أثار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجدل بتصريحاته التي شدد فيها على أن بلاده رغم أنها تعمل على إبعاد مخاطر نشوب صراعات نووية، فإن خطر قيام حرب عالمية ثالثة “جدي وحقيقي وينبغي عدم الاستهانة به”، مشيرًا إلى أن “النوايا الحسنة لها حدود. إن لم تكن متبادلة، فإن ذلك لا يساعد في عملية التفاوض”.
واتهم لافروف الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنيسكي، بـ”التظاهر” بالتفاوض، مردفًا “إنه ممثل جيد، إذا نظرت بتمعن وقرأت ما يقوله بعناية، ستجد 1000 تناقض”، فيما اتهم واشنطن بعدم إبداء أي اهتمام بالتواصل مع موسكو بشأن الوضع الأوكراني، محذرًا من أن معالم أي اتفاق مستقبلي مع كييف ستحددها مرحلة الأعمال القتالية، “سيصبح حينها هذا الاتفاق حقيقة واقعة”، على حد تعبيره.
تصريحات وزير الخارجية الروسي تأتي بعد ساعات من تلك الزيارة التي أجراها وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، إلى كييف والتقيا فيها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وشددا خلالها على استمرار دعم بلادهما للجانب الأوكراني في حربه ضد الروس.
التلويح بورقة الحرب العالمية يأتي بعد تلويح سابق – أحدث حالة من الارتباك الدولي – باستخدام سلاح الردع النووي بداية الحرب التي اندلعت في 24 فبراير/شباط الماضي، الأمر الذي فتح باب التكهنات أمام عدد من التفسيرات لاستخدام موسكو مثل تلك الأوراق على غير العادة.
سياق مهم
لا يمكن قراءة هذا التصريح الذي يعتبره البعض مبالغًا فيه، بعيدًا عن أول زيارة لمسؤول أمريكي كبير من إدارة جو بايدن إلى العاصمة كييف بعد 60 يومًا على اندلاع الحرب، تلك الزيارة التي حملت الكثير من الدلالات لا سيما أنها ضمت وزيري الخارجية والدفاع، في إشارة إلى دعم سياسي وعسكري متوقع.
كان الرهان الروسي بداية الحرب على انحسار الدعم الغربي لأوكرانيا في التصريحات الإعلامية وبعض الإجراءات العقابية التي اعتادتها موسكو منذ 2014، لكن شيئًا فشيئًا تطور الدعم ليصل إلى مستويات غير مسبوقة، تجاوز الدعم اللوجستي إلى زيارة مباشرة ومعلنة لوزيرين في الحكومة الأمريكية في وقت تعاني فيه القوات الروسية من تحديات ميدانية في ساحات القتال.
يرى وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، أن تصريحات لافروف اعتراف ضمني من موسكو بفشلها في الحرب
مستشار بلينكن لشؤون أوروبا، فيليب ريكر، أكد في تصريحات رسمية له الجمعة الماضية أن الزيارة تهدف في المقام الأول إلى “التأكيد على دعم الولايات المتحدة الثابت لسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها في وجه عدوان روسيا”، فيما اعتبر السفير الأوكراني السابق كوستيانتين ياليسييف، أنها “مؤشر دعم قوي جدًا لأوكرانيا”.
كما تأتي تلك التصريحات قبيل يوم واحد فقط من الزيارة التي قام بها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى أنقرة والتقى فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يعقبها التوجه إلى موسكو اليوم 26 أبريل/نيسان 2022، للاجتماع بالرئيس الروسي، مختتمًا إياها بلقاء الرئيس الأوكراني في كييف، الخميس 28 من الشهر.
يتزامن ذلك مع اجتماع من المقرر أن يعقد اليوم للمجموعة الاستشارية الأمنية الأوكرانية، في قاعدة رامشتاين الجوية جنوب غربي ألمانيا، بمشاركة وزراء دفاع 20 بلدًا، وبرئاسة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، حيث يتم التشاور بشأن سبل دعم القوات الأوكرانية في الحرب ضد روسيا، والتأكيد على استمرار شركاء كييف في تقديم كل أشكال الدعم، حتى بعد انتهاء الحرب.
اعتراف ضمني بالهزيمة
يرى وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، أن تصريحات لافروف اعتراف ضمني من موسكو بفشلها في الحرب، مضيفًا في تغريدة له على تويتر “روسيا تفقد الأمل الأخير لتخويف العالم من دعم أوكرانيا، وبالتالي تتحدث عن خطر حقيقي من الحرب العالمية الثالثة”.
وحذر من تداعيات دلالات الترهيب التي تنطوي عليها تلك التحذيرات بشأن الدعم الغربي لبلاده، قائلًا: “هذا يعني فقط أن موسكو تشعر بالهزيمة في أوكرانيا، لذلك، يجب على العالم أن يضاعف دعمه لأوكرانيا حتى ننتصر ونحمي الأمن الأوروبي والعالمي”.
ربما تتناغم رؤية كوليبا مع التطورات الميدانية التي تشهدها ساحة القتال في الداخل الأوكراني مؤخرًا، فقد أحدثت موسكو تغيرًا واضحًا في إستراتيجيتها، لتنسحب من العاصمة كييف وتركز ضرباتها على الشرق، حيث خاركييف المجاورة، وكذلك الجنوب، حيث بحر أزوف والبحر الأسود، من ماريوبول وصولًا إلى شبه جزيرة القرم، ومن خيرسون وميكولايف وانتهاءً بأوديسا في الجنوب الغربي.
إدارة بايدن تواصل إصرارها على الضغط على الجانب الروسي من خلال حزم عقوبات متتالية، شملت المؤسسات المالية والنخبة والمقربين من بوتين، بجانب تشديد الخناق بما يمهد نحو عزلة روسيا دوليًا
الجانب الأوكراني قرأ هذا التغير التكتيكي على أنه رضوخ لمعطيات المعركة واعتراف شبه صريح بالهزيمة في معركة كييف، في مقابل قراءة أخرى مغايرة ترى أن العاصمة الأوكرانية لم تكن ضمن حسابات موسكو حين شنت هجماتها أول الأمر، وأن المناوشات التي شنتها على حدودها كانت من قبيل إجهاض القوات الأوكرانية بما يمهد للسيطرة على المناطق الجنوبية والشرقية بصفتها الهدف الرئيسي لحماية الأمن القومي الروسي.
وتشير التقديرات إلى أن خسائر روسيا خلال تلك الحرب وصلت إلى 19900 قتيل وإصابة أكثر من 60 ألفًا، تدمير 753 دبابةً و1968 عربةً مدرعةً و366 نظامًا مدفعيًا، بجانب 122 راجمة صواريخ و64 منصة للدفاع الجوي و160 طائرة مقاتلة و144 مروحية و132 طائرة مسيرة و1429 آلية عسكرية و76 صهريج وقود و7 سفن وزوارق بحرية، بحسب وزارة الدفاع الأوكرانية.
تحذير الغرب
القراءة الأخرى لتصريحات لافروف تتعلق بإيصال رسالة تحذير للغرب بصفة عامة والولايات المتحدة على وجه الخصوص من تصعيد العقوبات المفروضة على موسكو ونخبتها السياسية والاقتصادية من جانب، والدعم العسكري المقدم للقوات الأوكرانية من جانب آخر.
وكان وزير الخارجية الروسي – تزامنًا مع حديثه الأخير – قد حذر من الأسلحة التي تتلقاها أوكرانيا من الغرب، لافتًا أن حلف الناتو من خلال التسليح المستمر للقوات الأوكرانية أصبح منخرطًا بشكل علني في حرب مع روسيا وإن كان عبر وكيل، محذرًا من أن تلك الأسلحة ستكون أهدافًا مشروعةً للجيش الروسي في تلك الحرب.
وفي السياق ذاته أرسلت موسكو – عبر سفيرها لدى واشنطن، أناتولي أنتونوف – مذكرة احتجاج إلى الإدارة الأمريكية تطالبها فيها بوقف تصدير الأسلحة إلى أوكرانيا، لافتة أن تلك التحركات تجهض أي جهود دبلوماسية لتسوية الأزمة سياسيًا، وتزيد من تأزم الوضع الإنساني وتعقد أي جهود وساطة إقليمية.
جدير بالذكر أن إدارة بايدن تواصل إصرارها على الضغط على الجانب الروسي من خلال حزم عقوبات متتالية، شملت المؤسسات المالية والنخبة والمقربين من بوتين، بجانب تشديد الخناق بما يمهد نحو عزلة روسيا دوليًا، وهو ما دفع الرئيس بوتين إلى التهديد “بوضع قوات الردع التابعة للجيش الروسي في حالة تأهب خاصة” بعد 4 أيام فقط من بداية الحرب.
تحاول روسيا عبر تلك التصريحات الصدامية التي تحمل خطاب تهديد شبه مباشر، الضغط على الغرب لتحجيم تصعيده ضدها ووقف التعامل كطرف أساسي في الحرب بعدما كان داعمًا من خلف الستار، ما يقود في النهاية إلى الصدام المباشر بين القوتين لا سيما بعدما باتت الأسلحة الغربية العقبة الأبرز أمام موسكو لتحقيق أجندتها في الداخل الأوكراني.
يعلم بوتين جيدًا أن إدارة بايدن تريد إطالة أمد الحرب في أوكرانيا أطول فترة ممكنة، بهدف استنزاف القوة العسكرية الروسية وإجهاض الاقتصاد وتأليب الشارع الروسي على النظام الحاكم، لكنه في الوقت ذاته يأبى رفع الراية البيضاء، ويحاول قدر الإمكان الخروج بأي انتصار يحفظ له ماء وجهه، ما دفعه لتغيير خطته الإستراتيجية مؤخرًا.
وعلى الجانب المقابل، تتصاعد تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الداخل الأمريكي والعالم بصفة عامة، حيث ارتفاع جنوني في الأسعار وأزمات طاقة متتالية وزيادات غير مسبوقة في معدلات التضخم، وإحداث حالة من الشلل التام لبعض الاقتصادات، إلا أن بايدن يتعامل مع هذا الملف كورقة دعائية تخدم مصالحه السياسية وترفع من رصيد حزبه الشعبي بعد الفشل في التعاطي مع الملفات الداخلية، الأمر الذي أثر سلبيًا على شعبيته وفق استطلاعات الرأي الداخلية.
وفي الأخير.. لا يمكن التعاطي مع تحذيرات لافروف على محمل الجدية، فروسيا لا يمكنها بأي حال من الأحوال الدخول في حرب عالمية ولن يسمح لها بذلك، حتى من بين القوى الداعمة لها وعلى رأسها الصين، إلا أنها تأتي في إطار محاولة كل طرف استخدام ما لديه من أوراق ضغط لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، إذ يسعى كل فريق للخروج من تلك الحرب منتصرًا، أيًا كان شكل الانتصار ومدى تطابقه مع التوقعات الأولية.