ترجمة وتحرير نون بوست
أدى غياب الشرطة بعد يناير 2011 إلى تغيير توازن القوى بين سكان وسط البلد بالقاهرة والحكومة.
وإذ استعاد السكان السيطرة على المساحات العامة؛ بدأت الطبيعة الشعبوية للمنطقة في التحول إلى ميزة إيجابية، وبدأت مقاهي الشوارع وما يشبهها من النشاطات التجارية في التوسع لتستطيع استيعاب احتياجات جحافل الشباب الآتية للمشاركة في التظاهرات المختلفة.
ولكن وقبل2011 كان هناك بالفعل خطتان لتجديد منطقة وسط البلد بالقاهرة، ففي عام 2008 تم تأسيس شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري، لتبدأ في شراء مباني “الزمن الجميل” العملاقة في منطقة وسط البلد بغرض تأجيرها لاحقًا، وارتكزت رؤية الشركة بالأساس على إعادة رسم الخريطة الطبقية للسكان بناءً على الدخل ومجالات الاهتمام الثقافي؛ إذ أملت الشركة أن المجال الفني المتنامي في المنطقة كفيل برفع قيمة ممتلكاتها.
وفي نفس الوقت تقريبًا كشفت الحكومة المصرية عن خططها الجديدة للتطوير العمراني، كان أكثر هذه الخطط أهمية المسماة “القاهرة 2050” التي تكلفت قرابة الـ 3.5 مليون دولارًا في تعاون بين وزارة الإسكان والهيئة العامة للتخطيط العمراني، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة للإسكان، والبنك الدولي والجمعية الألمانية للتعاون الدولي والحكومة اليابانية، وتمت تسمية المشروع “خطة التنمية الاستراتيجية لمنطقة القاهرة الكبرى 2050” من قبل برنامج الأمم المتحدة للتنمية.
تتفق كلاً من الإسماعيلية وخطة الخمسين على تعريفهم للتنمية، فهم يرونها في صورة النمو النيوليبرالي المدفوع من نوع جديد من الثقافة لم يسبق له التواجد في المنطقة المنماة وما يترتب على هذه الثقافة من صناعات ونشاطات تجارية، وكلاً منهما ينطلق من رؤى عمرانية حداثية تختلف تمامًا مع شكل القاهرة الحالي وأدائها.
ولكن بينما ترى خطة الخمسين مستقبل القاهرة كشيء شبيه بدبي اليوم، حيث تتمحور القاهرة حول حوار بين المساحة والسياحة والفخامة والحداثة النيولبرالية، تنطلق شركة الإسماعيلية من منظور متعدد الثقافات وعابر للقارات؛ حيث ترسم النوستالجيا والكوزموبوليتانية التي تنطلق من صورة رومانسية للقاهرة تحت الاستعمار المستقبل.
وفقًا لصفحة “الرؤية والمهمة” في موقع شركة الإسماعيلية، فإنها تطمح “لجعل وسط البلد وجهة لكل المصريين للمعيشة والعمل والتسوق وقضاء وقت ممتع”، “فقد صمم المشروع لإعادة إحياء قلب العاصمة عبر حفظ البريق المعماري لوسط البلد والاحتفال بالنسيج العمراني الحيوي في القاهرة” على حد قول الصفحة.
قامت الشركة بشراء 21 مبنى في قلب وسط البلد حتى اليوم، وتأمل أن تمتلك 10% من إجمالي مباني وسط البلد، حدثني “كريم الشافعي” رئيس مجلس إدارة الشركة عن خطط الشركة، مشيرًا إلى كيف يقوم موقع الشركة بتقديم كل مبنى من مبانيها على حدة، متحدثًا عن تاريخ المبنى من ناحية التصميم (الأجنبي بالطبع) والبناء وتاريخ ملكيته وهويته كموقع للنشاطات الاجتماعية والسياسية السابقة.
ومما ساعد الشركة بشكل عام هو رغبة أصحاب المباني في بيعها نظرًا لتحولها إلى ما يشبه الأرض الوقف نتيجة لعقود الإيجار الدائمة ذات القيمة الثابتة من فترة الخمسينات.
أما بخصوص احتفال الشركة بالنسيج العمراني، فقد حدثني الشافعي عن كيف تحاول الشركة الحفاظ على الاستخدامات الأصلية للمباني التي تشتريها ضاربًا المثل بمبادرة الشركة للحفاظ على ورش صناعة الملابس الموجودة في مباني المنطقة، ولكنه في نفس الوقت يتحدث عن كون هذه الورش غير عملية في زمن قل الطلب فيه على إنتاج الترزي في مقابل السوق الممتلئ بالملابس رخيصة السعر المصنعة بالخارج، خصيصًا مع انخفاض عدد سكان المنطقة من المتعاملين مع هذه الورش.
ولكن كما الحال مع كل مشاريع التجديد والاستبدال الطبقية، فإن نقل النشاطات التجارية متناهية الصغر ممن يعتمدون على اتفاقات غير رسمية مع أصحاب المباني لا على عقود سيؤدي إلى دفع الطبقة العاملة خارج المنطقة، أو كما أخبرني الشافعي: “أنا أعتقد أن نشاطات مثل الكافيه والمكتبة والبار تنتمي كلها لمنطقة وسط البلد، إلا أننا نرى أن نشاطات مثل الحدادة لا تنتمي لهذه المنطقة؛ ولذلك نعرض عليهم تعويضات مقابل نقل نشاطهم”.
كل ما سبق يتناسب تمامًا مع خطة القاهرة 2050، حيث تعتمد الخطة على عدد من المشروعات العملاقة “لتحديث” مصر عن طريق كسر مركزية المناطق السكانية المزدحمة بالقاهرة ونقل السكان إلى الضواحي الصحراوية المحيطة بها.
يُظهر العرض الإلكتروني للمشروع الذي تم عرضه في المنتدى العمراني الدولي في عام 2010 كيف تم استخدام رؤية عالمية لإعادة تصميم القاهرة، فقد شرح صانع العرض كيف يمكن للقاهرة أن تتغير تمامًا عن طريق صور لباريس ولندن وشنغهاي وسنغافورة وأبوظبي، وأضاف لذلك رسومًا للطرق الجديدة في الخطة التي سيكون عرضها قرابة الـ 600 متر ومحاطة بالأشجار العملاقة والمقاهي الفاخرة، وأضاف المصمم أيضًا صورة لطبق طائر مكتوب تحته “ستصبح مصر دولة متقدمة بحلول 2050”.
تم وضع أحياء كرملة بولاق وعين شمس والمطرية كأهداف لعملية “خلخلة” (أو تخفيض للكثافة السكانية بكلمات أخرى)، أما بالنسبة لوسط البلد فقد دعت الخطة لتدمير المباني القديمة وبناء عدد من ناطحات السحاب بطول النيل، ويتخلل هذه البنايات عدد من الحدائق الضخمة والمتاحف المفتوحة والمنتزهات الترفيهية، وكان جمهور هذا العرض عدد من المستثمرين المحتملين والمطورين العمرانيين من منطقة الخليج.
وحتى بعد أن تم إسقاط الرئيس السابق محمد حسني مبارك حتى فترة العام الذي استلم فيه محمد مرسي الحكم، استمرت الهيئات الإسكانية وعدد من المختصين في المجال في تداول نسخة محدثة من الخطة تحت مسمى القاهرة 2052.
كان تصور شركة الإسماعيلية لمنطقة القاهرة الخديوية ومبانيها التاريخية جزءًا هامًا من مشروع الخمسين، بل وتم نشر دراسات الجدوى التي قامت بها الشركة كجزء من الخطة تحت إشراف برنامج الأمم المتحدة للتنمية في موقع البرنامج والخطة.
بالأساس كانت شركة الإسماعيلية اتحادًا لعدد من المستثمرين المصريين والسعوديين، تحديدًا الملياردير المصري سميح ساوريس (المالك لقرابة 35% من أسهم الشركة)، وشركة أموال الخليج السعودية ورجل الأعمال السعودي شريف سليمان، وشركة بيلتون للتمويل (المملوكة لعلاء الدين سبع المساهم الأكبر في شركة مدينة نصر للاستثمار العقاري بالشراكة مع الجيش المصري)، بالتعاون مع المستثمرين المصريين أحمد خالد مصطفى وشهيرة محمود، جدير بالذكر أيضًا أن سميح ساويرس أحد أعضاء مجلس إدارة شركة بيلتون هو وعمار الخضيري مؤسس شركة أموال الخليج.
يتحكم ساويرس بالشراكة مع أسرته في مجموعة أوراسكم العملاقة، وهم أيضًا أعضاء مجلس إدارة أبراج نايل سيتي؛ المجمع المكون من مركز تسوق وسينما ومبان إدارية وفندق فيرمونت المطل على النيل من وسط البلد، وقد كان توسع الإخوة ساويرس في بناء مثل هذه المباني العملاقة متوافقًا مع خطة القاهرة خمسين خصوصًا في إزالة منطقة رملة بولاق (الحي الشعبي منعدم البنية التحتية الذي استمر في مواجهة تهديدات بالإزالة لعشرات السنين).
عندما تحدثت مع أصحاب المقاهي المحيطة بجاليري تاون هاوس في وسط البلد لم يبد على أي منهم معرفة بشركة الإسماعيلية، وأشار بعضهم لأن عمليات البيع في المنطقة تجري من خلال رجال ساويرس.
نتيجة للنقد الحاد للخطة حاولت كلاً من هيئة التخطيط العمراني وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية إضفاء نوعًا من الشفافية والإدماج المجتمعي في المشروع، وطلبت الأمم المتحدة من شركة “مجموعة البيئة والتنمية” الاستشارية المصرية أن تقوم بدراسة حول النتائج الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الخطة، إلا أن نتيجة هذه الدراسة ليست ملزمة بأي شكل لهيئة التخطيط العمراني؛ بالإضافة لكون كلاً من مجموعة أوراسكوم ومؤسسة ساويرس وشركة بيلتون زبائن قدامى عند مجموعة البيئة والتنمية.
وبذلك يتضح أن جميع أنواع الأطراف الحكومية والخاصة، والمحلية والدولية قد اتفقت على خطة تنموية لم يشارك فيها سكان المناطق المستهدفة بأي شكل من الأشكال.
وقد تحولت “الثقافة” إلى السلاح الرئيسي الذي يستخدمه المخططون ضد مجتمع سيتم إعادة تشكيله جبرًا ليقدر هذه الثقافة، تمتلك شركة الإسماعيلية المباني التي تحتوى على جاليري تاون هاوس ومركز الصورة المعاصرة، كما تقوم الشركة بتأجير فندق فيننويز وأماكن أخرى بشكل دوري لإقامة معارض ومشاريع للفنانين المحليين، ويستفيد مهرجان وسط البلد للفنون (حدث سنوي يستمر لثلاثة أسابيع منذ عام 2012) من الدعم المباشر لشركة الإسماعيلية بالإضافة للحق في استخدام مبانيها بما فيها كباريه شهرزاد الشهير، فقد قامت الشركة بتوفير قرابة 10% من تمويل المهرجان بينما غطت سفارات أجنبية ومؤسسات فنية الباقي.
يقول الشافعي إنه “لم يكن هناك أي نوع من الاهتمام بمنطقة وسط البلد طوال فترة الثورة؛ ولذلك قررت أن أبدأ مهرجان فني في وسط البلد، فطالما تواجد الفن في وسط البلد”، “أنا أؤمن أن مصر كانت تفتقد للاستنارة، فقد كانت في العصور الوسطى المظلمة”.
فبالنسبة لكل من الإسماعيلية وخطة القاهرة 2050 تصبح “الاستنارة الثقافية” هي الحجة المطلقة لفرض إعادة التشكيل النيوليبرالية على المجتمعات المحلية الفاعلة، ويصبح مهرجان وسط البلد للفنون مجرد أداة في سبيل ذلك.
وإذ يحدثني الشافعي عن الكوزموبوليتانية يبدو عليه إعجابه الشديد بنموذج “باريس النيل” الذي استخدم في تشكيل وسط البلد في بداية القرن العشرين، وتوضح تسمية الشركة بالإسماعيلية (نسبة إلى الخديوي إسماعيل الذي طلب إعادة رسم القاهرة وفقًا لنموذج البارون هاوسمان لباريس في القرن التاسع عشر) موقف الشركة ومؤسسيها من أفكار الخديوي، إلا أن هذا ليس بالضرورة ما أراد الخديوي فعله بخططه الطموحة، فقد كان الخديوي يطمح إلى إعادة تشكيل القاهرة لنقل القاهرة إلى الصورة الحديثة والمعاصرة (وقتها) للمدينة الأوروبية، إلا أن خطط شركة الإسماعيلية الحالية تحاول فرض صورة عمرها قرابة المائة عام على المنطقة التي تخطت هذه المرحلة بالفعل.
يرمز ترميم هذه المباني العتيقة إلى الانجذاب نحو أسلوب حياة يحتل المخيلة الحديثة، وبالرغم من كل المحاولات لجلب هذه المخيلة إلى الواقع إلا أن الواقع يظل دائمًا وأبدًا نتيجة هجينة، أو خليط بين المتخيل والواقع وخليط بين العالمي والمحلي، فتصميمات هاوسمان للمباني العملاقة والميادين الواسعة يتناثر عليها وحدات التكييف كما الملح وتمتلئ بالباعة الجائلين وواجهات المحلات المبهرجة.
وبينما تحصر المؤسسات العمرانية غير الهادفة للربح (كمجاورة وتضامن) اهتمامها في البحث العلمي والتعليم والتدخل الميكروسكوبي بهدوء شديد، تجمع كيانات مثل الإسماعيلية وخطط كالقاهرة 2050 مشاعر النوستالجيا والحنين بالحداثة في ضفائر من الأحلام بمستقبل وماضي القاهرة، خالقين صور زائفة لماضي وحاضر المدينة.
المصدر: مدى مصر