كما واقع الكبار من الأسرى، تلاحق “إسرائيل” الأطفال الفلسطينيين، دون تفرقة بينهم، حيث التنكيل وقسوة التعذيب التي يتعرضون لها عند اعتقالهم والاعتداء عليهم بالضرب في أثناء التحقيق لإجبارهم على الإدلاء بمعلومات غير صحيحة، بما يخالف قواعد القانون الدولي واتفاقية الطفل.
ولصغار القدس نصيب الأسد من حملات الاعتقال التي تنفذها الشرطة الإسرائيلية عند اشتعال الأحداث كما يجري اليوم في المسجد الأقصى.
ولم تكتف بذلك، بل اغتنمت الفرصة لتشويش عقولهم وبث مزاعم تاريخية مزيفة لهؤلاء الصغار الذين لم تتجاوز أعمارهم الـ14، لا سيما أنها تزج بهم في مكان يسمى “الإصلاحية” بعيدًا عن الأسرى الكبار، ليختلطوا بالجنائيين اليهود، ما يشكل خطرًا على حياتهم ومعتقداتهم الوطنية.
منذ عقود طويلة، يعاني أهالي الأطفال المعتقلين خاصة المقدسيين من محاولات تهويد أدمغة أبنائهم خلال وجودهم في الإصلاحية ويكتشفون عند زيارتهم أو بعد الإفراج عنهم تغيرًا في سلوكياتهم وأفكارهم، وينظرون للمحتل بعين الساعي للسلام تارة، وتتغير نظرتهم للمعتقلات تارة الأخرى، فيرون فيها مكانًا لمروجي المخدرات وأصحاب السلوكيات غير الأخلاقية وليست للثوار والأبطال.
يذكر أنه منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، قدر عدد الأطفال الذين اعتقلوا بما يزيد على 50 ألف من الذكور والإناث، وذلك كما أورده تقرير هيئة شؤون الأسرى والمحررين الذي صدر في أبريل/نيسان الحاليّ، وخلال العام الحاليّ جرى اعتقال أكثر من 200 طفل، وما زالت “إسرائيل” تحتجز في سجونها ومعتقلاتها قرابة 160 طفلًا.
يستعرض “نون بوست” أبرز الأساليب التي تلجأ إليها “إسرائيل” لترويع المعتقلين الصغار لانتزاع تهم لم يرتكبوها، وكيف تشوه أفكارهم وثوابتهم الوطنية خلال وجودهم في الإصلاحية.
أحمد مناصرة.. أحد ضحايا محاولات تهويد الدماغ
من الحالات التي كانت هدفًا لمصلحة السجون والعمل على تهويد دماغها كونها باتت أيقونة الحرية، هو الفتى أحمد مناصرة الذي اعتقل في سن الثانية عشر خلال انتفاضة القدس 2015، وخلال التحقيق ظهر فيديو مسرب لضابط الإسرائيلي يضغط عليه لانتزاع اعترافات لم يرتكبها وبقي يردد “مش متذكر”.
بعد أيام من التحقيق معه وانتهائه من الإجراءات اللازمة في المستشفى بعد تعرضه لإصابة في أثناء اعتقاله، نقل إلى الإصلاحية وبات الاختصاصيون النفسيون ومشرفو السلوك يتقربون له بالتودد، بحجة أنهم يريدون مساعدته للخروج من السجن لكن عليه الاعتراف ببعض الأمور.
لم يكتف الاختصاصيون بذلك، بل لعبوا على وتر الثوابت الوطنية وباتوا يلغون المفاهيم الفلسطينية “لا نكبة، لا احتلال، لا نكسة، لا مجازر ارتكبت ضد الفلسطينيين، و”إسرائيل” تريد السلام”، ويجذبون عاطفته بالمحرقة التي تعرض لها اليهود على يد النازية.
حين أتم مناصرة 14 عامًا انتقل إلى سجن مجدو الذي يقبع فيه الأشبال والكبار، وهناك بدأوا يشعرون بتغيرات على الفتى مثل العنف والعصبية المفرطة وبعض الاضطرابات النفسية، وعند النقاش في أمور وطنية يحتد ويدافع عن “إسرائيل” ويؤكد للأسرى أنها أقيمت من أجل السلام.
انتبه الأسرى لما يحدث مع مناصرة، وسرعان ما تم احتضانه كما جرت العادة مع مثل هذه الحالات التي تصلهم من الإصلاحية حيث التشويش في الأفكار والسلوكيات العدوانية، فعملوا على تثبيت المفاهيم الوطنية لديه وأشركوه في الكثير من الأنشطة والفعاليات.
ليس مناصرة وحده من تعرض لحالات التشويش الفكري للقيم الوطنية، بل صعقت والدة الطفل “محمد. ح” – 11 سنة ونصف – من مدينة القدس عند خروجه من الإصلاحية بأن صغيرها بعدما مكث ثلاث سنوات خرج بشخصية أخرى رغم أنها كانت تتابعه خلال الزيارة.
سلوكيات الصغير محمد لم تشبه أقرانه، لتكتشف الأم بعدها أنه ارتبط مع جهاز الشاباك الإسرائيلي وينقل أخبارًا لجنود الاحتلال، وسريعًا تدارك ذويه الأمر فاحتضنوه أكثر وعملوا على توعيته وتفنيد ادعاءات المحتل، واكتشفوا أنه تعرض للتهديد حال لم يتعاون معهم.
أشكال التعذيب التي يتعرض لها الصغار في الأسر
تشكل سياسة اعتقال الأطفال إحدى السياسات الثابتة التي ينتهجها الاحتلال، وتتركز عمليات اعتقالهم في البلدات والمناطق القريبة من المستوطنات المقامة على أراضي بلداتهم، وكذلك المخيمات والقدس.
كما تشير الإحصاءات والشهادات الموثقة للمعتقلين الأطفال إلى أنه عند اعتقالهم والتحقيق معهم تعرضوا لشكل أو أكثر من أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، عبر جملة من الأدوات والأساليب الممنهجة المنافية للقوانين والأعراف الدولية والاتفاقيات الخاصة بحقوق الطفل.
وما تفعله سلطات الاحتلال، يشكل انتهاكًا لحقوق الأطفال الأسرى، ويخالف القانون الدولي، خصوصًا اتفاقية الطفل المادة (16) التي تنص على: “لا يجوز أن يجري أي تعرض تعسفي أو غير قانوني للطفل في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله أو مراسلاته ولا أي مساس غير قانوني بشرفه أو سمعته”، وتنص أيضًا على أن “للطفل الحق في أن يحميه القانون من مثل هذا التعرض أو المساس”.
كما يحدد الاحتلال سن الطفل بما دون الـ16 عامًا، وذلك وفق الجهاز القضائي الإسرائيلي الذي يستند في استصدار الأحكام ضد الأسرى الأطفال إلى الأمر العسكري رقم “132”، الذي حدد فيه سن الطفل، وفي هذا مخالفة صريحة لنص المادة رقم “1” من اتفاقية الطفل التي عرفت الطفل بأنه (كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشر).
ومن أشكال التعذيب التي يتعرض لها الصغار عند اعتقالهم:
– الضرب الشديد منذ لحظة الاعتقال بواسطة البنادق والدعس عليهم من الجنود.
– إطلاق الكلاب البوليسية المتوحشة عليهم.
– التعذيب والشبح والإهانات والتهديد خلال عمليات الاستجواب.
– إجبارهم على الإدلاء باعترافات تحت الضرب والتعذيب والتهديد باعتقال أفراد الأسرة.
– عزل الأطفال في زنازين انفرادية وحرمانهم من زيارة الأهل والمحامين.
– ربط الأطفال المصابين بأسرة المستشفيات وتحت الحراسة والمعاملة السيئة.
– دمجهم مع الجنائيين الإسرائيليين، وبالتالي يحدث خرقًا في صفوف الصغار ويتعلمون بعض السلوكيات.
وفي هذا السياق يذكر أمجد أبو عصب رئيس لجنة أهالي أسرى القدس أن الإصلاحية التي يمكث فيها الصغار المعتقلون دون الرابعة عشر، هي بالأساس مؤسسة اجتماعية، لكن يديرها جهاز المخابرات الإسرائيلي، موضحًا أن “إسرائيل” تستخدمها لاعتقال الصغار من المقدسيين لأن القانون الدولي والإسرائيلي يمنع احتجازهم في المعتقلات العادية.
وأوضح أبو عصب لـ”نون بوست” أن الإصلاحية بها خبراء نفسيون يتلقون تعليمات من جهاز المخابرات ويعملون على تنفيذها، مشيرًا إلى أنه بعد اعتقال مناصرة، كانت المحكمة الإسرائيلية بحاجة إلى مسوغ قانوني جديد، فأقرت حينها (أيليت شكد) وزيرة العدل تفعيل قانون ينص على أن كل من يعتقل على محاولة قتل ولم يتجاوز عمره الرابعة عشر يتم وضعه في الإصلاحية ثم تعاد محاكمته.
ومن خلال متابعة أبو عصب لوضع الأطفال في الإصلاحية، ذكر أنهم يتعرضون للضرب والتنكيل والترهيب، عدا عن أساليب التودد من المشرفين لانتزاع اعترافات منهم وأخبار عن المقدسيين من خلال جلب “ألعاب وشيكولاتة” للصغار، وإقامة علاقات ودية لدس السموم في عقولهم لإقناعهم بعدم وجود نكبة 1948، وهناك فقط ما يسمى قيام دولة “إسرائيل”، ولا يوجد شيء اسمه جنود احتلال بل رجال أمن.
ويوضح أبو عصب أن مشرفي الإصلاحية يعملون على تغذية عقول الصغار بمصطلحات غريبة لإبعادهم عن قضيتهم، وينظرون إلى “إسرائيل” على أنها دولة محترمة وديمقراطية تراعي شعور الغير، وذلك عبر خطط قصيرة وطويلة الأمد من أجل زعزعة ثقة الصغار.
الضرب والتجويع والتهديد بالاغتصاب
وعن أبرز السلوكيات التي تتبع داخل الإصلاحية مع الأطفال المعتقلين لانتزاع الاعترافات، يقول أبو عصب: “يعملون على تدمير نفسيتهم من خلال الضرب والتجويع والتهديد بالاغتصاب أو اعتقال أفراد أسرتهم لا سيما الأم أو الأخت، عدا عن سيل الشتائم البذيئة وحجزهم مع الجنائيين بشكل متعمد ليكتسبوا منهم صفات سلبية”.
وتابع أبو عصب “ينتهج القائمون على الإصلاحية أساليب ملتوية كالكذب على الأطفال للإدلاء باعترافات لم يقترفوها مقابل الإفراج عنهم (..) لا يهم الضابط الإسرائيلي صحة المعلومات بقدر إظهاره أن الطفل استهدف الأمن”.
ويؤكد أن الإصلاحية تصيب الأطفال بخيبة أمل تجاه “السجن” الذي يسمعون عنه من ذويهم بأنه مكان الأبطال، لكن بعد تجربتهم وسط الجنائيين والتعرض للضرب والتنكيل والتهديد بالقتل بواسطة “الشفرات” يحقق الاحتلال مبتغاه من ردع الصغار وخلق حالة من الهلع والنفور من الأسرى.
“كما يستغل الاحتلال وجود الأطفال دون الرابعة عشر في الإصلاحية، ويعتبرون أنه من السهل تشكيل خلفيتهم الأخلاقية، فيحرضونهم على ذويهم ويوهمونهم أنهم مستقلون بشخصيتهم ويمتلكون الحرية في تصرفاتهم دون رقيب، وبالتالي يقع الأطفال في الفخ من خلال دس أفكار مسمومة في عقولهم”، يقول أبو عصب.
مضيفًا “كثير من الأهالي فور الإفراج عن أولادهم يلجأون للمؤسسات التي تعني بالأسرى، طالبين المساعدة بسبب التغيير الذي لامسوه على أبنائهم كالعصبية والأفكار الغريبة”.
ورغم احتجاز “إسرائيل” العشرات من الصغار داخل الإصلاحية ومحاولتها تشويش أفكارهم لخلق جيل يحمل أفكارًا مسمومةً، فإن هؤلاء الأطفال ينتصرون عليها حين يقضون بقية محكوميتهم بين الأسرى الكبار ويكتسبون منهم المفاهيم الوطنية.