دون إنذار مسبق، أمطر مدوّن الفيديو الأمريكي الشهير، وليام سونبوشنر، صاحب قناة Best Ever Food Review Show المهتمة بالتدوين الوثائقي عن المطابخ والثقافات حول العالم، متابعيه بسلسلة من التدوينات عن رحلته المخيفة التي عاشها في مصر، أثناء محاولته تصوير مقاطع فيديو عن المطبخ الشعبي وأكل الشارع في مصر.
وخلال الأسابيع الماضية، حصدت فيديوهات القناة عن مصر أكثر من 16 مليون مشاهدة، حتى كتابة المقال، خصوصًا بعد نشر فيلم وثائقي مدته ساعة و20 دقيقة، ويحاول فيه نقل حالة “البارانويا” التي تعيشها مصر على كل الأصعدة، في المطار والفنادق والشوارع، وحتى ملاحقته من قبل الأمن في مصر، وإجباره على حذف المواد التي صوّرها لمخبز محلي وسط القاهرة.
البلد العظيم الذي لن أزوره مجددًا
رغم حصوله على تصريح بالتصوير في مصر، وقيام فريقه بتقديم الاعتمادات اللازمة، احتجز الأمن المصري الفريق في المطار، وصادر معدّاتهم التقنية، ليضطروا لاحقًا تصوير البرنامج بهواتف آيفون، مطالبًا الحكومة المصرية بتغيير شعارها إلى “اترك كاميرتك في المنزل”.
ورغم كل ذلك، ومحاولة التصوير بعيدًا عن أعين الشرطة، إلا أنه تعرض للتوقيف والاستجواب داخل قسم شرطة في القاهرة، لكنه في النهاية احتفظ بالمواد المصوَّرة، بسبب جهل معاوني الأمن بالطريقة الصحيحة لحذفها.
وللهروب من الشرطة وملاحقاتهم المتكررة، اتّجه صانع المحتوى إلى سوق برقاش لتجارة الإبل، شمال غرب محافظة الجيزة، لكن ما يلفت الانتباه هو تنبيهات المُنتِج المحلي الدائمة لفريق العمل بالبقاء غير ملحوظين حتى لا يلاحقهم الأمن في السوق.
دفع هذا مقدّم البرنامج إلى الإشارة تكرارًا إلى حالة الذعر، ليست التي يعيشها الأمن المصري فقط بل أيضًا تلك التي انتقلت إلى المواطنين، وأصبح الجميع في حالة شكّ من الجميع، حتى المُنتِج المحلي الذي عيّنوه لتسهيل مهام التصوير في القاهرة.
صوّر سوني في حلقاته مصر كدولة مرعبة لا يمكن السياحة فيها ولا زيارتها، إذ حالة الرهبة والخوف من أي كاميرا أو توثيق حتى لو كان بغرض الترويج للبلد نفسه ومطبخه وما يقدّمه لزواره، حيث ما أظهرته تلك السلسلة هو المُنافي لذلك تمامًا، ليضرب بمشاهداته المليونية حملات ترويج السياحة التي تقوم بها مصر، كوجهة سياحية رائدة في الشرق الأوسط والعالم، وينتهي به المطاف إلى التصوير في الواحات بعيدًا عن الحضر، فقط ليتجنّب تسلُّط الأجهزة الأمنية.
ليست المرة الأولى
لم تكن هذه الفيديوهات أو أسلوب تعامل الأمن المصري مفاجئَين للمتابعين عن كثب للحالة في مصر، إذ تعاني البلاد من حالة جنون أمام أي كاميرا منذ عام 2013، وقد ساعدَ الإعلام المصري في تأجيج تلك الحالة مع الإعلان دومًا عن أن أي فيديو يتمّ تصويره يمكن أن يساهم في تشويه صورة البلاد، في ظل تجاهل تامٍّ لحقيقة أن هذه الملاحقات المتكررة هي التشويه الأمثل لسمعة مصر وصورتها أمام العالم.
الجانب “الأسود” للشرطة في مصر، دوّن عنه عام 2018 المدوّن يويو آجنير، حين تمَّ توقيفه أثناء تصويره مقطعًا في مدينة إسنا في صعيد مصر، حيث بدا الضابط خائفًا وقلقًا من كونه أجنبيًّا، وبطريقة غير لائقة قام الضابط بتفتيشه وتفتيش متعلّقاته، ورغم إقناعهم بكونه رحّالة يسافر بين المدن مع السكان المحليين، إلا أنه في النهاية تمَّ اعتقاله وإعادته للأقصر داخل سيارة شرطة، وانتهى به المطاف في منتجع سياحي في المدينة.
في مارس/ آذار 2021 بثَّ مدوّن الفيديو أليكس شاكون فيديو له عن تجربة توقيفه والتحرش به، وتهديده باستخدام السلاح والتلويح بدهسه بالسيارة من قبل معاونين أمنيين في ملابس مدنية ورسمية، فقط لتصويره فيديو عن الأحياء القريبة من أهرامات الجيزة، ليتمَّ اقتياده في النهاية إلى قسم شرطة قريب من المنطقة والتحقيق معه حول جنسيته وما يقوم بتصويره وفي أي فندق يسكن.
ولم تتوقف المعاملة السيّئة معه حتى أخبرهم بجنسيته الأمريكية، ليتحول حينها الحوار تمامًا، ويقدم الأمن له الطعام والمياه مع اعتذارات متكررة عن طريقة التعامل معه، التي لم يكن لها أي سبب سوى “حمايته”، متبيّنًا أن السبب الحقيقي وراء إيقافه هو هيئته ولحيته التي تُنبئ بأنه شرق أوسطي.
بينما الدولة تروّج للسياحة فيها وتحضُّ المسافرين على اختيارها كوجهتهم السياحية، يطارد موظفوها الأمنيون المدونين وصنّاع المحتوى
لكن الحقيقة أن ما حدث مع أليكس هو مشهد معتاد في مصر، حيث علّق متابع مصري للمدون الأمريكي على المقطع قائلًا: “أنا مصري، وقد أتعرض للاعتقال إذا قمت فقط بمشاركة هذا الفيديو”، هذا التعليق الذي حصد أكثر من ألف إعجاب قد يعطينا لمحة ولو بسيطة عن حالة الإرهاب التي يعيشها المصريون اليوم في “الجمهورية الجديدة” التي يروّج لها أتباع النظام، لذلك هناك بعض الإحصاءات والأرقام الموثَّقة التي من المهم إبرازها في هذا الصدد.
تلاحق السلطات المصرية الصحفيين المستقلين لتترك المجال لإعلام وصحافة “السامسونغ” اللذين تصلهما التنبيهات الحكومية عبر البريد الإلكتروني، حيث تقول “مراسلون بلا حدود”، التي وثّقت حجب السلطات أكثر من 500 موقع إخباري، في تقريرها العام الماضي بمناسبة مرور 10 سنوات على ثورة يناير، إن التهليل بالاستقرار والأمن في البلاد هو المشهد الطاغي في وسائل الإعلام المصرية، بعد تشديد السيسي الخناق عليها من خلال إعادة هيكلة شاملة للقطاع، لينحصر بذلك دور المنابر الإعلامية الكبرى في الدعاية للخطاب الرسمي الذي يجسّده الرئيس.
مصر التي أصبحت أحد أكبر سجون العالم بالنسبة إلى الصحفيين، بعد الصين والمملكة العربية السعودية، تقبع اليوم في المرتبة 166 من أصل 180 دولة على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، حيث لن يكون من الصعب معرفة واقعها الحقوقي السيّئ في ظل الإنترنت والمصادر المفتوحة والمعلومات المتوفرة في كل مكان.
وبينما تروّج الدولة للسياحة فيها وتحضّ المسافرين على اختيارها كوجهتهم السياحية، يطارد موظفوها الأمنيون المدونين وصنّاع المحتوى، فلمن تلك الدعاية؟ وهل هناك أحد يحاسب على تشويه صورة مصر بهذه الدرجة والإضرار بالسياحة بهذا الشكل؟ هل سيحاسَب ضباط المطارات على سوء المعاملة؟ هل سيحاسَب أفراد الأمن الذين ظهروا في الفيديوهات؟ أم أن هذه “البارانويا” التي شاهدها الملايين لن يحاسَب عليها أحد؟
إنها بارانويا يشجّع عليها النظام، ليصبح الجميع مُخبرًا عن الجميع، بارانويا أودت سابقًا بحياة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بعد الشك أنه جاسوس أجنبي، وبحياة السياح المكسيكيين الذين قُتلوا في غارة جوية شنّها الجيش المصري في الصحراء الغربية (بالخطأ) في سبتمبر/ أيلول 2015، واضطرت مصر لاحقًا دفع تعويضات مالية لذويهم.