على ثلاثة بحارٍ تطل فلسطين التاريخية، ذات مساحة 27 ألف كيلومترٍ مربع: البحر الميت الذي يفصلها عن الأردن، وقد عمل الاحتلال على تجفيفه رويدًا رويدًا من خلال قطع روافده، والبحر الأبيض المتوسط وعملت العصابات الصهيونية على احتلال معظم مدن ساحله قبيل النكبة عام 1948، والبحر الأحمر أقصى جنوب الصحراء الفلسطينية، حيث تتربع قرية أم الرشراش الفلسطينية رأس المثلث الصحراوي الفلسطيني، أو كما تعرف في الترجمان الصهيوني: إيلات.
كانت الأطماع الصهيونية تتجه نحو النقب وأم الرشراش قبيل النكبة، وقد وجه مؤسس الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون رسالة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1942 إلى إدارة الصندوق القومي “هكيرن هكييمت”، يقول فيها: “النقب يتحول ليصبح المسألة المركزية في كل مشروعنا الصهيوني – الاستيطاني والسياسي – متمثلًا بخليج إيلات والبحر الأحمر”.
عندما احتلت “إسرائيل” رأس النقب
على خلاف المدن الفلسطينية الساحلية المهمة، صمدت أم الرشراش حتى مارس/آذار 1949، قبل أن يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي بقيادة وزير خارجيته آنذاك إسحاق رابين عمليةً عسكريةً عرفت باسم “عفودا”، على هذه القرية التي لا تتجاوز مساحتها 85 كيلومترًا مربعًا، عملية واسعة لاحتلال مدينة تشكل نقطة التقاء فلسطينية مصرية وبوابة الأراضي المحتلة على البحر الأحمر وخليج العقبة، متجاهلًا بذلك قرار مجلس الأمن الدولي 54 الصادر في مايو/أيار 1948، الذي دعا إلى وقف إطلاق النار ومنع أي استحواذ على الأراضي بعد ذلك.
خلال العملية العسكرية، تقدمت قوة عسكرية من جيش الاحتلال من لواء النقب ولواء جولاني تجاه ساحل البحر الأحمر، واحتلت قرية أم الرشراش لتكون مطلًا لها على مياه خليج العقبة، بامتداد يقدر بـ6 أميال، وعلى أنقاض القرية الفلسطينية، أقام الاحتلال مدينة إيلات، واستطاعت “إسرائيل” أن تنشئ فيها تجمعًا استيطانيًا وصناعيًا ضخمًا، إضافة إلى ميناء “إيلات” أحد أهم موانئ الاحتلال.
بوابة الجنوب.. اللاعب الأساسي في “الأحمر”
منح احتلال أم الرشراش الكيان الإسرائيلي هامشًا واسعًا للتنفس في واقع تحيط به الدول العربية وإطلالة بحرية واحدة على البحر الأبيض المتوسط، فبعد احتلال القرية وبناء “إيلات” على رفاتها، بدأ الاحتلال في مطالبته المستمرة بفتح مضيق تيران أمام ملاحته المتجهة إلى ميناء “إيلات”، بل وأصبحت قضية الملاحة في البحر الأحمر ومضيق تيران من ركائز الاهتمامات الصهيونية، كون ميناء “إيلات” الميناء الوحيد الذي تسيطر عليه “إسرائيل” في خليج العقبة والبحر الأحمر، ومنه تستخدم حاويات الاحتلال التجارية مضيق تيران للإبحار من الميناء إلى البحر الأحمر ومن القرن الإفريقي إلى آسيا.
في عام 2016، وبعدما منحت مصر المملكة العربية السعودية جزيرتي تيران وصنافير بموجب اتفاقية بينهما، أضاء مؤشر الحذر في الداخل المحتل، لما تمثله الجزيرتان من مركزاتٍ حيوية في الأمن القومي لـ”إسرائيل”، والحقيقة الأكيدة، لما يعكسه وضعهما على بوابة الجنوب الفلسطينية المحتلة “أم الرشراش – إيلات”، فدونهما لا يمكن اعتبار “إيلات” ميناء تجاري على الإطلاق، لذا حاول الاحتلال بسط نفوذه عليهما أكثر من مرة، بل والترويج أنهما مياه دولية تخضع لأحكام القانون الدولي ولا تقع تحت سيادة أي دولة، وذلك حتى تم توقيع اتفاقية السلام مع مصر التي كفلت لها حرية الملاحة.
حديثًا، بعد موجة التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، عادت مدينة أم الرشراش المحتلة إلى الواجهة، وشرع الاحتلال في وضع المدينة المحتلة على خط نقل البضائع بين الشرق ممثلًا بالصين والهند، وأوروبا، مستفيدًا من التسهيلات التي وهبتها له دول التطبيع كعربون “سلامٍ”.
وبرز من جديد، الحديث عن ممرٍ مائي بتعاون إسرائيلي – إماراتي، تكون مدينة أم الرشراش المحتلة نقطة انطلاقه، ويضاهي في جدواه قناة السويس المصرية، بل يحاول أن يحتل مكانها، لتكون لـ”إسرائيل” اليد العليا في التجارة البحرية في شرق المتوسط والبحر الأحمر، وتتحكم بمنافذ التجارة البحرية ما يكسبها قوة اقتصادية كبيرة.
يدرك العالم جيدًا أهمية مدينة أم الرشراش في القضية الفلسطينية، بل في الصراع العربي الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي، ويدرك جيدًا أن المساس بهذا المنفذ الحساس بمثابة إعلان حرب
في سياقٍ موازٍ، تكتسب المدينة المحتلة أهميةً بالغةً لحكومة الاحتلال من خلال خط أنابيب إيلات – عسقلان، والذي يصل طوله إلى 158 ميلًا، ويربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، وصممً لتكون كلفة ضخ النفط أرخص للخليج، فيكون الاستغناء عن الناقلات التي تعبر السويس برسوم تعود على الخزينة المصرية، وهكذا تتحول المكاسب لمصلحة “إسرائيل”، وكان الخط أيضًا، الذي ينطلق من إيلات، على رأس جدول أعمال الإمارات والاحتلال بعد توقيع اتفاقية أبراهام عام 2020، وذلك من خلال طرح اتفاقية بقيمة تصل إلى 800 مليون دولار على مدى سنوات لإعادة تطوير الخط.
مع هذه الأهمية الاقتصادية والتجارية التي تشكلها مدينة إيلات للكيان المحتل، كان لزامًا عليه كدولة استعمارية، تريد أن تحفظ وجودها في البحر الأحمر وتحفظ مواردها الاقتصادية فيه، أن تنشر من قواتها العسكرية على امتداد مناطق نفوذها في خليج العقبة، حتى باتت الغواصات الإسرائيلية “دولفين” تسرح وتمرح في حوض البحر الأحمر، ومن هناك إلى بحر العرب، حتى تصل إلى شواطئ باكستان، وهي تحمل صواريخ متطورة، ومنها نووية، يبلغ مداها 1200-1500 كم.
لم تكن “إسرائيل” لتنعم باحتلال أم الرشراش المحتلة، لولا الدعم الدولي لها والتوافق العالمي بالصمت على احتلالها، وهو بحسب مركز مالكوم كير -كارينغي للشرق الأوسط ما جعل من إيلات جزءًا شرعيًا من “دولة إسرائيل”، والذي بحسب المركز، “هذا التوافق الدولي نفسه – الذي تتشاركه أكثر من 150 دولة – يعارض ضم الأراضي ويقول بعدم شرعية المستوطنات المموّلة من الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، من غير المقبول التوصل إلى توافق دولي حول إيلات (ومناطق أخرى)، فيما يهمل التوصل إلى مثل هذا التوافق في ما يتعلق بالضفة الغربية أو القدس الشرقية أو مرتفعات الجولان.”
يدرك العالم جيدًا أهمية مدينة أم الرشراش في القضية الفلسطينية، بل في الصراع العربي الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي، ويدرك جيدًا أن المساس بهذا المنفذ الحساس بمثابة إعلان حرب، ولربما هذا السبب ذاته، الذي جعل المدينة المحتلة تحت مرمى نيران المقاومة الفلسطينية في حربها الأخيرة عام 2021، حين قصفت خط إيلات- عسقلان، وهو ذات السبب الذي تشدد “إسرائيل” الحراسة عليه، وتكتب في تصاريح زيارة الداخل المحتل الممنوحة لأبناء الضفة الغربية:” جميع إسرائيل ما عدا إيلات”.