أن الفساد تحول إلى أداة رابحة في أيدي المسؤولين، حتى أنه أصاب “كل قطاع في اقتصاد البلاد وكذلك كل مؤسسة حكومية”.
وقد ساهم هذا الفساد في تجريف البلاد من ثرواتها فتحوّلت إلى أرض قاحلة يصارع أهلها عشرات الأزمات، فقط من أجل البقاء على قيد الحياة، فلا ينفكّوا من أزمة حتى يدخلوا في أخرى، وهكذا تحوّل جنوب السودان إلى ترس صغير في عجلة فساد كبيرة تقوده إلى مستقبل مجهول.
وفي أحدث تقارير مؤشرات الفساد الصادرة عن منظمة “الشفافية الدولية” عام 2021، جاء جنوب السودان أكثر بلدان العالم فسادًا، تليه سوريا والصومال، فيما كشف أن المسؤوليين الحكوميين والنخبة في البلاد يتمتّعان بمستوى عالٍ من الحصانة، ما يبعدهم عن المراقبة والمحاسبة، رغم الأدلة الموثّقة على سوء إدارتهم للمال العام والتسبُّب في إهدار موارد الدولة.
وبين مطرقة الحروب الأهلية القاسية وسندان الفساد الذي عشّش في خلايا الدولة وزواياها، يقبع شعب جنوب السودان في انتظار مستقبله الغامض، في ظلّ أوضاع معيشية كارثية، ومئات الآلاف على مشارف الموت جوعًا وفقرًا، في انتظار مرحلة فاصلة تخرج البلاد من عنق الزجاجة وتضعها على الطريق الصحيح بالتخلُّص من ثنائية الحروب والفساد.. فهل يمكن ذلك؟