يصف ديفيد بن غوريون، مؤسِّس الاحتلال الإسرائيلي، أهمية النقب في الفكر الاستعماري الصهيوني، بقوله: “إذا لم نصمد في الصحراء، فستسقط تل أبيب”، متماشيًا مع ما أعلنه في خطابه أمام كنيست الاحتلال عام 1951، حين وصف صحراء النقب بأنها “مشروع الأمة”، معطيًا بذلك الإشارة للمؤسسات الصهيونية لبدء العمل على إيجاد الاستراتيجيات اللازمة لاستيطان النقب وتهويدها، عبر آليات مصادرة الأراضي وتجريفها وهدم البيوت والقرى.
وانطلاقًا من رؤية بن غوريون، بدأت “إسرائيل” العمل على سنّ قوانين للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، متسلحةً بذلك بقضاء الاحتلال الذي يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من منظومة الاستعمار الصهيوني، وعملت من خلال هذه القوانين على هضم حقوق الفلسطينيين المتواجدين في أرضهم، أو “الغائبين” منهم الذين هجّرتهم العصابات الصهيونية قسرًا إبّان النكبة عام 1948.
عذبوهم ليهجّروهم
في كتابه “حد الصحراء، خط المواجهة”، يشير الباحث الإسرائيلي إيال وايزمان إلى أن الاحتلال طردَ فترة 1948-1953 ما يقارب الـ 90% من عرب النقب إلى الضفتَين الشرقية والغربية، وبعضهم إلى غزة وصحراء سيناء، في أعمال وحشية مارسها الصهاينة في تلك السنوات، تضمّنت قتلًا واقتلاعًا، وحرقًا لبيوت الشعر، وهدمًا لبيوت الحجر، وردمًا لآبار الماء، وصلت إلى حدِّ قصفهم بالطائرات الحربية، التي لم ينجُ منها غير ما يقارب 12 ألفًا و500 عربي من بدو النقب، والذين ظلوا فيها بعد عزلهم في مناطق جافة، وإخضاعهم للحكم العسكري مثل باقي فلسطينيي الداخل المتبقّين بعد النكبة في البلاد.
“تمَّ حرق البيوت والمزروعات، وقتلوا الرجال والنساء وهجّروهم نحو الأودية”
في العودة قليلًا إلى تلك الأيام المظلمة الممتدة حتى اللحظة، تروي الحاجة رقية إبراهيم الصانع لـ“لجنة الحقيقة” في النقب شهادتها حول ما كان من حال الإجرام الصهيوني بحقّ الفلسطيني في النقب، فتقول: “القتل والذبح بدأ في بلاد الشمال، وبعدين دخلوا على المنطقة الغربية وبعدين على السبع.. السما صار لونها أحمر من الطخ والحريق، كل هذا عشان يرعبوا الناس، صاروا يضربوا بالناس ويحملوهم أغراضهم على ظهورهم، وحمّلونا من اللقية على تل عراد، بتذكر إنه مرة ذبحوا 6 أشخاص عشان يخوفوا الناس ويرحّلوهم..”.
وتضيف الصانع أنه تمَّ حرق البيوت والمزروعات، وقتلوا الرجال والنساء وهجّروهم نحو الأودية، مستذكرةً قطع العصابات الصهيونية ليدَي خالها قبل أن يطلقوا النار عليه، وتعذيب شقيقها من خلال قطع أصابع يدَيه.
قوانين سرقة الأراضي
عام 1858 سنَّ الأتراك في فلسطين قانونًا ينص في طياته على استحواذ الدولة على الأراضي التي لا تصل نسبة المساحة المزروعة منها 50%، مع سماح القانون للمزارعين الفلسطينيين استملاك الأرض التي يزرعونها مع حق الولاة العثمانيين باستيفاء الضرائب عنها، إلا أنه وبعد 90 عامًا من هذا القانون جاء الاحتلال الإسرائيلي ليحوّره من وسيلة تضمن فيه الدولة العثمانية زراعة الأرض باستمرار والاستفادة من خيراتها، إلى قانون صهيوني تسرق فيه “إسرائيل” الأراضي الفلسطينية.
استخدم الاحتلال هذا القانون لخلق أراضٍ عامة للمستوطنات اليهودية، حتى إن كانت هذه الأراضي تُزرع من قبل الفلسطينيين، متذرّعة بأنها أقل من 50% من المساحة المفترضة، وقد تمَّ بناء ما يربو على 700 مستوطنة يهودية جديدة بهذه الطريقة.
لم تكن النقب بعيدة عن هذه المعادلة في سرقة الأرض، حيث تعاملت “إسرائيل” مع أراضي البدو باعتبارها أراضي دولة، وسنّت لذلك عددًا من القوانين مثل “قانون الأراضي” الذي ينصّ على أن الأرض لا تُباع إلى الأبد، وهي القاعدة التي وجّهت المؤسسات الصهيونية المعنية بقضايا التهويد والمسمّاة بـ”الكيرين كيميت ليسرائيل” لتطبيق سياسة أنقاض الأراضي، واستنادًا على هذا القانون منعَ الاحتلال نقل الملكية لغير “الدولة” والقومية اليهودية، تأكيدًا على أن الملكية لا تنتقل من خلال البيع أو بأي طريقة، حيث الدولة هي دولة القومية اليهودية وكذلك هو شأن الأراضي.
وفي وسط هذه القوانين، يبرز القانون الأكثر إجحافًا، قانون “أملاك الغائبين” الذي فيه تسرق “إسرائيل” أراضي الفلسطينيين الذين هجّرتهم من أرضهم خلال النكبة، بسبب عدم تواجدهم فيها، والذي عرّفَ الغائب على أنه شخص كان مواطنًا للدول العربية المجاورة في الفترة الواقعة ما بين 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 و19 مايو/ أيار 1948، أو كان فقط متواجدًا في هذه البلدان أو خارج “أرض إسرائيل”، وبمقتضى ذلك صادرت ما يزيد عن 14 ألفًا و397 دونمًا.
عام 1984 أُقيمت قرية شقيب السلام، تبعها بسنوات إقامة قريتَي حورا واللقية
في ستينيات القرن الماضي وجدَ بدو النقب وسكانها الأصليون أنفسهم أمام محاولات إسرائيلية حثيثة لتمدينهم وبناء البلدات والقرى لهم، وهو ما أقدم عليه الاحتلال رسميًّا عام 1969 بتجيمع البدو في تل السبع، البلدة الأولى التي اعترفَ بها الاحتلال كبلدة عربية، تلاها بأعوامٍ قليلة بإقامة بلدة رهط.
حينها كان لا بدَّ من خوض معركة إثبات الحضور، وأن الأرض أصلًا فلسطينية عربية، لن تنجح محاولات تجميع سكانها في مناطق معيّنة والاستيلاء على بقية المناطق، وعليه بدأ فلسطينيو النقب المطالبة بتسجيل أراضيهم.
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والاحتلال، ومع بدء الانسحاب الإسرائيلي من صحراء سيناء بموجب الاتفاقية عام 1982، صادرت سلطات الاحتلال حوالي 100 ألف دونم من بدو النقب، وهي أراضٍ كانت على رأس مطالب البدو بإثبات ملكيتها لهم، وصادرها الاحتلال من أجل إقامة مطار نفاطيم العسكري في منطقة تل الملح المحاذية لبلدة كسيفة.
وقد كانت هذه المنطقة واحدة من أكثر المناطق الصالحة للزراعة في النقب، وكانت مأهولة بالسكان العرب الذين أخلتهم حكومة الاحتلال، وأقامت لهم قريتَين هما كسيفة وعرعرة النقب في العام ذاته، فيما هاجر بقية السكان من عشائر الزبارقة والنصاصرة وأبو عرار إلى منطقة المثلث والطيبة وقلنسوة وكفر قاسم وأيضًا إلى اللد والرملة، وفي عام 1984 أُقيمت قرية شقيب السلام، تبعها بسنوات إقامة قريتَي حورا واللقية.
قرى غير معترف بها
“البدو، بحسب التعريف المعهود لهم، لا يستطيعون أن يكونوا ملّاكَ أراضٍ”، قرار أنكرت فيه المحكمة المركزية في بئر السبع عام 1982 أحقية الفلسطينيين في أرضهم، واعتبرت جميع ادّعاءات البدو على الأرض غير عادلة، وأن سلطات الاحتلال كانت “كريمة” جدًّا في توجُّهها للبدو للتوصُّل إلى حل وسط، هذا القرار المجحف الذي يلخّص تواطؤ قضاء الاحتلال مع حكومته، دفع بدو النقب للإدراك أن اللجوء للمحاكم أمر لا جدوى منه، فكيف سيحكم الخصم ضد نفسه؟
تزامنَ قرار المحكمة العنصري مع توسُّع كبير في حركة الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وقد أوحى معطيات المشهد الفلسطيني للبدو حينها أن السبيل الوحيد للحفاظ على الأرض هو التشبُّث فيها والبناء العشوائي، ما سيفرض وقائع على المحتل لم تكن بحسبانه، وكان البناء في غالبه من ألواح الزينكو، قبل أن يتطور إلى الأسمنت والحجر واستبدال البيوت بالخيام.
وهنا بدأت تنشأ القرى غير المعترف بها من قبل الاحتلال في النقب، وبدأ الفلسطينيون النضال من أجل حقوقهم وقد أثمرَ نضالهم بولادة المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها عام 1997، الذي يُعتبَر الهيئة العليا لهذه القرى، وتحوّل من نضال فردي إلى نضال جماعي وسياسي، وفي عام 1999 أصدر المجلس الإقليمي خارطة تاريخية بأسماء القرى غير المعترف بها ومواقعها، مؤكدًا على وجوب الاعتراف بها ومنحها الخدمات اللازمة.
تحريفُ الحقيقة: “البدو مستوطنون”!
بلغت عملية تهويد النقب ذروتها مع إقرار حكومة الاحتلال عام 2005 للخطة القومية الاستراتيجية لتطوير النقب، والتي تهدف إلى زيادة عدد اليهود إلى قرابة مليون نسمة في الصحراء الفلسطينية مقابل ما لا يزيد عن 200 ألف نسمة للعرب، في وقتٍ يخوض فيه البدو منذ بداية الألفية الثانية معركة قضائية في محاكم الاحتلال، التي لم تنجح بإثبات مزاعم تبعيتها للدولة، وأيضًا لم تتمكن من دحض مستندات الطابو التي تؤكد ملكية البدو لـ 800 ألف دونم في النقب.
وليس سنّ القوانين التي يُسرق فيها الأراضي ما يبدع فيه الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل أيضًا احترفَ مهنة حرف الحقائق، كما احترف المهنة ذاتها في إنكار وجود الشعب الفلسطيني حين خطّط احتلال فلسطين، ففي محاولات تهويده للنقب وسرقة أرضها، سنَّ مشروع قانون “تنظيم استيطان البدو في النقب” عام 2013، والذي ادّعى فيه أن بدو النقب مستوطنون، وعليه لا بدَّ من تنظيم استيطانهم في الأرض “اليهودية” وفق ادّعائه.
رصدت الحكومة الإسرائيلية ميزانية قيمتها 25 مليون دولار للشروع في تنفيذ مخطط يقضي بإقامة 100 مزرعة جديدة، إضافة إلى 41 مزرعة فردية أقامها اليهود بشكل غير قانوني على أراضي الفلسطينيين في النقب
مشروع القانون هذا جاء ضمن مخطط برافر-بيغن الذي صادقت عليه كنيست الاحتلال في العام نفسه، والذي يقرر هدم 20-40 قرية عربية، وترحيل عشرات الآلاف من البدو من بيوتهم إلى ما يُسمّى مناطق تركيز هي أقرب للمعتقلات الجماعية، ومصادرة أكثر من نصف مليون دونم من أراضي البدو، ومحاولة تهويد وعسكرة الجنوب، ومنع أي تواصل جغرافي ما بين النقب وغزة وسيناء.
تبع ذلك، وعشية المصادقة على مخطط برافر-بيغن بالقراءتَين الثانية والثالثة، إعلان وزارة استيطان الاحتلال عن خططها لبناء 5 مستوطنات في المنطقة الواقعة بين مدينتَي بئر السبع وديمونا، وقد أطلقت الوزارة على المستوطنات الخمس أسماء عومريت، غبعوت عدريم، تيلم، تلما وتلباه.
ومؤخرًا رصدت الحكومة الإسرائيلية ميزانية قيمتها 25 مليون دولار للشروع في تنفيذ مخطط يقضي بإقامة 100 مزرعة جديدة، إضافة إلى 41 مزرعة فردية أقامها اليهود بشكل غير قانوني على أراضي الفلسطينيين في النقب، وستخصِّص مساحة مقدارها 80 دونمًا مجانًا لكل عائلة يهودية توافق على الاستيطان بالمنطقة.
تشجير النقب: مشروع أخضر ملطّخ بالدماء
بلُغة توحي بالسلام، كثعلب يحاول أن يوهم فريسةً بصدق نواياه، يعلن الصندوق القومي اليهودي “كاكال” عن خطة في النقب لجعلها “سهلًا عشبيًّا”، وهو ما أُطلق عليها “خطة النقب 2020”، وفيها أعربت حكومة الاحتلال عن نيتها باستقدام 300 ألف مستوطن جديد إلى النقب، عبر تهجير السكان الأصليين له ونزع ملكيتهم للأرض، بالإضافة إلى توظيف 200 ألف آخرين في تلك المنطقة، إلى جانب دعم الاقتصاد المحلي البدوي، كما سمّاه.
بالنسبة إلى الصندوق القومي اليهودي، فإن تحريج النقب وتشجيرها وجعلها سهلًا عشبيًّا كما يصف، يهدف في طياته إلى مواجهة ظاهرة التصحُّر، ودفع خط تمدُّده من شمال النقب إلى جنوبه، ومن ثم تضييق المراعي على سكان النقب عبر تحريجها ومنع عودة القطعان إليها، في سياسة كان أهم أغراضها نزع أهم مورد معيشي من أهل النقب، وهو تربية الماشية، والذي اعتمده البدو على مدار مئات السنين في ديارهم.
تعود لغة التحريج هذه إلى أبيها الروحي في الفكر الصهيوني يوسف فايتس، الذي شغل منصب رئيس دائرة الأراضي والتحريج في الصندوق القومي اليهودي، إذ لم يرَ فايتس بالتحريج مجرد أداة للتدخُّل البيئي فقط، بل أنه “بمثابة إعلان عن بعث سيادة الطبيعة اليهودية على البلاد، بالإضافة إلى أثر التحريج في خلق واقع جغرافي-سياسي، وتمكينه على الأرض”، كما كان فايتس واحدًا من بين 3 في “لجنة الطرد والإبعاد” عام النكبة، والذين دعوا إلى اقتلاع الفلسطينيين وزرع الشجر على أنقاضهم.
في عام 2020 كشفت صحيفة “هآرتس” أن الصندوق القومي اليهودي أطلق عمليات لتشجير نحو 40 ألف دونم من أراضي النقب، بهدف إبعاد أصحاب هذه الأراضي من قريتَي شقيب السلام وأبو تلول عنها، ومنعهم من استخدامها لأغراض الرعي والزراعة، وأقرّت الصحيفة، نقلًا عن مصادر مختلفة، أن عملية التشجير تحت “ذريعة منع البدو العرب من السيطرة على هذه الأراضي بادّعاء أنها أراضٍ للدولة”.
تعاقبت الحكومات، تغيّرت الوجوه التي قادت “إسرائيل”، إلا أن عمل الاحتلال كمؤسسة بقيت على خطى أول رئيس وزراء للاحتلال، تعمل بنصيحة بن غوريون الذي أوصى قبل مماته أن يُدفن في مستوطنة “سديه بوكير” المقامة على الأراضي الفلسطينية في صحراء النقب، وأصدرت الحكومات من أجل ذلك عددًا من القوانين، وباشرت في مشاريع استيطانية هدفها التهام الصحراء الفلسطينية.