في السياسة، مبدأ لا بد منه “القوي اقتصاديًا، قوي سياسيًا”، فلا يمكن لك كـ”دولة” تريد فرض أوراق قوتها على العالم، أن تكون مترهلةً اقتصاديًا، تستجدي العالم في دعم اقتصادك، وتتبع كبرى اقتصادات العالم، وهذا ما وعاه الاحتلال جيدًا منذ قيامه واحتلال الأرض وتهجير الفلسطينيين، ووضع لأجله مخططات عدة لنموه الاقتصادي.
وفي معادلة الاستعمار، فإن استقدام مستوطنين أكثر، يعني – عادةً – نموًا اقتصاديًا أكبر، فقد سُجلت أعلى معدلات نمو في الخمسينيات والستينيات عندما بلغت هجرة المستوطنين معدلات عالية، بينما سُجلت أقل معدلات نمو في الثمانينيات مع تراجع الهجرة اليهودية، وبينما كان متوسط دخل المستوطن في فلسطين المحتلة يساوي ضعفين ونصف ضعف دخل الفرد العربي في فلسطين سنة 1947، فإنه يبلغ الآن نحو 15 ضعف دخل الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، فكيف إن اجتمعت خطط زيادة أعداد المستوطنين مع خططٍ اقتصادية في مكانٍ واحد، كما يحدث جليًا في النقب؟
مخطط أمريكي قديم
بين الدول العربية، تنحصر “إسرائيل” كدولة مستعمرة، منفذها المائي الوحيد لاقتصادها البحر الأبيض المتوسط، في ظل ما تمثله السفن كمنفذ أساسي وشبه وحيد لتصدير واستيراد البضائع والوقود، لذلك كانت “إسرائيل” تنظر دومًا بعين الحذر والترقب المستعد لأي خطرٍ يهدد ملاحتها البحرية ويعيق نمو بنيتها في عمق المتوسط، بوابتها الأولى للنمو الاقتصادي.
ومسيرة يومٍ كامل من الإبحار، تبعد موانئ الاحتلال البحرية عن قناة السويس المصرية، ما يعزز من أطماعها في منافسة الموانئ على قناة السويس، وأن تحيك الخطط لترسيخ نفسها كموانئ تبديل وتوزيع بذات المؤهلات التي حققتها الموانئ المصرية.
في عام 2021، مع جنوح سفينة “إيفر غيفن” في قناة السويس، والأضرار الاقتصادية الهائلة التي لحقت العالم جراء تعطل حركة التجارة العالمية في إحدى أهم قنوات التجارة حول العالم، لم تخف “إسرائيل” مطامعها القديمة/الجديدة في شق قناة مائية في النقب، تستعيض بها دول العالم عن قناة السويس في دولة عربية، وتعزز بذلك وجود صديقتها “إسرائيل” في المنطقة.
في ذات الشهر الذي جنحت فيه “إيفر غيفن” نشرت صحيفة بيزنس إنسايدر مذكرةً أمريكيةً، رفعت عنها السرية عام 1996، ذكرت فيها أن الولايات المتحدة درست اقتراحًا باستخدام 520 قنبلة نووية لصنع بديل عن قناة السويس عبر الأراضي المحتلة في النقب في ستينيات القرن الماضي.
وتشير المذكرة المنشورة عام 1963 الصادرة من مختبر لورانس ليفرمور الوطني المدعوم من وزارة الطاقة الأمريكية إلى أن امتداد القناة المائية كان سيكون – لو تمت العملية – من البحر الميت عبر صحراء النقب، بطول 160 ميلًا عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد ادعت المذكرة وجود 130 ميلًا من “الأراضي القاحلة الصحراوية غير المأهولة فعليًا”، منكرة الوجود الفلسطيني فيها، ما يؤهلها لاستخدام أساليب الحفر النووية.
بوضوح، تقول المذكرة إن مثل هذه القناة ستكون “بديلًا إستراتيجًيا قيّمًا عن قناة السويس الحاليّة، وربما تسهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية”، واقترحت مسارات عدة محتملة لها، منها ما يمتد عبر صحراء النقب ويربط البحر الأبيض المتوسط بخليج العقبة، فاتحًا طريقًا إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي.
التطبيع العربي.. النقب ممر مائي مرة أخرى!
لتثبيت دعائمه، عمل الاحتلال حثيثًا، خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على عقد مؤتمرات لرجال الأعمال اليهود في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لإغراء رأس المال الأمريكي والأوروبي للاستثمار، وحاول جاهدًا استقطاب الشركات متعددة الجنسيات لتكون الأراضي المحتلة وجهتها القادمة، إلا أنه لم ينجح بذلك، والسبب المقاطعة العربية لـ”إسرائيل” حينها، وعدم استقرار الأوضاع في المنطقة.
لذات السبب، وفي حديثها عن الإشكاليات، طرحت المذكرة الأمريكية القديمة أن إحدى مشكلات حفر ممر مائي في النقب ستتمثل في “الجدوى السياسية، فمن المرجح أن الدول العربية المحيطة بـ”إسرائيل” ستعارض بشدة بناء مثل هذه القناة”.
إلا أن تخوف رجال الأعمال والمستثمرين لم يدم طويلًا، بعد بدء سلسلة اتفاقيات السلام العربية مع الاحتلال، كما أن معضلة المقاطعة العربية لم تعد في أجندة إشكاليات الإستراتيجيات الصهيونية، بعد موجة التطبيع مع الاحتلال التي بدأت بشكل لافتٍ في السنوات القليلة الأخيرة، ما أعاد الشهية مرة أخرى لمخطط الممر المائي في النقب.
بينما يعني النقب الطريق الواصل بين البلدان في القدم، فإن الاحتلال الصهيوني ككيانٍ محتلٍ لم يعزل نفسه عن الاسم أيضًا، بل سرق التسمية ودلالاتها، كما سرق التراب والأرض
قبيل أزمة جنوح السفينة عام 2021، تداولت وسائل الإعلام مشاورات بين الاحتلال والإمارات بشأن حفر قناة مائية جديدة تربط بين البحرين المتوسط والأحمر، مماثلة لقناة السويس، الأمر الذي أثار الغضب المصري، لما تشكله القناة المقترحة من تهديدٍ مباشرٍ لمصالح مصر في الملاحة المائية بالمنطقة، كما أنها يمكن أن تؤدي إلى خفض إيرادات قناة السويس التي تشكل مصدرًا مهمًا للعملة الصعبة في الاقتصاد المصري.
وفي مقالٍ على “تايمز أوف إسرائيل”، تشير الصحيفة العبرية إلى أن المحادثات بشأن الممر المائي المنافس لقناة السويس بدأت بعد 19 يومًا فقط من توقيع اتفاق التطبيع بين أبوظبي وتل أبيب، كما تحدث المقال في الجريدة الإسرائيلية عن أنه خلال الفترة من 2015 إلى 2020 استطاعت قناة السويس أن تدر على مصر أكثر من 27.2 مليار دولار أمريكي، وذلك ارتفاعًا من 25.9 مليار دولار خلال السنوات الخمسة التي سبقت، ما يعني أن هناك طلبًا عالميًا متزايدًا على الملاحة في المنطقة، وهو ما يمكن أن يغري الاحتلال والإمارات بأن يفتحا ممرًا مائيًا في النقب يتقاسم مع المصريين هذه المكاسب.
بينما يعني النقب “الطريق الواصل بين البلدان في القدم”، فإن الاحتلال الصهيوني ككيانٍ محتلٍ لم يعزل نفسه عن الاسم أيضًا، بل سرق التسمية ودلالاتها، كما سرق التراب والأرض، وسعى – ولا يزال يسعى – جاهدًا إلى جعل النقب قبلة التجارة الأولى في الشرق الأوسط عوضًا عن قناة السويس، في إطار حربه السياسية والاقتصادية مع محيطه العربي، وبالاستفادة في الوقت ذاته من التطبيع العربي.