غيّر نظام عبد الفتاح السيسي نظرة المصريين المعتادة لدراما شهر رمضان الكريم خلال السنوات القليلة الماضية، إذ كانت الدراما كما أثبتت السنوات ضمن خطة الدولة لضبط السردية السياسية في البلاد، التي تضمن بكل تأكيد الإجابة عن سؤال شرعية وصول السيسي نفسه للسلطة، بينما الخيانات والحماقات والكذب كانت من نصيب جماعة الإخوان المسلمين والكيانات المعارضة التي حاول السيسي إنقاذ مصر من بين أيديهم، كتجسيد جديد لمقولة السيسي “متسمعوش حد غيري”.
هذا العام بثّت القنوات المصرية التتمة الثالثة لسِباق “الاختيار” الذي بدأ في رمضان 2020، فبعد أن حققت النسخة الأولى نجاحًا معقولًا بسبب ما طرحته من معركة ملحمية قُتل فيها قائد الكتيبة 103 صاعقة بالجيش مصري، وبعد جلب التعاطف المطلوب، عرضَ الجزء الثاني وجهة نظر الدولة لما جرى في مجزرة فضّ اعتصام رابعة العدوية، ما فتح الباب مرة أخرى لعاصفة من الهجوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أُعيد معها نشر قصص ضحايا المجزرة وتذكير الناس بالمأساة المصوّرة بالصوت والصورة.
وتتّسم الإصدارات الثلاثة من “الاختيار” بفقدان التتابع الزمني، فمقتل المنسي وقع عام 2017، فيما وقعت مجزرة فضّ الاعتصام في أغسطس/ آب 2013، وتدور أحداث “الاختيار 3” في أعقاب ثورة يناير/ كانون الثاني ووصول الراحل محمد مرسي للحكم، وهي المرحلة التي صوّر المسلسل الدور “الكبير” الذي كان يلعبه السيسي في الخفاء، في محاولاته الدائمة لتخليص مصر من براثن حكم الإخوان.
سكتشات مضحكة للمبتدئين
ظهرت محاولات صنّاع العمل تصوير طهرانية السيسي ونقائه، بشكل كوميدي ومضحك ومدعاة للسخرية الشديدة، للدرجة التي دفعت صنّاع “الميمز/ الكوميكس” إلى نشر المقتطفات التي تنشرها المنصات التابعة للنظام دون أي تعليقات، فما التعليق “الكوميدي” الذي يمكن نشره على ممثّل يقوم بتقليد صوت الرئيس، المضحك في المقام الأول؟
ولم يكن صوت الممثل ياسر جلال المتكلف هو الوحيد المدعاة للسخرية من العمل، إذ إن الحوار المكتوب نفسه لا يمتّ للواقع الذي يعيشه المصريين بأي صلة، أو يثبت وجهة النظر المعارضة، فتجد صفحة قناة On تتفاخر بحوار ضابط المخابرات مروان الذي يلعب دوره الممثل أحمد عز، الذي يهدد بـ”سخرية” والدَ الفتاة التي يحبها باستدعائه لمقرّ الجهاز لمدة يومَين، ليجبره على الموافقة على زواجهما، في إشارة واضحة إلى العنف الذي يُمارَس داخل مقرّات الأجهزة الأمنية.
كما أثار الحوار في المسلسل حفيظة منصة “سيدات مصر” على الإنترنت، بسبب تحريضه على العنف ضد المرأة، في بلدٍ تجاوز فيه معدلات العنف ضد المرأة العام الماضي نسبة الـ 30%، حسب التقارير الصادرة عن المركز القومي للمرأة في مصر، بينما تؤكد تقارير حقوقية أخرى أن سيدة من كل 3 سيدات قد تعرضت للعنف الجسدي أو الجنسي في حياتها.
ويحظى “الاختيار” بتغطية يومية على كل المواقع الإلكترونية التابعة للنظام، إذ تجيَّش الكتائب الإلكترونية لنشر محتوى الحلقات بشكل مكتوب أو على هيئة مقاطع منتقاة من الحلقات في كل وسائل التواصل الاجتماعي، حتى تيك توك وإنستغرام.
ونتيجة السخرية أو الهجوم الذي تتلقاه المقاطع أو الاقتباسات المنشورة، تضطر صفحات الفيسبوك التابعة لتلك المنصات، شراء تفاعلات وهمية مع المنشورات من حسابات أغلبها آسيوية، لكن تلك الصفحات اضطرت لاحقًا لحذف المنشورات التي تفاعلت معها هذه الحسابات، بعد اكتشاف المتابعين لتلك الحيلة.
ليست محاولة السيسي الأولى
يبدو من الصورة التي ظهر عليها الممثل ياسر جلال، أن النظام مهتم بصورة السيسي في هذا العمل الدرامي بشكل يفوق العناية بباقي الشخصيات، عناية تجاوزت تقنيات التمثيل إلى الوصول لتجسيد كاريكاتوري لشخصية السيسي، في صوته ومشيته ونظراته وحتى حركة يديه، ما يؤكد الرواية المنتشرة أن فيلم “سرّي للغاية” الذي صُنع في وقت سابق، لم يعجب السيسي فتمَّ منعه من العرض ووصلت التخمينات إلى حتى حرق نسخه.
ويحكي الكاتب بلال فضل في فيديو له على قناته على يوتيوب عن فيلم “سرّي للغاية”، أن السيناريست الراحل، وحيد حامد، كتبه تحت اسم “أيام الغضب والثورة”، لكن الضباط المسؤولين عن الإنتاج قاموا بتغييره ليصبح اسمه لاحقًا “سرّي للغاية”.
هذا الفيلم الذي تحدثَت عنه الصحف المصرية في بدايات إنتاجه، نهايات عام 2017 وبدايات عام 2018، بأنه الإنتاج المصري “الأضخم” في تاريخ السينما المصرية، سرعان ما اختفت كل الأخبار المتعلقة به، ولم يبقَ منه سوى بعض الصور التي تُظهر الممثلين أحمد السقا وأحمد رزق وعبد العزيز مخيون، وهم يعلبون أدوار عبد الفتاح السيسي ومحمد مرسي والمشير طنطاوي، على الترتيب.
يقول فضل إن مشروع “سرّي للغاية” بدأ بحماسة شخصية من السيسي نفسه، لكن بعد كتابة السيناريو من قبل حامد، قامت الشؤون المعنوية بالتعديل على النص وتغيير اسم الفيلم، للدرجة التي دفعت حامد نفسه للإعلان بين أصدقائه أنه لم يكتب فيلمًا اسمه “سرّي للغاية”، نتيجة مقصّ الرقيب العسكري، وهي الرقابة التي امتدت إلى حدّ زيارة السيسي نفسه لموقع التصوير، وحديثه مع العاملين على الفيلم عن عظم الدور الذي يؤدّونه.
تسريبات بلا هدف.. وأسئلة
اعتمدَ صنّاع المسلسل على بثّ تسريبات تُذاع للمرة الأولى في نهايات الحلقات، للتدليل على ما تقدمه الدراما من أطروحات، فيجد المشاهد نفسه أمام مشهد درامي يدعمه مقطع وثائقي مسجّل، لكن بعد مشاهدة التسريبات التي بُثت، حتى كتابة هذا المقال، لم تدل التسريبات على ما يحاول المسلسل تصويره.
في نهاية الحلقة الثانية، وخلال لقاء جمع نائب مرشد الجماعة، خيرت الشاطر، بقيادة عسكرية، يحكي أنه يتواصل مع الجهات الأمنية في حال معرفته بأي حادث من شأنه أن يمسَّ أمن البلاد، بينما ينتقد قناة “الجزيرة” ويؤكد ضلوعها في مشروع مزعوم للفوضى الخلاقة.
ويحذّر الشاطر في حلقات لاحقة القيادات العسكرية التي كان يجتمع معها، من العنف الذي يمكن أن تمارسه جماعات السلفية الجهادية، وينقل معلومات وردته عن تحركات جهادية قد تثير القلق في البلاد.
كان للشاطر نصيب الأسد من التسجيلات، ورغم الساعات الطويلة التي تمتلكها الدولة بحقّه، إلا أن التسريبات هذه أظهرت رؤيته “الدولجية” إن جاز التعبير، فتجده يؤكد على أن الجماعة لا تريد الفوضى ولا العبث مع “إسرائيل” أو تهديد أمنها، لتجد نفسك تسأل: أليست هذه هي رواية الدولة نفسها؟ لماذا يقبع الرجل في السجن إذًا؟
السؤال نفسه يمكنك أن تطرحه حينما تشاهد الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية، والمسجون منذ عام 2018، في الحلقة الثالثة وهو يؤكد لأعضاء المجلس العسكري أنه في حال نزول أحدهم للانتخابات سيصوّت له بدلًا من التصويت لمحمد مرسي.
كما أنك تجد أبو الفتوح في الحلقة 14 يحذّر من وصول المتديّنين للحكم خوفًا على البلاد، لكن أليست رواية السيسي أنه خلّصَ مصر من حكم المتديّنين الذين ينتقدهم أبو الفتوح؟ فلماذا أبو الفتوح في السجن إذًا؟
وفي التسريب الأهم، حسب تصنيفات وسائل الإعلام، باعتباره كشفًا سيضرب المعارضة في مقتل، نرى الراحل محمد مرسي يحذّر طنطاوي من أن تزوير الانتخابات الرئاسية سيؤدي إلى حدوث فوضى في البلاد، لا الجماعة أو المؤسسة العسكرية لهما القدرة على تحمّل تبعاتها، وتسأل: هل من المفترض أن يقول مرشح رئاسي أن التزوير شيء مقبول؟
والمهم في هذا التسريب ليس ما قاله مرسي، بل في الصورة التي ظهر عليها السيسي بشكل حقيقي، بمشهد الـ”باش كاتب” الذي يدوّن فقط نقاط اجتماع لم يكن حضوره فيه مرغوبًا من الأساس، وهو خلاف ما حاول صنّاع المسلسل تصويره حتى في المشهد الذي سبق التسريب بثوانٍ قليلة، فلو كان هذا هو دور السيسي قبيل وصول مرسي للرئاسة، فكيف كان بعده؟
لن تجد إجابة عزيزي القارئ عن كل الأسئلة السابقة، كما لن تجد إجابة عن سؤال مدى قانونية فعل التسريب نفسه، وكيف لدولة أن تسمح لنفسها ببثّ اجتماعات سرّية حدثت بين أطراف مختلفة مصيرها اليوم هو السجن والقتل.
هذا السؤال لن يتمّ طرحه في مصر، لأن مفاهيم سرّية المعلومات والبيانات والحق في الخصوصية والقانون نفسه، تعتبر رفاهية في ظل القمع المستعر الذي تعيشه البلاد، ففي الوقت الذي يُقتل فيه المصريون داخل مقرات الاحتجاز ويعذَّبون، تصبح تلك الأسئلة ضربًا من الرفاهية.
لكن رغم سوء هذا الفعل، إلا أنه سمحَ ولو تحت المراقبة باستراق النظر على شكل الحوار السياسي في الغرف المغلقة في مصر ما بعد الثورة، وتلك حكاية أخرى.