أعلنت 10 تنظيمات وتيارات إسلامية في السودان عن تحالف سياسي جديد تحت مسمى “التيار الإسلامي العريض”، ضم عددًا من الكيانات الدينية، متعددة ألوان الطيف المذهبي، تهدف – بحسب بيانها الصادر في 18 أبريل/نيسان 2022 – إلى صيانة السيادة الوطنية وإصلاح الشأن السياسي بعدما وصل الوضع داخليًا إلى مستويات تعرض البلاد ومستقبلها للخطر.
وبعد هذا التحرك بيومين فقط، في 20 أبريل/نيسان 2022، ظهر الرئيس السوداني المعزول عمر البشير وهو يتجول بأريحية كاملة داخل إحدى المستشفيات التابعة للسجن، مبتسمًا، مرتديًا ملابس رياضية ويحيّي الزوار خارج غرفته، بجانب تصويره في أثناء زيارته لمريض في غرفة أخرى.
الإعلان عن التحالف الجديد ودلالة الصور الملتقطة للبشير الذي يفترض أنه قيد المحاكمة، أثاروا حالة من القلق والترقب لدى الشارع السوداني بشأن عودة الإسلاميين وحزب “المؤتمر الوطني” إلى السلطة مرة أخرى، وإن كان عبر عباءة جديدة وتحت مسمى آخر، بعد إزاحتهم عن المشهد عقب الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2018، وسط حالة انسداد واضح في الأفق السياسي واحتقان شعبي متصاعد، ربما تدفع جميع الكيانات إلى توظيفها لخدمة أجنداتها وأهدافها السياسية، تزامن ذلك مع ضغوط دولية على السلطة العسكرية الحاكمة للانتهاء من تشكيل حكومة مدنية كشرط أساسي لحصول البلاد على الدعم الدولي لإنقاذها من مأزقها الاقتصادي المتفاقم.
أهداف التحالف الجديد
كشف التحالف الجديد عن دواعي تدشينه، مرجعًا ذلك إلى عدة أسباب أبرزها تبني السلطة الانتقالية الحاليّة في البلاد لمشروع ثقافي يصادم ثوابت الأمة ويهدد أمنها الاجتماعي، هذا بخلاف تعرض سيادة الدولة للخطر وبات القرار السياسي رهن الخارج، بالإضافة إلى “هدم جدار الثقة في الأجهزة العدلية” إذ لم تعد ملاذ المظلومين ومأمن القلقين على حقوقهم بحسب البيان.
ومن أبرز النقاط التي أكد الموقعون على البيان الاستناد إليها في حراكهم الأخير تهديد وحدة السودان التي أصبحت في مهب خطاب جهوي واصطفاف عرقي، إضافة إلى الوضع المعيشي المتدني والانهيار الذي شهده الاقتصاد الوطني جراء السياسات الاقتصادية التي تتبناها السلطة، بجانب استطالة الفترة الانتقالية التي أدت إلى فراغ سياسي وأمني ساهم في النهاية في هجرة رأس المال الوطني وإحجام الاستثمارات الأجنبية، ما يقود البلاد إلى منزلق الفوضى.
وعليه يهدف التحالف إلى تحقيق حزمة من الأهداف الرئيسية التي يفترض أن تنبثق عنها أهداف أخرى فرعية، أولها: الحرص على تنزيل قيم الدين على جميع أوجه الحياة، وتطوير مجتمع القيم والفضائل الموسوم بالغيرة على الأخلاق والحقوق والحرمات، وبسط الحريات العامة وصيانة الحقوق للأفراد والجماعات وإصلاح الشأن السياسي.
من المرات النادرة أن يلتقي الإخوان والسلفيون على مائدة تحالف واحدة، فللتيارين سجال طويل من النزاع والصدام وصل في كثير من الأحيان إلى الخصومة
علاوة على تقوية مؤسسات القضاء والعدل واستقلالها وسيادة حكمها، والدعوة لمشروع متكامل لإصلاح الشأن السياسي بما يوفر فرصة للتداول السلمي للسلطة والتعاقب الطوعي للمواقع القيادية، كذلك صيانة السيادة الوطنية ومنع التدخلات الجائرة في الشأن الداخلي وإقامة العلاقات الخارجية على أساس احترام سيادة الدول وحسن الجوار ورعاية المبادئ والمصالح واحترام المواثيق الدولية العادلة، مع طرح مشروع اقتصادي متكامل يهدف لزيادة الناتج الإجمالي لبلادنا وتخفيف حدة الفقر وتعزيز وتيسير سبل الإنتاج للشرائح الضعيفة وتحقيق العدل الاجتماعي، وأخيرًا العمل على تمكين المرأة ورعاية مكانتها وتعزيز فرصها بما يلائم طاقتها وقدرتها.
ووقع على بيان تدشين هذا التحالف عشرون كيانًا دينيًا أبرزهم: حركة الإصلاح الآن (يرأسها غازي العتباني مستشار البشير قبل أن ينشق عن المؤتمر الوطني في 2013) والإخوان المسلمون (بشقيها التنظيم الدولي والجماعة السودانية) ومنبر السلام العادل (أسسها الراحل الطيب مصطفى الذي تربطه صلة قرابة بالبشير ويعد من قادة التنظيم الإسلامي) والحركة الإسلامية السودانية (يرأسها القيادي المعروف في النظام السابق أمين حسن عمر الذي شغل عدة مناصب تنفيذية وقيادية في الحكومة المعزولة) وحزب دولة القانون والتنمية (يرأسه رجل الدين محمد علي الجزولي أحد قيادات التيار السلفي المتشدد) وحركة المستقبل للإصلاح والتنمية وحزب العدالة القومي.
غياب المؤتمر الشعبي.. علامة استفهام
اللافت للنظر أن حزب “المؤتمر الشعبي” أكبر القوى الإسلامية في السودان لم يشارك في هذا التحالف، رغم انضمام العديد من الكيانات المنضوية تحت ذات الأيديولوجية، كالإخوان والتنظيم والجماعة والحركة الإسلامية وغيرها، وهو ما فسره الحزب بأنه تغريد خارج السرب الذي يسلكه المؤتمر خلال الأعوام الأربع الماضية.
التحالف ينضوي في فكرته على التحالف الأيديولوجي وهو ما يعتبر ردة عن خط الحزب الحاليّ الذي يميل إلى حل الأزمة من خلال جمع كل التيارات السياسية في البلاد على مائدة واحدة، بحسب مسؤول الإعلام في الكيان عوض فلسطيني، الذي استبعد أن يلجأ الحزب بعد 30 عامًا من النشأة إلى الانغلاق داخل تنظيم ضيق لا يتسع للجميع.
هذا الغياب قد يفسر أيضًا على أنه “خطة تكتيكية” تستهدف عدم استثارة الشارع السوداني الذي ربما يجد في مشاركة المؤتمر في هذا التحالف “جسرًا” لعودة الإسلاميين إلى الأضواء والساحة السياسية مرة أخرى، وهو ما يتجنبه الحزب في الوقت الحاليّ، خاصة أن العديد من التيارات المنبثقة عن قاعدته الأصولوية والشعبية مشاركة وبقوة في تدشين الكيان الجديد، ومن ثم فإن انضمام المؤتمر بشكل رسمي سيكون مرهونًا نسبيًا برد الفعل المحتمل إزاء هذا الحراك.
تحالفات سياسية أكثر منها أيديولوجيات
من المرات النادرة أن يلتقي الإخوان والسلفيون على مائدة تحالف واحدة، فللتيارين سجال طويل من النزاع والصدام وصل في كثير من الأحيان إلى الخصومة، وهو ما يشي بأن “التيار الإسلامي العريض” الذي تم تدشيه يأتي في سياق التحالف السياسي استعدادًا للماراثون الانتخابي المقبل، أكثر منه تيار أيديدلوجي يجمع شمل أبناء المعين الفكري الواحد.
التحالف الجديد استند في انطلاقته إلى حالة الشتات التي تعاني منها الساحة السياسية السودانية، حيث الانقسام الحاد الذي شهدته قوى “تحالف الحرية والتغيير” المكون الأبرز للسلطة الانتقالية بعد الثورة، هذا بخلاف تصاعد وتيرة التوتر بين هذا المكون والمؤسسة العسكرية.
كما استغل التيار الإسلامي التدهور الاقتصادي الحاليّ وتدني المستوى المعيشي وهو أحد الأسباب الرئيسية وراء الثورة على نظام البشير والإطاحة به من منصبه، مع التلميحات بين الحين والآخر بفشل السلطة الحاليّة في تحسين الأوضاع وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها التي قطعتها على نفسها في أثناء تقلدها الحكم، ما يشير إلى تقبل الشارع لفكرة البديل المخلص القادر على إخراج المقهورين من أبناء السودان من عنق الزجاجة، أيًا كانت هويته.
أثار تدشين “التيار الإسلامي العريض” مخاوف البعض من وجود صفقة مع الجيش، رغم نفي المتحدث باسم الإخوان وجود أي صلة مع العسكريين
إرهاصات ومؤشرات
مما أثار القلق بشأن عودة الإسلاميين مرة أخرى تلك المؤشرات التي شهدتها الساحة خلال الآونة الأخيرة وأعطت انطباعًا أن الأمور تمهد نحو إعادتهم مجددًا، منها على سبيل المثال إعادة عشرات الإسلاميين لوظائفهم في البنك المركزي والقضاء والنيابة العامة ووزارة الخارجية وبعض المؤسسات الحكومية وذلك بأمر قضائي نسبة لأحد المحاكم الخاصة في الخرطوم.
وفي مارس/آذار الماضي قرر البنك المركزي رفع التجميد عن قرابة 1000 حساب بنكي لمسؤولين بارزين في التيار الإسلامي، وإن تراجع عن هذا القرار بعد ذلك بأسبوعين ليعاد تجميدها مرة أخرى، وسط توقعات برفع الحظر عن أموال الإسلاميين المجمدة في البنوك السودانية خلال الآونة القادمة.
وكان رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان قد أعلن في 15 أبريل/نيسان الحاليّ أنه سيخفف حالة الطوارئ نسبيًا، بناءً على مطالب بعض الأحزاب الداخلية والقوى الخارجية، فيما أطلق بالأمس سراح بعض المحبوسين على ذمة قضايا سياسية وحريات الرأي والتعبير.
تلك الإرهاصات دفعت بعض السياسيين وقياديي الأحزاب اليسارية السودانية إلى التلميح بوجود صفقة غير معلنة بين التيار الإسلامي والجيش الوطني، تتعلق بعودة الإسلاميين للمشهد مقابل أن يكونوا حاضنة سياسية مدنية للسلطة الحاليّة بما يساعدها على الاستمرار في الحكم ويقيها ضغوط الخارج ويخفف من القيود الاقتصادية المفروضة على الدولة بسبب الحكم العسكري.
الجيش والإسلاميون.. هل من صفقة ممكنة؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الإسلاميين يشكلون قوامًا ليس بالقليل داخل المؤسسة العسكرية بحكم 30 عامًا تحت ولاية البشير كانت الكلمة العليا فيها داخل كل المؤسسات للتيار الإسلامي، وعليه فإن الحديث عن تجريف منابع الجيش من أبناء هذا التيار يفتقد للموضوعية من جانب ويحتاج إلى وقت طويل من جانب آخر.
وعليه كانت دومًا الاتهامات توجه من التيار المدني للمؤسسة العسكرية باحتضان الإسلاميين، وهو ما أشار إليه وزير العدل الأسبق في حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية المستقيلة، نصر الدين عبد الباري، الذي وصف موقف الجيش من الإسلاميين بـ”المتأرجح”، لافتًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” أن الجنرالات لم يفعلوا شيئًا يذكر لإقصاء الإسلاميين من الأجهزة الأمنية.
ومن ثم فقد أثار تدشين “التيار الإسلامي العريض” مخاوف البعض من وجود صفقة مع الجيش، رغم نفي المتحدث باسم الإخوان وجود أي صلة مع العسكريين، وهو ما عبر عنه القيادي في “تحالف الحرية والتغيير” نور الدين صلاح الدين، الذي يرى أن التحالف الجديد يعكس “تطورًا في مستوى العلاقة بين السلطة العسكرية والحركة الإسلامية من الغزل المتبادل إلى الارتباط الوثيق”، مضيفًا أن الفرصة الآن مواتية للحركة الإسلامية لإعادتها للمشهد السياسي مجددًا وإعادة منسوبيها لوظائفهم السابقة في أجهزة الدولة السيادية.
من الصعب تضحية الجنرالات بعلاقاتهم الدولية والإقليمية لأجل الإسلاميين، كما أنه من الصعب إيجاد كيان بديل لقوى الحرية والتغيير بمعزل عن التيار الإسلامي الذي يشكل ضلعًا رئيسيًا في أضلاع الدولة
سياسيًا.. تقع السلطة الانتقالية الحاليّة في مأزق سياسي واضح خاصة بعد إعلان القوى الدولية ضرورة الانتهاء من تشكيل حكومة مدنية كشرط محوري لاستمرار الدعم المقدم للبلاد، ومن جانب آخر تتسع الهوة يومًا تلو الآخر بين الجيش والجبهات الثورية وقوى الحرية والتغيير، إلى الحد الذي تضاءل فيه منسوب الموثوقية لدى الطرفين الذي وصل في بعض الأحيان إلى تصفيرها.
وفي تلك الوضعية يحتاج العسكر إلى حاضنة سياسية مدنية، لكن بعيدًا عن عباءة التيار اليساري وقوى الحرية، وعليه قد يكون الإسلاميون هم البديل الأكثر جاهزية للقيام بهذا الدور، خاصة أنهم لن يمانعوا مطلقًا في منح العسكر معظم السلطات في سبيل السماح لهم بالعودة مرة أخرى.. غير أن هذا الأمر سيواجه حتمًا عقبات وتحديات تجعل من هذا السيناريو عملية ليست سهلة.
مهمة صعبة
لا شك أن أي صفقة من أي نوع مع الإسلاميين ستضع السلطة الحاليّة وجنرالاتها في مرمى الانتقادات الإقليمية لا سيما من الدول الداعمة لها وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات، التي تنظر للإسلاميين كمهدد وجودي للأنظمة الحاكمة بها أكثر من كونه خلافًا سياسيًا.
من الصعب تضحية الجنرالات بعلاقاتهم الدولية والإقليمية لأجل الإسلاميين، كما أنه من الصعب إيجاد كيان بديل لقوى الحرية والتغيير بمعزل عن التيار الإسلامي الذي يشكل ضلعًا رئيسيًا في أضلاع الدولة، سواء على المستوى العددي ككتلة تصويتية صلبة، أم على المستوى السياسي كتيار ضارب بجذوره في عمق الحياة السياسية للبلاد.
وهنا قد لا يجد الإسلاميون أمامهم إلا الانخراط في تحالف أعم وأشمل، يضم بقية أطياف المجتمع المدني، لتنتفي معه صفة الأصولوية الإخوانية التي تمثل صداعًا في رأس الأنظمة الإقليمية، فهذا الانخراط في ظل الثقل السياسي والشعبي للتيار الإسلامي، حتى إن كان اليسار وتحالف الحرية والتغيير طرفًا فيه، سيكسر حالة الاحتكار والاستئثار بالقرار وفرض الهيمنة من التحالف الثوري، وهو ما يريده العسكر.
وفي الأخير.. فإن إعادة الإسلاميين للأضواء مجددًا بات أمرًا واقعًا في ظل المستجدات التي شهدتها الساحة الآونة الماضية، ويتوقف حجم ومستوى تلك العودة على مساحة المرونة والتنازلات التي من الممكن أن يقدمها هذا التيار لكسب ود الشارع وثقة الجيش، مستفيدًا بالطبع من حالة تقزيم التيار الثوري.. لكن يبقى السؤال: هل ينجح الإسلاميون في استغلال الفرصة لتجميل صورتهم قبيل الانتخابات؟