في 28 مارس/ آذار 2021، طلب رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت من وزرائه فصل غزة والضفة الغربية المحتلة عن العمليات التي ضربت عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وعدم السماح بتعزيز الجبهات والساحات مع بعضها البعض.
وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة عمليات أوقعت عددًا من القتلى والجرحى في صفوف المستوطنين وجنود الاحتلال، ليقرر بعدها تنفيذ عملية أمنية أطلق عليها “كسر الأمواج”، في محاولة لمنع وقوع عمليات جديدة في العمق الإسرائيلي.
وسعى الاحتلال لذلك عبر خطوات سياسية واقتصادية وعسكرية، تمثّلت في لقاءات مع مسؤولين في السلطة وتسهيلات معيشية ذات طابع اقتصادي، وحملة اعتقالات هي الأكبر منذ فترة طويلة لاحتواء المشهد ومنع تشابك الحالة الفلسطينية.
وبرز في هذه الحالة نموذجا الانتفاضة الثانية “الأقصى” وهبّة القدس التي تزامنت مع معركة “سيف القدس”، والتي شهدت اشتعالًا للجبهات في غزة والضفة والقدس المحتلتَين إلى جانب الداخل المحتل عام 1948، وهو الأمر الذي أربكَ المنظومة الأمنية الإسرائيلية.
وتعكس السياسة الإسرائيلية تاريخًا طويلًا في محاولة منع تشابك الساحات الفلسطينية، وتشابه الواقع المعيشي لها، وخلق نظام جغرافي واقتصادي مختلف بين كل نطاق مكاني، لمنع حضور الجبهات مع بعضها في حال التصعيد والمواجهة.
حاول الاحتلال إشغال الداخل بجرائم القتل والإغراق بالسلاح ضمن خطة قام عليها “الشاباك”، بتواطؤ من شرطة الاحتلال التي لم تتصدَّ لأي من هذه الجرائم
وإلى جانب ذلك، عمد الاحتلال منع اتصال هذه القطاعات ببعضها البعض من أجل منع الترابط الاجتماعي، باعتباره يشكّل ضررًا للمنظومة الأمنية، ويساهم في خلق حالة نضالية وكفاحية من شأنها إلحاق الضرر بالأمن الإسرائيلي العام.
وتُعزَّز هذه السياسة بالانقسام الداخلي الذي أدّى إلى خلق كيانَين سياسيَّين غير متشابهَين في النهج، كان الأول في قطاع غزة ويتبنّى الفكر المقاوم والممانعة، والآخر في الضفة الغربية المحتلة ويتبنّى المفاوضات والتنسيق الأمني.
وبموازاة ذلك، سعى الاحتلال إلى دمج الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948 في المجتمع الإسرائيلي، بسياسات “الأسرلة” ومحاولة فصلهم عن بُعدهم الفلسطيني كامتداد لاتفاقية أوسلو، وهو ما حقق فيه نتائج مرحلية كانت ملموسة في بعض المراحل.
“كل جبهة لها همومها ومشاكلها”
بدأت هذه السياسة تُترجم على أرض الواقع بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، حينها بدأ القطاع يكوّن نطاقًا جغرافيًّا خاصًّا به، وواقعًا اقتصاديًّا مختلفًا تمامًا عن ذاك القائم في الضفة الغربية المحتلة بما فيه القدس إلى جانب الداخل.
وتعاظم الأمر في أعقاب الانتخابات الفلسطينية وأحداث الانقسام عامَي 2006 و2007، حيث تبدلت الأحوال الاقتصادية والمعيشية كثيرًا بين الفلسطينيين، فبات سكان غزة الأكثر فقرًا وبطالةً مقارنة بسكان الضفة المحتلة وأراضي الـ 48.
ووصلت معدلات الفقر في غزة إلى مرحلة يعتمد فيها 80% من السكان على المساعدات الإغاثية، إلى جانب وصول نسبة البطالة في صفوف الشباب إلى 60% والإناث إلى 80%، إضافة إلى نسبة بطالة عامة تتجاوز الـ 56% خلال سنوات الحصار.
في الوقت ذاته، لا تزيد نسبة البطالة بالضفة عن 34% بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، فيما فُتحت المستوطنات في الداخل للعمل من أجل تعزيز السلطة الفلسطينية وتخفيف الأعباء عليها، على حساب الضغط الاقتصادي الذي مورس على القطاع لرفض المقاومة وخيارها.
وكان المشهد في الداخل مختلفًا من خلال الوظائف ومحاولة دمج الفلسطينيين بمؤسسات الشرطة الإسرائيلية، أو المشاريع الخاصة بتدجين الفلسطينيين بما عُرف بـ”الأسرلة”، ما خلقَ لكل جبهة وساحة فلسطينية همومًا ومشاكلًا مختلفة.
ففي غزة كانت المشاكل في كيفية خلق واقع معيشي يخفِّف من حدة الهموم اليومية، وألقى هذا الأمر بظلاله على المقاومة وقيادتها من أجل التخفيف من الأعباء الحياتية على الحاضنة الشعبية، دون أن يؤدي ذلك إلى اهتزاز القاعدة الخاصة بها.
وفي الضفة الغربية، كان المشهد مختلفًا نتيجة تشابك الجغرافيا والاتّساع الاستيطاني وعمليات المطاردة والملاحقة، واحتواء أي مشهد مقاوم من شأنه أن يخلق نموذجًا مقاومًا عبر الخلايا التابعة للأذرع العسكرية المعارضة للسلطة.
أما الداخل عام 1948 فحاول الاحتلال إشغاله بجرائم القتل والإغراق بالسلاح، ضمن خطة قام عليها “الشاباك” بتواطؤ من شرطة الاحتلال التي لم تتصدَّ لأي من هذه الجرائم أو حاولت ملاحقة القتلة، بل على العكس حرصت على حمايتهم.
دوافع وأهداف إسرائيلية
لا يمكن اعتبار السياسة الإسرائيلية بـ”الطبيعية” أو “غير المقصودة”، فهي نتاج عمل تترابط فيه المؤسسة الأمنية بالمؤسسة الحكومية الرسمية في الاحتلال، وهو ما تعبّر عنه تصريحات المسؤولين في الاحتلال بما في ذلك قادة الحكومات المتعاقبة.
ويمكن قراءة الدوافع والأهداف الإسرائيلية في أكثر من اتجاه، الأول الدعم الشعبي للمقاومة وعملها على الأرض، وجعل فكرة أي تشابك جغرافي وسياسي مكلفة من الناحية المعيشية والاقتصادية، والتقليل من النتائج المترتّبة عن العمل المقاوم.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل في الطابع الرسمي، ومحاولة جعل كل جبهة منفصلة بإقليمها وإدارتها وتمثيلها، ما يعني أن مطالب غزة يتمّ التعامل معها بمعزل عن مطالب الضفة والقدس أو الداخل، وهو الأمر الذي يضمن استقرار الواقع الأمني.
والاتجاه والهدف الثالث يتمثل في البُعد السياسي، ومحاولة جعل الفلسطينيين أمام الرأي العام الإقليمي والدولي غير موحّدين، ولا توجد لهم قيادة واحدة تمثلهم وتمثل أهدافهم ومطالبهم، وهو ما تحقّقَ خلال فترة الانقسام السياسي منذ عام 2007.
والاتجاه الرابع منع المقاومة الفلسطينية في غزة من تعزيز حضورها في بقية الساحات، وبناء قدرات عسكرية خارج نطاق الجغرافيا المحاصرة، وهو الأمر الذي لو تحقق من شأنه أن يخفف من حدة الضغط عنها، ويسهم في بناء منظومة مقاومة شاملة.
كيف يواجه الفلسطينيون هذه السياسة؟
شكّلت معركة “سيف القدس” في مايو/ أيار 2021 ضربة قوية للاستراتيجية الإسرائيلية الرامية لفصل الساحات عن بعضها، بعدما تشابك المشهد الفلسطيني مع بعضه لأول مرة منذ عقود عسكريًّا وشعبيًّا وجماهيريًّا، ما جعلَ الاحتلال يعيش حالة غير مسبوقة من الإرباك.
وشكّلت المعركة و”هبة القدس” ضربة لهذه السياسة، تعززت لاحقًا بمساعي المقاومة لعدم الاستسلام للأمر الواقع، وترسيخ قاعدة “غزة-القدس” و”غزة-جنين” و”غزة-الأسرى” و”غزة-الداخل”، وهو ما يظهر من أحداث القدس الأخيرة.
ومع حضور المقاومة في منع المستوطنين من ذبح القرابين داخل الأقصى، وتهديدها بنسف التهدئة كليًّا واللجوء إلى “سيف القدس 2″، تكون الأذرع العسكرية في غزة قد رسّخت معادلة جديدة في الصراع مع الاحتلال تمنعه من خلالها من فصل الساحات.
وبموازاة غزة، حاولت المقاومة عبر الضفة الغربية من خلال الخلايا التابعة لها هناك، وتحديدًا في مناطق شمال الضفة مثل جنين ونابلس وطولكرم، عبر عمليات يومية تمثّلت في إطار إطلاق النار تجاه جنود الاحتلال؛ التصدي للاقتحامات.
ومع العمل الشعبي، دشّنت الفصائل في غزة هيئة أطلقت عليها “الهيئة العليا لإسناد أهلنا في الداخل المحتل”، في خطوة شعبية تستهدف تنفيذ فعاليات في غزة في وقت مشترك مع الأراضي المحتلة في المناسبات الوطنية، على أن يتطور الأمر لاحقًا.
ويعكس هذا التخطيط من الفصائل الرغبة الواضحة في نسف السياسة الإسرائيلية الرامية للاستفراد بكل جبهة، مع عدم إغفال وترك جبهة الضفة حيث تواجه قوى المقاومة صعوبات كبيرة في العمل فيها، نظرًا إلى الاستهداف المشترك من السلطة والاحتلال.