فرض المسلمون في السويد أنفسهم على مائدة الإعلام والبحث في أعقاب أعمال العنف التي اندلعت مؤخرًا في خمس مدن سويدية، بسبب حرق نُسخ من المصحف بأيدي أنصار من حركة سترام كورس (هارد لاين) اليمينية المتطرفة المناهضة للإسلام، بقيادة المتطرف راسموس بالودان، مؤسس الحركة وصاحب التاريخ المشين في الهجوم على المهاجرين وأبناء الجالية الإسلامية.
وتعد السويد واحدة من أكثر بلدان العالم انفتاحًا كما أن لها سجلًا مشرقًا في استقبال اللاجئين من بلدان العالم كافة، غير أن الأمور سرعان ما تغيرت خلال السنوات السبعة الأخيرة، منذ 2015 وحتى اليوم، إلى الحد الذي دفع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لدق ناقوس الخطر إزاء المخاوف بشأن زيادة وتيرة الجرائم العنصرية ضد المسلمين.
في هذا التقرير من ملف “مسلمو أوروبا” نلقي الضوء على واقع الجالية المسلمة في السويد وتحديات الاندماج رغم الخطوات الإيجابية التي قطعها المسلمون في هذا المسار، مع الإشارة إلى تداعيات تنامي التيار اليميني المتطرف على واقع الجالية ومستقبلها.
70 عامًا من العلاقات المباشرة
تعود العلاقات المباشرة بين السويد والمسلمين إلى أكثر من 70 عامًا، تحديدًا خلال الحرب العالمية الثانية، حين كانت ستوكهولم قبلة أول جالية من أصول إسلامية قادمة من فنلندا، وكانت من أصول تتارية، حيث بدأوا في شرعنة وجودهم من خلال بعض الكيانات الاجتماعية وكان على رأسها تلك الجمعية الثقافية التي تأسست في العاصمة.
وخلال العقدين التاليين للحرب بدأت موجة الهجرة الثانية لكنها هذه المرة كانت هجرة عمالية، فقد هاجر الآلاف من الأيدي العاملة من تركيا وشمال إفريقيا وفلسطين ودول يوغسلافيا، وبدأوا بشكل رسمي في تدشين أول أقلية إسلامية في البلاد، فأقاموا الجمعيات والأندية التي تخدم مصالحهم وتتحدث باسمهم.
وفي منتصف السبعينيات تحولت الهجرة من عمالية إلى سياسية إنسانية، فنزح إلى السويد موجات متلاحقة من أبناء لبنان وكردستان وبنغلاديش وأوغندا وفلسطين، ممن هربوا من أوضاع بلدانهم المؤسفة سواء على المستوى السياسي أم الأمني أم الاقتصادي والبيئي، واستقروا في عدد من المدن أبرزها يتبوري ومالموا وأبسالا.
وفي عام 1975 تم تأسيس أول اتحاد إسلامي في البلاد ومقره مالموا (جنوبًا)، وأطلق عليه مسمى “رابطة الجمعيات الإسلامية في السويد” واكتسب شرعية باعتراف الحكومة السويدية به، لتتواصل الهجرات المتتالية من إيران والعراق وإرتريا وبلغاريا ومن أكراد العراق وتركيا وباكستان، ليصل عدد المسلمين بنهاية الثمانينيات إلى أكثر من 150 ألف.
وفي غضون أقل من 50 عامًا ارتفع عدد المسلمين في السويد من ألف مسلم إلى 830 ألف، يتصدرهم السوريون بـ190 ألف (90% منهم من المسلمين)، بجانب 170 ألف عراقي (70% مسلمون)، ثم 65 ألف أفغاني، 65 ألف فلسطيني، 60 ألف صومالي، 45 ألف من بوسني وشيشاني وصربي، 35 ألف من شمال إفريقيا (95% منهم من المسلمين)، 30 ألف تركي (75% مسلمون)، 25 ألف إيراني، 15 ألف لبناني، وقرابة 90 ألف جنسيات أخرى.
سياسة الباب المفتوح انتهت
مرت العلاقة الرسمية بين الدولة السويدية والمهاجرين بصفة عامة وفي المقدمة منهم المسلمون بصفتهم الأقلية الكبرى بعد المسيحية، بمنعطفين أساسيين، الأول: مرحلة الباب المفتوح، حين فتحت البلاد حدودها لموجات الهجرة المتتالية منذ خمسينيات القرن الماضي واستمرت تلك المرحلة حتى العقد الأول من الألفية الحاليّة، حينها كانت السويد قبلة مهمة للباحثين عن التعايش والاندماج.
أما المرحلة الثانية فكانت بعد 2015، حين أغلقت البلاد حدودها ووضعت قيودًا مشددةً أمام المهاجرين، ما وضعها في مرمى الانتقادات الدولية، لا سيما بعد تصاعد نفوذ اليمين المتطرف، وعلى رأسه حزب “ديمقراطيو السويد” الذي اتخذ من مناهضة المسلمين واللاجئين شعاره الأبرز الذي يوظفه بين الحين والآخر لكسب دعم الشعبويين.
التحول من الانفتاح للانغلاق أمام المهاجرين عمومًا جاء نتيجة ضغوط قوية مورست على الحكومة السويدية، بعضها اجتماعي والآخر أمني وسياسي، وكانت الاستخبارات السويدية قد حذرت من تنامي التطرف بين صفوف المهاجرين، فكشفت عن زيادة أعداد المتطرفين بنسبة 1000% في أقل من عقد، وأن أكثر من 300 شخص من السويد التحقوا بتنظيم الدولة “داعش” خلال السنوات الماضية، رغم انسحاب 140 منهم من التنظيم لاحقًا.
رئيس جهاز الاستخبارات، أنديرز ثورنبرغ، علق على تلك الإحصائية بأنه رغم عدد المتطرفين القليل وقدرتهم المتواضعة على تنفيذ هجمات ضد أهداف سويدية، لا بد من متابعتهم عن قرب ومراقبتهم، لافتًا أن ذلك أمر ضروري قبل أن يفاجأ الجميع بعمل عنيف.
أما فيما يتعلق بالمسلمين تحديدًا، فقدمت كلية الأمن السويدية تقريرًا خاصًا للهيئة المدنية في البلاد عن خريطة انتشار المسلمين وتمددهم الديموغرافي، كاشفة أنه في أقل من عشر سنوات تضاعف عدد المسلمين بمقدار عشرة أضعاف، محذرًا من أن الخطاب الدعوي الموجه من دعاة المسلمين في السويد يحمل في طياته دعوات جهادية، وخلص التقرير إلى أن انتشار الإسلام أصبح يشكل خطرًا على الديموغرافيا الوطنية مستقبلًا.
الكاتب والباحث ناصر السهلي، وصف في مقال له أعمال العنف التي شهدتها السويد مؤخرًا بسبب حرق نسخ من المصحف الشريف بأن البلاد وضعت نفسها في “مأزق الشيطنة”، مضيفًا “ستوكهولم تعيش الآن سجالًا بشأن تداعيات سياسات الهجرة وأخطائها التي بدأت تظهر يومًا تلو الآخر، وأن هناك مخططًا محكمًا لتصدير صورة سلبية عن المسلمين تخدم أجندات اليمين المتطرف، في ظل البنية التشريعية والقانونية غير الحاسمة التي تفتح الباب أمام تحول البلاد إلى ساحات حرب بين الأقليات”.
مجتمع آمن
ربما تكون الأجواء ملبدةً نسبيًا بغيوم خطاب الكراهية المتنامي مؤخرًا، إلا أن البيئة العامة من أفضل البيئات الأوروبية التي تساعد على الاندماج، بحسب الباحث هاني صلاح الذي أشار إلى وجود العديد من المؤشرات التي تبرهن هذا الاستنتاج، منها على سبيل المثال مكانة مسجد ستوكهولم الكبير الذي يزوره سنويًّا 20 ألف زائر، بهدف التعرف على الإسلام، ونسبة كبيرة من الزوار من غير المسلمين.
ويشير إلى أن من يعيش خارج السويد ليس في حاجة لبذل مجهود كبير للوقوف على الاندماج الإيجابي، فعليه فقط زيارة سريعة للعاصمة وزيارة المسجد الذي تم تدشينه عام 2000، إذ تحول إلى قبلة لأبناء مختلف الأديان والعرقيات التي تأتي خصيصًا للتعرف على الحضارة الإسلامية وفنونها العظيمة، وهو ما يساعد في تجميل الصورة والتقارب بين المسلمين وغيرهم بما يساعد على تدشين أرضية مشتركة من الإنسانية والحضارة كفيلة للتعايش من خلالها.
وبحسب دراسة صادرة عن الرابطة المسلمة في السويد فإن المسلمين يتمركزون في ثلاث مدن رئيسية، هي ستوكهولم العاصمة في الوسط، وجوتمبرج في الغرب، ومالمو في أقصى الجنوب، وينحدرون من أصول عربية، خاصةً من العراق والصومال وإريتريا ومن أصول بلقانية من البوسنة وتركيا، كما أشارت الدراسة إلى أن تحسن العلاقة بينهم وبين الدولة نتيجة لزيادة وعي المسلمين بحقوقهم المدنية ومطالبتهم بها.
وكان المسلمون يعانون في السابق من أزمات التعايش الديني في ظل تراجع أعداد المساجد والمؤسسات الدينية وهي المعضلة التي بدأت تأخذها السلطات الحاكمة بعين الاعتبار، لتنتشر بعد ذلك المؤسسات الإسلامية التي تم تدشينها لخدمة الجالية وأبرزها: “الرابطة الإسلامية IFIS” وتعد الأب الروحي للمؤسسات الإسلامية، ثم “المجلس الإسلامي السويدي SMR” و”رابطة الجمعيات الإسلامية FIFS” التي بها العديد من الفروع، كذلك “اتحاد الشباب المسلم السويدي SUM” وهو اتحاد يهتم بقضايا الشباب، ثم عدد من الاتحادات التي تتحدث باسم جنسيات بعينها مثل “اتحاد مسلمي السويد SMF” الخاص بالأتراك المسلمين و”اتحاد للبوسنيين SFBH” بجانب بعض الاتحادات الأخرى التي تتحدث باسم الشيعة والمذاهب الدينية الأخرى.
وتتراجع مشاكل المسلمين مع منظومة التعليم هناك شيئًا فشيئًا، فبعدما كانت الأمور محصورةً في المساجد والمراكز التابعة لها، اعتمدت السلطات مناهج المسلمين في بعض المدارس الإسلامية، هذا بخلاف الاعتراف بتلك المدارس بما يسهل الطريق على المسلمين في الحصول على شهادات معترف بها من جهات تعليمية إسلامية، وهي المعضلة التي تواجه الكثير من الجاليات في البلدان الأخرى.
العنصرية ضد المسلمين
التحول الدراماتيكي لواقع وتحديات الجالية المسلمة منذ 2015 وتنامي خطاب الكراهية الممنهج بعد نفوذ اليمين المتطرف، دفع الحكومة السويدية لتبني إستراتيجية محلية في 2017 لمكافحة راديكالية وتطرف الشعبويين، تعتمد على خبراتها في منع الجرائم العنيفة، كونها أقل بلدان أوروبا نسبة في جرائم القتل.
ورغم تلك الإستراتيجية تنامى التمدد الشعبوي بعدما تحول المهاجرون والمسلمون إلى مادة ثرية وخصبة لأنصار حزب “ديمقراطيو السويد” المتطرف، ما انعكس على واقع المسلمين الذين تعرضوا في السنوات الأخيرة إلى موجات عاتية من العنصرية وجرائم الكراهية.
نجاح الحزب اليميني المتطرف في انتخابات 2018 وحصوله على 18% من الأصوات، أحدث ما وصفه مراقبون “زلزالًا مدويًا” زج بالسويد، ذلك البلد المسالم الآمن، إلى قائمة الدول التي تعاني من خطابها الشعبوي وتصاعد يمينها المتطرف، كإيطاليا والنمسا وألمانيا والدنمارك وهولندا.
في تعليقه على خطاب الكراهية المتصاعد ضد الجالية المسلمة، قال الأكاديمي السويدي ماتياس غاردل، أستاذ تاريخ الأديان في جامعة أوبسالا، في تصريحات للتليفزيون السويدي الرسمي، نقلها موقع “ميدل إيست أونلاين” إن العنصرية ضد المسلمين في بلاده أصبحت مألوفة بشكل اعتيادي يبعث على الدهشة، مضيفًا “هناك هجمة عنصرية جديدة على المسلمين، نسمي هذا بالإسلاموفوبيا”.
رغم خطاب الكراهية المتنامي، فإن البيئة السويدية بصفة عامة هي الأكثر مرونةً وتسهيلًا لخطوات الاندماج، وهو ما يعيه المسلمون هناك بشكل واضح
يتفق ما توصل إليه الأكاديمي السويدي مع شهادات عدد من أبناء الجالية المسلمة في السويد الذين أشاروا – كما جاء على لسان الشاب السوري أحمد سليم، خلال حديثه لموقع “الحرة” – إلى أن تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا بات يهدد تعايش الناس في البلاد، وأنهم يواجهون تحديات خطيرة بسبب دينهم وهويتهم الإسلامية، وتابع “بالتالي نحن أمام موجة كراهية قد تنعكس بالسلب شيئا فشيئا علينا خلال المرحلة المقبلة”.
أما الباحث السياسي السويدي ماغنوس رانستروب، فيشير إلى أن من الأسباب الرئيسية لتصاعد مخاوف زيادة جرائم العنصرية ضد المسلمين وتنامي ظاهرة “الإسلاموفوبيا” عجز الحكومة عن مواجهة الكم الهائل من المهاجرين واللاجئين الذين يصلون إلى البلاد، يتزامن ذلك مع تنامي الجماعات المتطرفة التي تطالب بتقليص هذا الوجود حفاظًا على مستقبل الديموغرافية السويدية، بحسب حديثه لـ”فرانس 24“.
فيما علق سمير مورتش، إمام أحد المساجد في مدينة “إسلوف” (جنوبًا) الذي تعرض لهجوم من متطرفين في 2015، على تنامي موجة العنصرية ضد الجالية المسلمة قائلًا: “لقد جئنا إلى السويد لكي نعيش في أمان وسلام، وكل ما يمكن أن نفعله نحن كمسلمين، أن نشرح للسويديين أن الإسلام هو دين التسامح والمحبة، ولا علاقة له بالعنف”، مضيفًا “السويد وطننا.. بلداننا الأصلية هي تلك التي ولدنا فيها وليست البلدان التي هجرها آباؤنا”.
ورغم خطاب الكراهية المتنامي، فإن البيئة السويدية بصفة عامة هي الأكثر مرونةً وتسهيلًا لخطوات الاندماج، وهو ما يعيه المسلمون هناك بشكل واضح، لذا يأتي إصرارهم على البقاء والتعايش ردًا على ما يحدث من أعمال عنف بين الحين والآخر، فيما يتبقى اليمين المتطرف الشوكة الأكثر إيلامًا في حلق المسلمين الذين يبذلون جهودًا كبيرةً إلى جانب السلطات الحاكمة هناك لتجفيف منابع المتطرفين وتقليم أظافرهم قدر الإمكان.