بدأت المعابر النهرية بالظهور بشكل أكبر على ضفتي نهر الفرات بمحافظة دير الزور كبديل عن الجسور المدمرة التي كانت تربط منطقة “الشامية” بـ”الجزيرة”، إذ تعرضت أكثر من ستة جسور سابقًا لاستهداف طائرات التحالف الدولي إبان سيطرة تنظيم الدولة “داعش” عليها بالكامل، إضافة إلى تعرض جسري (الميادين والعشارة) أهم جسور المنطقة لدمار كامل نتيجة استهدافه بالطيران الروسي.
لكن مع عزل الجزيرة القابعة تحت سيطرة قوات قسد – بعد انحسار التنظيم عنها – عن الشامية الواقعة تحت سيطرة قوات النظام والميليشيات الإيرانية، ازدادت الحاجة لإعادة ربط المنطقتين ببعضهما عبر معابر نهرية ولو بطرق بدائية للتنقل بين ضفتي الفرات، إلى أن وصلت لنحو عشرة معابر نهرية بإشراف قوات قسد من جهة شرق الفرات ونظام الأسد والميليشيات التابعة له من جهة غرب الفرات، إضافة لمعابر أخرى غير رسمية تستخدم في عمليات تهريب البضائع والمحروقات بين المنطقتين بعيدًا عن أنظار قوات قسد والنظام، فهذه المعابر بمثابة شرايين تنعش الطرفين اقتصاديًا، خاصة النظام الذي يعاني حصارًا اقتصاديًا خانقًا.
المعابر هدف مركّز لقسد
تلاحق قوات قسد عمليات التهريب البعيدة عن أنظارها وتنسيقها في مناطق سيطرتها شرق الفرات، خاصة تهريب المواد الغذائية والطحين والمحروقات، في الوقت الذي تشرعن فيه تهريبها النفط ومشتقاته بكميات ضخمة لمناطق النظام، مستهدفة العمليات الكبيرة والصغيرة والمهربين والزوارق الصغيرة التي باتت مصدرًا أساسيًا من مصادر الدخل لكثير من المدنيين في ظل تردي الأوضاع المعيشية، بحجة أن تهريب المواد والبضائع سببٌ لحدوث أزمة غلاء في أسعارها.
في منتصف الشهر الحاليّ صادرت قوات قسد 25 شاحنةً كانت معدة للتهريب نحو الضفة الأخرى في مناطق سيطرة قوات النظام عبر المعبر المائي في بلدة جديد عكيدات، فيما أعلن مجلس هجين العسكري التابع لقوات قسد في الشهر ذاته عن تمكنه من مصادرة كميات كبيرة من المحروقات المعدة للتهريب عبر أحد المعابر النهرية، وإلقاء القبض على مهربيها بريف دير الزور الشرقي الذي تنتشر فيه العديد من المعابر أهمها معبر بلدة جديد عكيدات يقابله من جهة النظام معبر مو حسن ومعبر جديد بكارة يقابله طوب ومعبر صبحة يقابله بوليل وبصيرة يقابله سعلو وشحيل يقابله بقرص وحوايج يقابله الميادين وذيبان يقابله محكمان وطيان يقابله القورية ودرنج يقابله العشارة والجرذي يقابله صبيخان، ومن هذه المعابر ما هو مخصّص لنقل المدنيين بزوارق صغيرة، ومنها ما هو مخصص لنقل بضائع وحمولات ضخمة عبر عبّارات تحمل سيارات.
لكل معبر نهري قوانينه الخاصة به، وله أتاواته الخاصة وترتيبه الخاص، إلا أن معبر بقرص التابع للرابعة هو الأعلى “بتشليحه” للمدنيين والتجار
يشير “علاوي الخلف” (اسم حركي) ناشط صحفي مقيم في ريف دير الزور الشرقي، لموقع نون بوست إلى أن المعابر شرق الفرات تتبع بشكل مباشر لقيادات عليا من قسد، حيث تشرف على المواد المهرّبة من وإلى مناطق سيطرة النظام، كما أن هناك معابر من صنع المدنيين يستخدمونها في عمليات تهريب بعيدة عن أنظار قسد التي تلاحقهم وتصادر بضاعاتهم.
مضيفًا “وجود مواد متنوعة تدخل لشرق الفرات كالسكر والأدوية والمواد الغذائية، في حين تُصدّر قوات قسد الحبوب والنفط ومشتقاته وبشكل علني لشركة القاطرجي (ذراع النظام الاقتصادية في المنطقة الشرقية)، ويكون ذلك عبر صهاريج على عبّارات (طوافات)، إضافة لمد أنابيب بين الضفتين، ما يساعد في تجاوز النظام للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، خاصة فيما يتعلق بالاستفادة من النفط والغاز”.
كما لفت الخلف إلى أن قوات قسد تعمل على مد نظام الأسد بالعملة الصعبة (الدولار) كدعم للبنك المركزي في دمشق، في حين تستقبل العملة المحلية القادمة من النظام وتستخدمها لدفع رواتب عناصرها ومجالسها العسكرية والمدنية والمنظمات التابعة لها في المنطقة.
الفرقة الرابعة الأضخم بالإتاوات
تدير الفرقة الرابعة من الجيش السوري إلى جانب الأمن العسكري والميليشيات الإيرانية المعابر النهرية من جانب منطقة الشامية، وتفرض إتاوات ضخمة (جمركة) على بضائع التجار الصادرة من جهتها، خاصة معبر بقرص الخاضع للفرقة الرابعة المقابل لمعبر الشحيل الذي يفرض إتاوات أشبه بعمليات تشليح على أي قطعة يحملها الشخص الراغب في العبور باتجاه الطرف الآخر.
في حين بات يلجأ الكثير من التجار إلى تجاوز التعامل مع الضباط في “الرابعة” والانتقال للتعامل مع مهربين يهربون البضائع بشكل متقطع، وبإتاوات أرخص عبر سفن صغيرة ومن أراضٍ معينة بعيدة عن أعين أجهزة الأمن تعود ملكيتها لأشخاص متعاونين ولهم نسبة معينة من الأموال وخلال ساعات الليل، بعد التنسيق على مُستقبِل الحمولة في الطرف المقابل.
“أبو الليث الطياوي” أحد العاملين في التهريب سابقًا ضمن منطقة غرب الفرات، قال لموقع “نون بوست”: “المعابر النهرية مصدر رزق لآلاف العوائل التي امتهن أبناؤها مهنة نقل المواد الغذائية والمحروقات إلى مناطق سيطرة قسد رغم المخاطر التي تحفها”.
لافتًا إلى أن لكل معبر نهري قوانينه الخاصة به، وله أتاواته الخاصة وترتيبه الخاص إلا أن معبر بقرص التابع للرابعة هو الأعلى بتشليحه للمدنيين والتجار، حسب تعبيره.
وأضاف الطياوي “في الفترة الأخيرة بدأنا نتجاوز قوات النظام (الفرقة الرابعة) وانتقلنا للتعامل مع قوات الدفاع الوطني التي تسمح لنا بنقل البضائع من أغذية وألبسة وأدوية خلال ساعات معينة ليلًا وبإتاوات أرخص، نستخدم القوارب الصغيرة لأنها أسهل بالحركة، ونعمل على اختيار أقرب نقاط بين الضفتين بهدف اختصار المسافة”.
وتابع الطياوي “كثيرًا ما كنا ننقل مئات الركاب بحقائبهم الشخصية يوميًا بعد أن كانت الفرقة الرابعة تستحوذ على عمليات نقلهم بشكل كامل، مستفيدة من الموارد المالية الضخمة، حيث بلغت تسعيرة عبور الشخص منذ عشرة أشهر تقريبًا أكثر من ثلاثين ألف ليرة سورية إلى الضفة الأخرى، ومن الضفة الأخرى يتولى تيسير أمور هؤلاء الركاب مهربون آخرون، وذلك حسب وجهة الراكب، فهناك من يريد التوجه نحو الأراضي التركية، وهناك من يريد التوجه نحو إقليم كردستان أو مناطق سيطرة الجيش الوطني”.
تسهيلات من قسد لدخول المخدرات
تعتبر المعابر النهرية مصدرًا مهمًا لمرور المخدرات والحشيش إلى مناطق الجزيرة (شرق الفرات) عبر مهربين بالاتفاق مع قيادات أمنية في قوات النظام وميليشيات حزب الله في منطقة غرب الفرات التي باتت بؤرة للحبوب والمواد المخدرة، وبات ترويجها وبيعها علنًا في مناطق قسد، وذلك بتسهيل من قياديي قسد الذين يغطون ويسهلون أعمال وتحركات المهربين.
ورغم إعلان أجهزة قسد ملاحقة خلايا الترويج والبيع بين الحين والآخر، فإن الباحث في مركز جسور للدراسات، أنس الشواخ وصف عمليات الملاحقة بالـ”شكلية” وماهي إلا استجابة للضغط الشعبي وضغط قوات التحالف، فتجارة المخدرات تحقّق مصدر تمويل مالي مهم جدًا لعمليات حزب العمال الكردستاني وكوادره العاملة شمال شرق سوريا، إضافة لاعتبارها مصدر إثراء للعديد من القياديين، فضلًا عن حالة التفسخ الاجتماعي وتفكيكه وتعطيله التي تنتجها قسد جراء نشر المخدرات، حسب قوله.
ولفت الشواخ إلى أن عمليات التهريب مقننة، وكل معبر مسؤول عنه كادر من حزب العمال الكردستاني بشكل رسمي، ويعمل ليل نهار على أعين الجميع، إلا أن هناك مهربين من أبناء المنطقة يعملون بشكل منفصل في التهريب بعيدًا عن أعين قسد، فيتم مداهمتهم بين الحين والآخر.
ووفق وكالة الأنباء السورية “سانا”، فقد دشن رئيس مجلس الوزراء التابع لنظام الأسد حسين عرنوس، 20 أبريل/نيسان، جسرًا جديدًا يصل بين مدينة دير الزور وبلدة الحسينية على ضفتي نهر الفرات، بعد أن أنهت الفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية العمل به بطريقة بدائية بواسطة قساطل معدنية، وحسب وكالة سانا الرسمية الناطقة باسم حكومة النظام، فإن الجسر يبلغ طوله 220 مترًا وعرضه 10 أمتار وهو مصمم لحمولة تقارب 100 طن وجرى تسيير حمولات بلغت 70 طنًا بشكل تجريبي.
كما نقلت سانا عن محافظ دير الزور فاضل نجار، أن الجسر يهدف لتحسين الواقع الحياتي لأهالي القرى والبلدات الواقعة بريف المحافظة الشمالي وتخفيف مخاطر الانتقال عبر العبارات المائية، ويتيح للأهالي التواصل مع أقاربهم وأهاليهم إضافة إلى نقل بضائعهم ومحاصيلهم ومواشيهم بين منطقة الجزيرة السورية وباقي مناطق المحافظة ومنها إلى كل أرجاء المحافظات، كما يعد حاجة إنسانية كونه يسهل نقل المرضى والمحتاجين للرعاية الصحية وييسر انتقال الطلاب والموظفين والعمال، حسب وصفه.
يرى الشواخ، أن حديث النظام حديث إعلامي لا أكثر، فالمعبر بحكم موقعه سيكون نقطة إستراتيجية مهمة بالمحافظة ومعبرًا أساسيًا لنقل البضائع والسيارات والركاب التي تحقّق مصدر تمويلٍ ضخمٍ جدًا للفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية، فضلًا عن أن كثرة وجود المعابر ومن ضمنها هذا الجسر سيسهّل عبور شحنات الأسلحة للمليشيات الإيرانية إلى مناطق سيطرتها شرق الفرات، واختراق المنطقة هناك أمنيًا بخلايا نائمة تابعة للنظام والميليشيات الإيرانية ومجهزة بأسلحة ومعدات مع مرور الوقت.
ومنذ مارس/آذار 2019 تحوّل حوض نهر الفرات بطول 610 كيلومترات وسهله الممتد من ريف حلب الشرقي عند مدينة منبج حتى بلدة البوكمال التابعة لمحافظة دير الزور، لخطّ تماس وحدودٍ تفصل المناطق الخاضعة لكل جهة، وتمر عبره العديد من الشحنات المهربة سواء من وإلى مناطق سيطرة الجيش الوطني التابع للإدارة التركية أم مناطق غرب الفرات، ورغم أن عمليات التهريب تقدّر بملايين الدولارات ما زالت منطقة شرق الفرات تعاني أزمة إنسانية صعبة نتيجة السماح بمرور أهم المواد (النفط والطحين) عصب الحياة هناك، وحرمان الأهالي منها، الأمر الذي أدى لارتفاع أسعارها، وسط احتقان شعبي يتزايد يومًا بعد يوم مع ارتفاع معدل البطالة وقلة توافر فرص العمل.