كشفت الأيام القليلة الماضية تصاعدًا للهجمات السيبرانية التي نفّذتها جماعات إلكترونية عراقية موالية لإيران، حيال العديد من الأهداف المدنية والعسكرية، والتي استهدفت منشآت ومؤسسات حكومية في “إسرائيل” وتركيا والسعودية، فضلًا عن مؤسسات إعلامية داخل العراق، أبرزها المواقع الإلكترونية التابعة لقنوات UTV و”الفلوجة” العراقية.
يُعتبر هذا تحولًا نوعيًّا بدأ يطرأ على سلوك وكلاء إيران في العراق، وبالشكل الذي قد يغيّر قواعد الاشتباك مع الجهات المستهدفة، ففي الوقت الذي تنعدم فيه قدرة الردّ العسكري من قبل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، على الهجمات التي تشنّها “إسرائيل” داخل الأراضي العراقية، أو حتى بدرجة أقل الردّ على العمليات العسكرية التركية التي تنفذها تركيا داخل الأراضي العراقية، والتي تتخذ منها الفصائل المسلحة الموالية لإيران موقف الرفض؛ فإن خيار الهجمات السيبرانية يمكن أن يوفر بديلًا فعّالًا لها، لتحقيق أهداف الردّ من حيث الغاية، وتوفير فرصة للإفلات من الرد المماثل.
وهناك العديد من علامات الاستفهام التي تدور حول طبيعة القدرات السيبرانية التي تمتلكها الفصائل المسلحة الموالية لإيران، خصوصًا الجماعات الإلكترونية التابعة لها، إذ إن الهجمات التي حصلت، وخصوصًا تلك التي استهدفت مواقع الرئاسة ومؤسسة الصناعات الدفاعية التركية، والموقع الإلكتروني لقناة “أخبار كان” و”القناة 9″، وهيئة الطيران الإسرائيلية، إلى جانب أهداف أخرى، فضلًا عن موقع وزارة الطاقة السعودية؛ تحتاج لجهد دولة وليس مجرد جماعات إلكترونية.
إلا أن هذا لا يمنع من القول إن إيران نجحت خلال الفترة الماضية في إرسال خبراء إيرانيين ولبنانيين إلى العراق، أو حتى في إمكانية إرسال معدات تقنية إلى العراق، فيما ينفّذ هذه الهجمات تقنيون عراقيون.
وخصوصًا أن الفترة الماضية شهدت بروز العديد من التقارير الإعلامية، وأبرزها تقرير لوكالة “رويترز” تحدّث عن قيام الحرس الثوري بإرسال 250 عنصرًا عراقيًّا إلى لبنان، من أجل تدريبهم على شنّ الهجمات السيبرانية أو تفكيك جماعات إلكترونية معادية، أو متابعة الحسابات المعادية على وسائل التواصل الاجتماعي.
تحول جديد في استراتيجية المواجهة
رغم تبنّي وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للفصائل المسلحة الموالية لإيران هذه الهجمات، وفي مقدمتها قناة “صابرين نيوز” وشبكة “الإعلام المقاوم” و”تغريدة الحشد” على تيليغرام، إلا أنه يبدو واضحًا أن هذه الهجمات تأتي ضمن جهد جماعي للفصائل المسلحة، عبر تضخيم هذه الهجمات والأهداف المتحققة منها.
هذا فضلًا عن محاولة إبعاد شبهة الهجوم عن إيران أو “حزب الله” اللبناني، من أجل خلق ضبابية واضحة أمام الجهات المستهدَفة حول من هو الطرف الذي يقف خلف هذه الهجمات، وتقليل فرص الردّ عليها، ومن ثم يشير هذا إلى تحول مهم في استراتيجية المواجهة التي تعتمدها الفصائل المسلحة الموالية لإيران، عبر شنّ هجمات سيبرانية حيال أهداف داخل وخارج العراق، لكن هذه المرة عبر جماعات عراقية غير معروفة المصدر، وتوفير إمكانية الإنكار المعقول لإيران لتجنُّب الانتقام، كما هو عليه الحال عبر هجمات خلايا الكاتيوشا.
تمثل الخلايا الإلكترونية حالة أكثر انضباطًا والتزامًا بقرارات قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، بعد سلسلة من التمرادات الفصائلية على قراراته
وفي هذا السياق، قالت مجموعة إلكترونية عراقية تطلق على نفسها اسم “الطاهرة تيم” عبر قناة تيليغرام أُنشئت حديثًا، إنها هاجمت موقع هيئة المطارات الإسرائيلية، وموقع بنك “إسرائيل”، وتوعّدت بتنفيذ المزيد من الهجمات السيبرانية ضد “إسرائيل”.
كما نشرت المجموعة عبر قناتها صورًا لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي السابق أبو مهدي المهندس، مرفقة معها عبارة “لن نغفر ولن نسامح”، وقال مسؤول أمني إسرائيلي حينها إن “هذا هو أكبر هجوم سيبراني يتمّ تنفيذه ضد “إسرائيل”، حيث تشير التقديرات إلى أن دولةً وراء الهجوم أو منظمة كبيرة، ولا يمكن القول أكثر من ذلك”.
ممّا لا شكّ فيه أن الهجمات السيبرانية التي تنفّذها جماعات إلكترونية عراقية موالية لإيران، قد تطرح نفسها كبديل فعّال لاستراتيجية خلايا الكاتيوشا أو الطائرات المسيّرة، لما لهذه الاستراتيجية من فائدة تحققها إيران في العراق والدول الأخرى، بعيدًا عن التداعيات السلبية التي تفرزها الهجمات من النوع الثاني.
وخصوصًا أن إيران تدخل اليوم في عدة حوارات إقليمية من أجل تطبيع العلاقات مع دول الإقليم، كما أنها قد لا ترغب بالتصعيد الأمني خشية أن ينعكس ذلك على المحادثات النووية، أو حتى على جهودها لإخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
يعوّل فيلق القدس كثيرًا على تأثير الفصائل المسلحة الموالية له في ترسيخ وإدامة نفوذه، سواء عبر الهجمات السيبرانية أو عبر تعيين سفير جديد له في العراق، إذ قد تمثّل الخلايا الإلكترونية حالة أكثر انضباطًا والتزامًا بقرارات قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، بعد سلسلة من التمرادات الفصائلية على قراراته، كما أنها قد توفر أموالًا جديدة وتقلِّل من استنزاف الاقتصاد الإيراني، في الوقت الذي تعاني فيه إيران من ضغوط اقتصادية وسياسية كبيرة.
سنكون أمام تصاعد كبير لهذه الهجمات في المرحلة المقبلة، مع تطوير مساحة أكبر لقابلية الإفلات من الانتقام
يشير تصاعد الهجمات السيبرانية عبر العراق إلى اندفاع فيلق القدس نحو إنتاج مقاربة استراتيجية جديدة في العراق، تأتي متوائمة مع سفيرها الجديد، نتيجة جملة من التحديات الداخلية، إيرانية وعراقية على حدّ سواء.
هذا فضلًا عن ضغوط أمريكية مستمرة، سواء عبر المفاوضات النووية أو الحوارات الإقليمية، خصوصًا أن إيران تجد نفسها اليوم معرّضة للمزيد من الانتقادات في الداخل العراقي، بسبب دورها وسلوك وكلائها، ومن ثم على ما يبدو إنها بحاجة لاستراتيجية جديدة تقلِّل من هذه الضغوط والانتقادات.
إن تحول فيلق القدس بشكل متزايد نحو هندسة طريقة عمل الجماعات الإلكترونية الصغيرة، لها سيطرة مباشرة عليها، مع إبقاء دور وتأثير الفصائل المسلحة الكبيرة، يشير إلى أننا أمام تحول مهم في استراتيجية فيلق القدس في العراق.
ومع تصاعد فاعلية الهجمات السيبرانية التي تشنّها الجماعات الإلكترونية التابعة لها، فإن الواقع يشير إلى أننا سنكون أمام تصاعد كبير لهذه الهجمات في المرحلة المقبلة، مع تطوير مساحة أكبر لقابلية الإفلات من الانتقام.