تتصاعد وتيرة وحماوة الاستحقاق الانتخابي النيابي في لبنان كلما اقترب موعد هذا الاستحقاق في 15 مايو/أيار المقبل، وتتجه معظم القوى السياسية إلى قطع الشك باليقين في أن الانتخابات ستجري في موعدها بعدما كانت بعض القوى السياسية تمني النفس بتأجيل هذه الانتخابات لاعتبارات تتعلق بتراجع شعبية بعضها وعدم استعداد البعض الآخر.
إلا أن أغلب القوى السياسية وحتى المهتمين بالشأن اللبناني أو المتابعين له، داخليًا وخارجيًا، ينظرون إلى هذا الاستحقاق على أنه مفصلي، بعضهم يراه مفصليًا انطلاقًا من تجديد شرعيته بعد “انتفاضة” 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي شككت في شرعية وشعبية القوى السياسية، وبعضهم انطلاقًا من محاولة الفوز بالأكثرية النيابية على اعتبار أن المجلس المقبل سيعيد تكوين السلطة في لبنان سواء من خلال تشكيل حكومة جديدة أم من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية نهاية الصيف المقبل، وبعضهم الثالث انطلاقًا من اعتبار الاستحقاق فرصة للتغيير بعد أن سُدت المنافذ أمام الحلول.
وعليه فإن القوى السياسية اللبنانية سواء التي تخوض هذا الاستحقاق أم تلك التي نأت بنفسها عنه، تعتبر أن الاستحقاق مفصلي، لذلك فإن الخوض فيه يتيح استخدام الأسلحة كافة، المشروعة منها وغير المشروعة، ومن بين تلك الأسلحة المال والشحن الطائفي.
المال الانتخابي
رغم أن قانون الانتخابات حدد سقف الإنفاق المالي في الانتخابات (750 مليون ليرة إضافة إلى مبلغ 50 ألف ليرة عن كل ناخب بالدائرة لكل مرشح، و750 مليون ليرة عن اللائحة لكل مرشح في اللائحة، أي نحو 75 ألف دولار لكل مرشح بشكل كامل)، فإن الإنفاق المالي للمرشحين يفوق ذلك بكثير، ومن مظاهر ذلك:
– المال الذي يُنفق على الدعاية والإعلام، وهنا نتحدث عن أرقام خيالية، فكلفة مقابلة تليفزيونية واحدة على شاشة إحدى القنوات اللبنانية تصل الدقيقة فيها إلى ألف دولار أمريكي، ناهيك بالصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها من وسائل الإعلام.
– المال الذي يُنفق على التواصل مع الناخبين والحضور بينهم (زيارات، لقاءات، إلخ)، وهنا أيضًا يجري الحديث عن أرقام فلكية في ظل ارتفاع سعر المحروقات، فثمن صفيحة البنزين يقارب نصف مليون ليرة لبنانية، وبالتالي فإن كلفة الجولات الانتخابية مرتفعة.
– المال الذي يُدفع على الإفطارات والسحور في شهر رمضان للناخبين وكلفة وجبة الشخص الواحد في بعض المطاعم والفنادق أكثر من 30 دولارًا أمريكيًا.
– المال الذي سيدفع لتأمين انتقال الناخبين من بيوتهم إلى مراكز الاقتراع في ظل الأسعار المرتفعة للنقل في لبنان، وهذا من غير الممكن احتسابه الآن.
من المنتظر أن يشهد يوم الانتخاب المزيد من دفع الرشوة والمال الانتخابي من خلال “بونات” البنزين واستئجار السيارات الوهمي
– المال الذي سيدفع للمندوبين في الماكينات الانتخابية سواء في مراكز الاقتراع أم الذين سيعملون على تأمين وصول الناخبين إلى تلك المراكز، ويجري الحديث عن 5 ملايين ليرة لكل مندوب.
– المال الذي سيدفع لشراء الذمم وهو الأخطر في هذا السياق الذي سيكون على هيئة مساعدات مالية نقدية أو عينية في ظل أزمة معيشية صعبة وخانقة يعيشها اللبنانيون، ما سيسهل عملية شراء الأصوات، وقد شرعت بعض القوى السياسية واللوائح المتنافسة في عملية شراء الأصوات والذمم سواء من خلال المفاتيح الانتخابية التي عادة ما تحصل مع أشخاص لهم “مونتهم” على عائلاتهم أو على أحزابهم أو على مجتمعاتهم، وهذه “اللعبة” تكاد تمارسها القوى السياسية كافة، أم من خلال الدفع المباشر للناخبين بشكل نقدي أو عيني، وهنا يجري الحديث عن أموال طائلة يتم دفعها للناخبين على هيئة مساعدات.
وفي هذا السياق جرى الحديث عن أن أحد المرشحين في العاصمة حجز 30 ألف بطاقة تموين بقيمة 30 دولارًا أمريكيًا لكل بطاقة وشرع في توزيعها على ناخبي العاصمة، بينما وزع منافس آخر له مساعدة عينية على بعض الناخبين بقيمة 300 ألف ليرة لبنانية، في حين وزعت جهة حزبية قوية ونافذة مغلفات فيها أموال نقدية بقيمة مليون ونصف مليون ليرة لبعض ناخبي بيروت، في حين يجري الحديث أن إحدى اللوائح التي توحي أنها مدعومة من دول عربية وخليجية ستشرع في ضخ أموال على هيئة مساعدات عينية ونقدية لناخبي العاصمة في وقت قريب، حتى إن بعض المرشحين أخذوا يتبادلون الاتهامات بالإنفاق المالي لشراء الناخبين كما حصل في دائرة بيروت الأولى، ويكاد هذا المشهد يسري على كل الدوائر الانتخابية الأخرى وعددها الكلي 15 دائرة.
كما من المنتظر أن يشهد يوم الانتخاب المزيد من دفع الرشوة والمال الانتخابي من خلال “بونات” البنزين واستئجار السيارات الوهمي وغير ذلك من الأساليب، ومن المنتظر أيضًا أن يتم الدفع “كاش” وبالعملة الصعبة يوم الانتخاب لدفع الناخبين للاقتراع لصالح هذا المرشح أو ذاك مع الإشارة، وللأسف، أن بعض الناخبين باتوا يتحينون تلك اللحظة ويعتبرون ذلك فرصة لهم لكسب بعض المال في هذه المحطة.
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب – إن لم نقل كل القوى السياسية – تنخرط في هذه العملية، لكن كل فريق بحسب قدرته وإمكاناته المالية والمادية باستثناء قلة قليلة من القوى ترفض ذلك، كما تجدر الإشارة إلى أن الحديث يجري عن إغداق بعض السفارات عطاءاتها لبعض الشخصيات أو القوى السياسية، إلا أنه لا يوجد أي دليل على ذلك سوى مظاهر الإنفاق الكبير الذي تنفقه تلك الشخصيات والقوى وهي بالأساس لا تملكه.
الشحن الطائفي
إذا كان المال الانتخابي أحد الأدوات التي تُستخدم في المعركة الانتخابية، فإن الشحن الطائفي والمذهبي لا يقل أهمية ودورًا عنه، خاصة في ظل القانون الانتخابي الذي اعتمد القانون النسبي إلا أنه أتاح للناخبين منح صوتهم التفضيلي لمرشح واحد، ما فتح المجال من ناحية للمال الانتخابي وشراء الذمم، ومن ناحية ثانية لإطلاق العنان للشحن والخطاب الطائفي والمذهبي المنفلت في أغلب الأحيان من أي ضوابط.
لن تشكل الانتخابات المقبلة فرصةً حقيقيةً للتغيير الحقيقي في لبنان للخروج من الأزمة
إن الدستور جعل المقاعد النيابية مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيًا عند كل منهما، وقانون الانتخاب اعتمد النسبية مع الصوت التفضيلي، ورغم أنه لم يُلزم الناخب بمنح صوته التفضيلي للمرشح الذي ينتمي إلى طائفته أو مذهبه، فإن هذا ما يحصل عمليًا، هو ما أطلق عند المرشحين العنان لاعتماد خطاب طائفي لم تسلم منه كل القوى السياسية بشكل عام.
فهناك الذي يرفع شعار استعادة الدور المسيحي والحقوق المسيحية، وكأن هناك من سلب المسيحيين في البلد حقوقهم ودورهم، وهناك من يرفع شعار رفض إقصاء المسلمين السُنة وتهميشهم في إدارات الدولة وكأن هناك من يريد الإطاحة بهم مع أنهم “طائفة” مؤسِسة في لبنان.
وهناك من يخوض حربًا حتى لا يتم محاصرة الشيعة وهم الذين يتولون اليوم في البلد الشأن كله، وكأن هناك من يحاصرهم أو ينفيهم، وهناك من يعلن صباحًا ومساءً أن هناك مؤامرة لضرب الدروز، وهكذا كل فريق أو طرف أو مرشح يعمد إلى الشحن الطائفي أو المذهبي لضمان أن يمنحه ناخبو المكون الذي ينتمي إليه صوتهم التفضيلي ولو على حساب الوحدة الوطنية أو حتى لو أدى ذلك إلى صناعة المتاريس داخل النفوس وهو ما أدى بلبنان إلى ما وصل إليه.
من الواضح أن هذه الانتخابات المحكومة سلفًا بعاملي المال والعصبية الطائفية والمذهبية لن تشكل فرصةً حقيقيةً للتغيير الحقيقي في لبنان للخروج من الأزمة، فالطبقة السياسية الحاكمة تمكنت بعد انتفاضة 17 تشرين 2019 من إعادة اللبنانيين إلى المربعات الطائفية والمذهبية بعد أن كانوا قد باتوا قاب قوسين من بناء دولة مؤسسات خارج القيود الطائفية والمحاصصات السياسية والكيديات الشخصية، لكن يبقى المهم والأمل أن يتم المحافظة حاليًّا على التوازن القائم حتى لا يقع البلد تحت “هيمنة” فريق واحد في حين أنه بلد التنوع والاختلاف.