انتظر الشاب أحمد علاء الدين 3 سنوات كاملة من أجل السفر إلى الشمال السوري والاجتماع بأهله، فلم تتح له الفرصة في السنوات الماضية خاصة مع تفشي وباء كورونا وبعض الصعوبات الاقتصادية، هذه السنة أتاحت تركيا للسوريين الموجودين على أراضيها والراغبين بالخروج إلى مناطق سيطرة المعارضة الذهاب لفترة يقضون فيها إجازة العيد بين أهلهم وأحبابهم، وهو أمر قديم كان يتم التعامل معه سابقًا.
سجّل أحمد اسمه وزوجته على موقع حجز المواعيد الخاص بمعبر باب السلامة الحدودي، لكن حظًا عاثرًا وقف في وجه أحمد الذي قال في حديثه لـ”نون بوست” إن إدارة المعبر أرسلت له رسالة نصية تفيده بإلغاء موعد قدومه بسبب الإجراءات الحكومية التركية، ويروي علاء الدين أنه لم ير أهله منذ 4 سنوات تقريبًا، وهو يعمل في تركيا من أجل إعالة أمه وأبيه وأخيه العاجز عن الحركة الذين يقيمون في مخيمات الشمال السوري.
زيارات العيد التي يقوم بها السوريون من تركيا إلى سوريا أمر ليس بالجديد، وإنما كانت تتم كل عام، وقد نظمتها الحكومة التركية منذ عام 2015 بعد أن أغلقت الحدود البرية مع سوريا نتيجة للاقتتالات بين الفصائل وتنظيم “داعش”، وقبل ذلك كانت المعابر التركية إلى الشمال السوري مفتوحة على مدار العام، وفي الأعوام ما بين 2012 و2014 كان الدخول إلى تركيا والخروج منها سهلًا كثيرًا، فلم يكن هنالك ضرورة للمعابر، فقد كان الناس يعبرون إلى تركيا وبالعكس من أي نقطة حدودية دون أن يتكلم معهم أحد.
وفي الأساس تعود فكرة زيارات العيد إلى ما قبل الثورة السورية حين كانت سوريا وتركيا تفتحان المعابر البرية بينهما في فترة الأعياد وتمنحان التسهيلات بقصد التقاء العوائل والأقارب الموجودين في المحافظات الحدودية بكلا البلدين.
منذ أن فتحت تركيا أبوابها للسوريين دأبت المعارضة التركية على انتقاد الوجود السوري وسخرت وسائل إعلامها من أجل التجييش ضدهم، لكن لم يكن الأمر في السنوات الأولى من اللجوء السوري بالسوء الذي يواجه اللاجئين هذه الأيام من تصاعد الخطاب العنصري والتحريضي ضدهم، ولعل من أهم المداخل التي تدخل منها المعارضة التركية بالتحريض ضد السوريين هو موضوع زيارات العيد، فتعمل في كل عام على استغلال هذا الحدث تحت ذريعة أن “من يستطيع الذهاب إلى بلاده للزيارة يجب أن يبقى هناك”.
لكن هذا العام شهد استغلالًا سياسيًا حادًا أكثر من ذي قبل من الأحزاب التركية، فقد انفتحت أبواب التصريحات على مصراعيها بخصوص زيارة السوريين إلى بلدهم، وأضحى السوريون موضوع التصريحات خاصة من أحزاب المعارضة التركية، في هذا السياق يقول الشاب أحمد إن الزيارات إلى سوريا “لا تحتاج إلى كل هذا التشنج من الأحزاب التركية”، ويؤكد أنه يشعر بالأسى لإلغاء موعد دخوله إلى سوريا.
يرد أحمد على أحزاب المعارضة التي تقول إن السوريين الذين باستطاعتهم الدخول إلى سوريا فليبقوا هناك، قائلًا: “لست مرتاحًا كثيرًا بوجودي في تركيا، لكنني مضطر لإعالة أهلي وعندما أدخل إلى سوريا أكون عبئًا على خيمة أهلي في مخيمات النزوح، فبيتنا مدمر وقريتنا محتلة من نظام الأسد، لكن يبدو أن زعماء الأحزاب لا يقدرون هذا”.
وبالفعل أثارت فكرة دخول السوريين إلى بلدهم لقضاء إجازة العيد احتقانًا تركيًا كبيرًا حتى وصل الأمر إلى أن تتخذ الحكومة التركية إجراءات تقييدية جديدة بحق السوريين، ما يثير المخاوف أكثر لما يمكن أن يتطور عليه الأمر بحق السوريين في البلاد، يتزامن ذلك مع تعالي الصيحات العنصرية في البلاد ضد الوجود السوري بتغذية من الأحزاب وبعض الوسائل الإعلامية، وفي كل عام يتجدد الجدل بشأن زيارات العيد التي يقوم بها السوريون إلى بلدهم في الأوساط التركية.
إلغاء الزيارات
وأعلن وزير الداخلية التركية سليمان صويلو إيقاف “إجازة العيد” التي تمنحها الحكومة التركية للسوريين من أجل زيارة سوريا في الأعياد، مشيرًا إلى أن الذين يذهبون لزيارة العيد لن يعودوا إلى تركيا، وأكد صويلو “قلنا منذ الأسبوع الماضي إنه لن يتم منح إجازة عيد، والآن لا يتم منح هذا الإذن، والذاهبون إلى المناطق الآمنة يستطيعون البقاء هناك، لن يسمح لأولئك الذين يريدون الذهاب لقضاء العطلة بالعودة”.
وتابع “لقد أوقفنا الذهاب إلى سوريا بشكل كبير لمدة أربعة أعياد بسبب الوباء (فيروس كورونا)، وبقي نحو 60% من الذين ذهبوا هناك، بكل الأحوال، أولئك الذين يذهبون في إجازات ليسوا بالعدد الكبير”، مضيفًا “عدد السوريين الذين عادوا بشكل طوعي يقارب 500 ألف شخص انتقلوا للعيش في المناطق الآمنة التي تم إنشاؤها”.
قبل أن توقف الحكومة التركية زيارات العيد، كانت بعض المعابر السورية قد أفادت بفتح التسجيل للدخول إلى سوريا هذه الفترة، وأعلن معبر باب السلامة أن أكثر من 2000 سوري دخلوا إلى البلاد لقضاء إجازاتهم قبل قرار صويلو، ويخشى السوريون الذين دخلوا قبل قرار صويلو أنه لم يعد باستطاعتهم الرجوع إلى تركيا، وهنا تقول إيناس النجار رئيسة اللجنة السورية التركية المشتركة: “بالنسبة للأشخاص الذين دخلوا إلى سوريا عبر المعابر، بعد حصولهم على الأذون المطلوبة، سيكون هنالك توضيح في وقت لاحق من إدارة الهجرة، بشأن الإجراءات الخاصة بهم”.
القرارات التي أعلنها صويلو أتت بعد أيام من عاصفة تصريحات أدلى بها رؤساء الأحزاب التركية ضد زيارات العيد، ويبدو أن التصريح الأبرز كان لدولت بهتشلي زعيم الحركة القومية وهو حليف حزب العدالة والتنمية، حين قال إن اللاجئين السوريين “الذين يمكنهم الذهاب إلى بلدهم خاصة في الأعياد، غير مضطرين للعودة”، ودعا إلى “ترحيل من يخلون بالأمن العام والمجتمعي داخل بلاده، ويخضعون للحماية المؤقتة من السوريين”.
وأضاف بهتشلي في تصريحاته أن حزبه من أكبر الداعمين لسياسة ضبط قضايا اللاجئين في تركيا، واصفًا الهجرة غير النظامية بالغزو، وداعيًا إلى ترحيل من يتم القبض عليهم في هذا الإطار إلى بلادهم فورًا، مؤكدًا “هدفنا الأساسي توديع اللاجئين السوريين، بعد القضاء على الظروف القاسية التي دفعتهم إلى المغادرة والانفصال عن بلادهم”.
بعد تصريحات بهتشلي فورًا، صرح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، بـ”وجود قيود بعدم السماح للسوريين بالذهاب إلى بلادهم لقضاء عطلة العيد”، وقال صويلو: “بالطبع سيعود اللاجئون السوريون إلى بلادهم، ونحن مستمرون في العمل في هذا النطاق”، تلك التصريحات ترجمت على أرض الواقع بإيقاف الإجازات كما ذكرنا آنفًا.
كما العادة استغلت المعارضة التركية الحدث الحاليّ للمطالبة بحل قضية اللجوء السوري وإعادة السوريين إلى بلادهم، حيث قال كمال كليتشدار أوغلو رئيس الحزب الجمهوري: “لقد قلتها وسأقولها مرة أخرى، سنحل هذه المشكلة في غضون عامين على أبعد تقدير في حكومتنا، وأمتنا ليست عنصرية ولن تكون أبدًا.. سنحل هذه القضية بطريقة هادئة ومعقولة”، وطلب كليتشدار أوغلو من الحكومة الإجابة عن 4 تساؤلات وهي: “هل طلبت من طالبي اللجوء إثبات هويتهم الحقيقية؟ إضافة إلى لماذا تُوزّعون الجنسية، ما الذي تستعدون له؟ هل تجري تحقيقًا أمنيًا خلال منح الجنسية؟ لماذا تسمح بالعبور غير القانوني عبر حدودنا؟”، يذكر أن كليتشدار أوغلو من أبرز السياسيين الأتراك تحريضًا ضد الوجود السوري في تركيا.
لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما زال ينتهج سياسة التصريح بأن حكومته ستظل في صف اللاجئين، لكنه أكد أيضًا أنهم “سيضمنون عودة اللاجئين مع استكمال بناء منازل الطوب والوحدات السكنية في شمالي سوريا”، كما قال: “بمجرد تهيئة البيئة السليمة والآمنة، سيعود اللاجئون من أنفسهم عودة طوعية”.
بدوره قال رئيس لجنة اللاجئين في البرلمان التركي، أطاي أولوس: “لن يتم إعادة أي لاجئ سوري إلى بلاده إلا بشكل طوعي”، وأكد أولوس أن “سياسة إعادة السوريين إلى بلادهم ستكون بشكل طوعي، وبأنها السياسة الوحيدة التي تتبعها الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم”، مؤكدًا على “التزام الحكومة التركية بترك خيار العودة الطوعية حتى إن تم تشكيل حكومة سورية جديدة متوافق عليها من السوريين”.
لكن أحزاب المعارضة ليست كلها في ذات السوية من التحريض على اللاجئين السوريين واستغلال الأحداث، إذ يرى أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل إنه من غير الممكن إعادة السوريين في تركيا إلى بلادهم من دون تشكيل حكومة مشتركة بين النظام والمعارضة، مضيفًا: “القول “سنرسل اللاجئين” من دون تهيئة الظروف الملائمة لعودتهم قد يبدو كلامًا جيدًا، لكنه غير واقعي”.
العودة الطوعية
على كل حال يرى المراقبون أن الحكومة التركية من خلال قرارها بإلغاء إجازات الأعياد، تسعى إلى امتصاص غضب الأصوات التركية “العنصرية” التي تطالب بعدم السماح للاجئين الذين يذهبون لقضاء إجازة العيد بالدخول مجددًا إلى تركيا، لأنهم يستطيعون البقاء هناك بشكل دائم، كما أن حزب العدالة والتنمية يريد من خلال هذه السياسات الدخول إلى الانتخابات وقد عمل على حل الكثير من الملفات العالقة وأهمها ملف اللاجئين.
في ذات السياق، تقول أنقرة إنها تعمل على مرحلة جديدة من إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، فقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، عن بدء “مرحلة جديدة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بشكل طوعي وآمن بالتعاون مع ثلاث دول وهي لبنان والعراق والأردن”، وأضاف “نتحدث عن عودة كريمة للاجئين، علينا ضمان عودة اللاجئين لبلادهم، وعلينا القيام بذلك بحكمة، بشكل يتوافق مع حقوق الإنسان والقانون الدولي والدستور التركي”.
ليست هذه المرة الأولى التي يتكلم فيها وزير الخارجية التركي عن “العودة الطوعية”، فقد سبق وأشار إلى رغبة بلاده في طرح ومناقشة فكرة العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادهم، وذكر جاويش أوغلو في أحد لقاءاته أنّ “بلاده بدأت تشهد تعاونًا أفضل من المجتمع الدولي بشأن إعادة اللاجئين بشكل آمن إلى بلادهم، وأنها أطلقت مبادرة تعاون مع دول الجوار التي تستضيف السوريين، وهي لبنان والأردن والعراق”.
وكان الوزير أوغلو قد أعلن أمام البرلمان التركي العام الماضي أن “تركيا اتفقت مع 4 دول مجاورة لسوريا على ضرورة إعادة اللاجئين السوريين بشكل طوعي إلى سوريا، لكن الأزمة اللبنانية أجّلت تنفيذ هذا الاتفاق”، موضحًا أن بلاده نجحت في وضع قضية العودة الطوعية للسوريين على أجندة الرأي العام الدولي.
حيرة وخوف
اليوم يقف السوريون حائرين وخائفين من كل ما يحيط بهم في تركيا، فقد باتوا “سلعة انتخابية” كما يقول أحمد علاء الدين، وليس بعيدًا عما سبق فقد شهدت الأسابيع الماضية تشديدًا غير مسبوق على حركة السوريين بشكل عام في تركيا، فمن ناحية تم إيقاف العديد من قيود اللاجئين بحجة عدم تثبيت عنوان السكن وكذا بات أمر الترحيل إلى سوريا تحت غطاء العودة الطوعية متكررًا مع المئات، وكنا في نون بوست قد سلطنا الضوء على هذا الأمر في تقرير سابق.
كما أن ظاهرة العنصرية التي يؤججها الخطاب الإعلامي المعارض باتت تتصاعد، فقد شهد حي الفاتح في مدينة إسطنبول، عبارات كتبت على بعض جدران الحي تطالب بطرد العرب والسوريين مع رسم للصليب المعقوف الذي يدل على النازية، ولا تتحمل المعارضة المسؤولية وحدها فقط، إذ إن الحكومة باتت تشكل ضغطًا على السوريين تماشيًا مع الضغط الشعبي والمعارض في كثير من الأمور ولعل آخرها عدم السماح للسوريين بالذهاب لقضاء إجازاتهم في العيد ببلادهم مع أهاليهم.
لكن هل فعلًا سيقع ما يخاف منه السوريون ويتم ترحيلهم من تركيا بالجملة إلى سوريا دون تأمين الحماية اللازمة لهم، أم أنها مجرد لعبة انتخابية سيزول تأثيرها مع الوقت؟ يجيب الباحث السوري فراس فحام قائلًا: “باعتقادي أن كل ما يجري خلال اليومين الماضيين من تصريحات حكومية تركية وتعقيبات من الحزب الحليف للحكومة عن اللاجئين السوريين يصب في خانة سحب البساط من تحت المعارضة بملف اللاجئين وتفريغ الموضوع من محتواه، أي لا أتوقع انعكاسات مباشرة على اللاجئين السوريين في الوقت الراهن”.
ويرى فحام أن “هناك خطة يجري الحديث عنها في أوساط الحكومة التركية منذ عام ونصف، تتعلق بتوفير مقومات للمناطق الخاضعة لحماية الجيش التركي في سوريا، بما يجعلها صالحة لعودة اللاجئين، أما التصريحات الحاليّة بما فيها الحديث عن التواصل مع النظام تهدف لتفريغ خطوات المعارضة من محتواها”.
وفي جانب آخر، يترك السوري وحيدًا لمواجهة قدره في تركيا، فلا توجد مؤسسات تتحدث باسمه، خاصة تلك المؤسسات التي تعتبر نفسها تمثل السوريين، فالائتلاف مشغول بخلافات أعضائه البينية دون النظر إلى حال السوريين في تركيا، وفي هذا الصدد يقول الكاتب والباحث السوري حمزة المصطفى: “تعاملت المعارضة السورية بجميع أطيافها السياسية والمسلحة برومانسية وطوباوية تطهرية مع مسألة الداخل والخارج، بنيت الممارسة والخطاب وكل شيء في الصراع السوري على هذه الثنائية رغم لجوء ونزوح نصف السكان خارج البلاد أو من دواخلهم “بيوتهم””.
ويشير مصطفى إلى أنه “تم التعامل مع الداخل كحيز جغرافي مكاني لا ديمغرافي، وهذا ما أفقدها القدرة على استغلال المجتمعات السورية في الخارج التي تشكل داخلًا ديمغرافيًا، بكلمات أبسط، لنا أن نتصور أن الائتلاف الوطني السوري الذي اتخذ تركيا مقرًا منذ تأسيسه، لا يمتلك مقاربة، خطة، جسم، تواصل يستطيع أن يمثل السوريين في تركيا ومصالحهم تمثيلًا حقيقيًا للاستفادة من وجودهم ومواجهة الحملات العدائية ضدهم، السوريون في تركيا يمثلون نحو 15% من إجمالي سكان سوريا، ولا يوجد لهم أي تمثيل”.
في النهاية، يبدو أن السوريين مقبلون على سنة صعبة في تركيا، فبرامج المعارضة الانتخابية موضوعها الأوحد منصب على الوجود السوري في تركيا والتجييش على السوريين حتى وإن كرروا كلامًا براقًا بأنهم غير عنصريين وأنهم لا يريد تحويل قضية اللاجئين لمساومة انتخابية، وفي المقابل لا تتعامل الحكومة مع هذا الخطاب بحزم، إنما تحاول مسايرته كمناورة لمواجهته، ما يجعل من الوجوج السوري في تركيا موضوعًا انتخابيًا يزيد من حالة الاحتقان الشعبي.