أقل من شهر، ويبدأ العد التنازلي لإجراء الانتخابات النيابية الفاصلة في التاريخ اللبناني، واختيار برلمان جديد يعبر عن تداعيات اللحظة في لبنان ومستقبل الحراك الاستثنائي والفصل في الأزمة الاقتصادية، وفوق كل ذلك اختيار رئيس جديد للبلاد، إذ تنتهي ولاية الرئيس الحاليّ ميشال عون في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، ما يفتح الباب لتنافس كل القوى السياسية لا سيما “حزب الله” للدفع بمن يعبر عن مصالحه في هذا المنصب الحساس بالبلاد.
لماذا رئاسة الجمهورية؟
قد يندهش البعض من التهاب الحملات الإعلامية والسياسية والتربيطات الجارية الآن بين القوى السياسة وامتداداتها وحلفائها في الخارج لاختيار رئيس جديد للبلاد، الدستور يقنن صلاحياته بالأساس ويعتبره منصبًا رمزيًا ليس أكثر، فهو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن الذي يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقًا لأحكام الدستور.
لكن بالتأمل في تشابكات السياسة اللبنانية على أرض الواقع، سنجد أن رئيس الجمهورية يتمتع بأهمية رئيسية في النظام السياسي اللبناني، باعتباره يمثل الطائفة المارونية في التوزيع الطائفي القائم في لبنان، ما يمنحه موقعًا سياسيًا متقدمًا، إذ لم تمنعه تقليص صلاحياته وفق الدستور المعمول به في البلاد منذ عام 1926، من لعب دور مركزي في السلطة الإجرائية للبلاد.
صاحب الحظ في الرئاسة
من المقرر أن تجري الانتخابات الرئاسية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2022 ، بعد ست سنوات من انتخاب الرئيس ميشال عون الذي تقول كل المؤشرات إنه عازم على دعم ترشيح صهره جبران باسيل قائد الكتلة النيابية للتيار الوطني الحر، لكن النزال يحكمه نتائج الاقتراع البرلماني بأغلبية الثلثين، وإذا تعذر ذلك يجري الاختيار بأغلبية 65 نائبًا من أصل 128 بحسب القانون.
حاليًّا تسيطر أغلبية من التيار الوطني الحر و”حزب الله” على المجلس، وينسق الحزبان من أجل انتخابات برلمانية تعيد إنتاج هذه الأغلبية، ومع ذلك يناور “حزب الله” لآخر لحظة ويرفض تمامًا إعطاء صك التأييد لأي شخص باعتلاء كرسي الرئاسة لأسباب عدة، على رأسها إعادة تسويق صورته باعتباره الرقم الصعب في الانتخابات القادمة وبيده تقرير مستقبل أكبر المناصب في البلاد، ويستند في ذلك إلى ذخيرته من الحلفاء المارونيين الذين يعتمدون على دعم الحزب بشكل شبه كلي للبقاء داخل حلبة السياسة.
“حزب الله”.. الرقم الصعب
“حزب الله” هو صاحب الكلمة العليا في مشهد انتخابي يتنافس فيه عدد كبير من مرشحي المعارضة ضد بعضهم البعض، ومع أن الانتخابات تقدم لها أكثر من 1000 مرشح، وهناك عدد أكبر من النساء والشباب وأكثر من 100 قائمة انتخابية، بما في ذلك المجلس الوطني لإنهاء الاحتلال الإيراني الذي يضم شخصيات مسيحية ومسلمة من المجتمع المدني، فإن الحزب يعرف جيدًا إلى أي مآل ستنتهي النتائج.
يتقن “حزب الله” اللعب على المتناقضات ويعرف كيف يستخدم سياسة العصا والجزرة، وأكثر ما يعبر عن ذلك اللقاء الذي جرى قبل نحو أسبوعين خلال حفل إفطار نظمه حسن نصر الله ودعا له المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية وأحدهما بنسبة كبيرة سيسكن قصر بعبدا خلفًا لميشال عون وهما: جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر وصهر الرئيس الحاليّ ميشال عون وسليمان فرنجية رئيس تيار المردة.
بدا نصر الله خلال اللقاء الذي أقامه لتبريد الصراع بين أقوى الساسة في البلاد، كأنه يوزع رسائل داخلية وخارجية لتأمين دوره كصانع ملوك شيعي للمسيحيين المارونيين حتى في أسوأ ظروف لبنان وتصاعد نبرة العداء ضده خارجيًا لا سيما الخليج، وداخليًا من نشطاء الحراك اللبناني، فمن يقدر على جمع باسيل وفرنجية أشد خصمين على الساحة، لا تزال بيديه أوراق اللعبة كلها.
وهذا ما يبرر قتاله لإبقاء الوضع الراهن، فالحزب منذ احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 وهو أكثر الرافضين لأي تغيير قد يضر بمصالحه وتموضعه في السياسة اللبنانية.
باسيل الأقرب للحزب؟
رغم إبقاء “حزب الله” اختياره للرئاسة طي الكتمان، فإن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، انتهز حفل الإفطار لانتزاع فرصته وامتدح قوة “حزب الله” وأنه ما زال يملك الكثير من أوراق اللعبة، وأعلن صراحة عن دعمه لسلاح الحزب واعتبره شريان التوزان الذي يجعل لبنان قادرًا على التفاوض بكبرياء على حدوده البحرية مع “إسرائيل”.
بحسب خبراء، يستغل باسيل قضية السلاح لتعزيز فرصه الانتخابية وخدمة مصالحه، فمع أنه انتقد سابقًا سلاح “حزب الله” مع احتدام الخلافات السياسية بشأن تشكيل الحكومة بين التيار الشيعي والتيار الوطني الحر، فقد استطاع صهر الرئيس أن يعدل بوصلته سريعًا، ويجري تحولات تمكنه من كسب حسن نصر الله لصالحه لحشد أكبر مقاعد ممكنة في البرلمان، وبما يؤهله للمطالبة بمنصب الرئيس الذي أصبح غير قادر على حسم توازناته رغم أنه مدعوم كليًا من الرئيس الحاليّ الذي عبر في أكثر من مناسبة عن رغبته في توليه المنصب مكانه.
لكن تضاءل شعبية باسيل وتياره الحر بين المسيحيين الذين يؤيدون الآن حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، المؤيد لحراك الشارع ومطالبه، يدفع جبران إلى الارتماء في أحضان “حزب الله” والدفاع الشرس عن مصالحه، على أمل الوصول إلى اتفاقات تقضي بتزكيته رئيسًا حتى في حال تكبدت كتلته النيابية خسائر ضخمة في البرلمان المقبل، لا سيما أنه يضمن تأييد كتلة 8 آذار رغم الخلافات المشتعلة بينهما، بسبب عداء الكتلة لزعيم حركة المردة سليمان فرنجية.
شرعية دون مساءلة
يدرك جبران باسيل جيدًا رغبة “حزب الله” في إظهار ملكاته السياسية للعالم، لكنه يبقى أكثر من يعرف ما يريده المكون الشيعي والحليف الأكبر لإيران في البلاد، فالحزب يرغب في الإبقاء على صفته باعتباره لاعبًا هجينًا على المسرح السياسي اللبناني، من ناحية ينفرد بالتموضع كأكثر المنظمات السياسية نفوذًا داخل لبنان، دون إخضاعه لأي مساءلة من مؤسسات الدولة، أو تحمل مسؤولية واضحة تجاه الشعب اللبناني.
يعرف باسيل أن “حزب الله” انتقل من موقع المعادي للدولة منذ عام 1985 بعد أن قرر الدفع بمرشحين عنه في الانتخابات البلدية والنيابية بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ثم دفع بأنصاره إلى مناصب وزارية للحصول على مقاعد حكومية حتى يصبح له موقع رسمي للسلطة تمكنه من السيطرة على مؤسسات الدولة وبالتالي الاستفادة من مواردها وتوجيه أنشطتها بما يتماشى مع مصالحه.
لكنه يتبع منطق التمسك بالقوة دون مسؤولية، وعلى عكس الأحزاب الأخرى، يعتمد “حزب الله” على حلفائه في 8 آذار الذين يمتلكون اليد العليا سياسيًا لتوسيع نفوذه بشكل غير مباشر، ويستخدمهم لتعزيز صورته كمدافع عن الديمقراطية والانحياز إلى الأحزاب المسيحية الأضعف.
وهي سياسة تمنحه شرعية كبرى بجانب احتفاظه بهيمنته على الحلفاء، بما يعري ضعف الكتلة المناوئة له ـ تيار المستقبل ـ التي يقودها سعد الحريري ولا تملك القوة للتأثير بشكل كبير على سلوك الأحزاب الرئيسية الأخرى المتحالفة معها، مثل حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب والحزب التقدمي الاشتراكي.
يريد “حزب الله” بشكل أساسي الإبقاء على قدرته العسكرية والانفراد بهذه الميزة التي تمكنه من الاستيلاء على السلطة في لبنان بالقوة بأي لحظة، لكنه يوضح للجميع أنه ليس من مصلحته القيام بذلك، لهذا لن يتردد في الوقوف سريعًا في صف القوة التي تعمل على احتفاظه بمكتسباته وإبقاء مشروعه، وهو طرف الخيط الذي يمسك به جبران باسيل ويتفاوض على أساسه لنيل ثقة الحزب وتأييده.