ترجمة وتحرير: نون بوست
انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة حشد من الرجال الفلسطينيين وهم يتدافعون لتقديم طلبات لأعمال لا تتطلب مهارات عالية في “إسرائيل”. في الصورة؛ يلوح الرجال باستماراتهم المملوءة، بشكل محموم، من خلال الشباك باتجاه الموظفين في غرفة التجارة في قطاع غزة، الذي تحاصره “إسرائيل” منذ سنة 2007، وهو حصار دمر اقتصاد القطاع الذي شهد ارتفاع معدل البطالة بنسبة 50 بالمائة، وترك الفلسطينيين معزولين عن العالم الخارجي إلى حد كبير. بالنسبة لأولئك الرجال الفقراء، العاجزين عن إطعام عائلاتهم والذين يلوحون بطلباتهم بيأس، لا بد أن فرص العمل في “إسرائيل”، مهما كانت وضيعة، مغرية.
لفهم المشهد في الصورة بشكل أفضل؛ عليك العودة إلى سبتمبر/ أيلول، قبل شهر من التقاط الصورة وبعد أربعة أشهر من شن “إسرائيل” عمليتها العسكرية الوحشية التي استمرت 11 يومًا على قطاع غزة؛ حيث أعلنت السلطات الإسرائيلية في سبتمبر/ أيلول أنها ستسمح لـ7000 فلسطيني من غزة بالعمل في وظائف تتطلب مهارات متدنية في “إسرائيل”. وبعد أيام قليلة؛ قالت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق – الهيئة المسؤولة عن شؤون المدنيين الفلسطينيين – إن السلطات الإسرائيلية ستسمح لـ3000 فلسطيني إضافي من القطاع المحاصر بالعمل في “إسرائيل”، وبذلك يصل العدد الإجمالي إلى 10000. وفي الشهر الماضي؛ تم رفع العدد مرة أخرى إلى 20000 فلسطيني.
ينظر الكثيرون إلى الخطوة الإسرائيلية على أنها محاولة لتعزيز الهدوء الهش بين “إسرائيل” وحماس، السلطة الحاكمة بحكم الأمر الواقع في قطاع غزة، والذي يقطنه أكثر من مليوني شخص.
وتقول النظرية إنه من خلال تخفيف الضغوط الاقتصادية على اقتصاد غزة بالسماح لبعض مواطنيها بالعمل في إسرائي؛ فإن السلام غير المستقر الذي أعقب الهجوم العسكري الإسرائيلي المدمر في آيار/مايو يمكن أن يستمر.
ومع ذلك؛ كما اكتشف موقع “ميدل إيست آي”، هناك العديد من الأشخاص الآخرين، من بينهم خبراء فلسطينيون وإسرائيليون، وكذلك مجموعات حقوقية، ممن يعتقدون أنه قد تكون هناك أسباب أخرى غير معلنة وراء الخطوة الإسرائيلية، وذلك لأن هناك وجهة نظر في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية بأن هجوم آيار/مايو على غزة كان فاشلاً، وأنه على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي تسبب في الكثير من الدمار والخسائر في الأرواح، إلا أنه فشل بشكل كبير في تدمير نظام إطلاق الصواريخ الخاص بحماس والقضاء على أي عضو بارز في القيادة العسكرية أو السياسية لها، مما يعني أن التهديد المستقبلي من حماس سيظل قائمًا إلى حد كبير.
ويعتقد بعض الخبراء أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الإخفاقات هو ضعف المعلومات الاستخباراتية على الأرض لتحديد الأهداف ومواقع أفراد حماس الرئيسيين، ولا توجد طريقة أفضل للحصول على معلومات استخبارية، من الحصول على إمدادات ثابتة من الرجال الفلسطينيين اليائسين والفقراء الذين يمرون يوميًّا عبر نقاط التفتيش؛ حيث يمكن استجوابهم وربما إجبارهم على نقل المعلومات.
تصاريح العمل
للحصول على تصريح والمرور عبر معبر بيت حانونم/ إيريز – الذي تسيطر عليه “إسرائيل” في شمال القطاع – يتعين على الفلسطينيين تلبية المعايير الإسرائيلية الصارمة للغاية والخضوع لفحوصات أمنية فردية. فمنذ فرض الحصار؛ وجد أغلب سكان غزة أنفسهم غير قادرين على تلبية هذه المعايير، مما يعني أنهم محرومون من العلاج الطبي، أو فرصة الدراسة في الخارج، أو العمل في “إسرائيل” أو الضفة الغربية المحتلة، أو حتى لم شمل عائلاتهم.
بين سنتي 2015 و2020، سُمح لـ 0.1٪ فقط من الفلسطينيين من غزة بالعمل في الضفة الغربية، وفقًا لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، لكن في الربع الأخير من سنة 2019، بدأت السلطات الإسرائيلية في منح عدد محدود من تصاريح التجارة والعمل لفلسطينيي غزة، فيما بدا أنه بادرة لإعادة الهدوء مع حماس، ولكن تم تعليق هذه العملية بعد فترة وجيزة مع تفشي وباء كوفيد 19.
لاحقًا، وفي أيلول/سبتمبر 2021؛ تم الإعلان الإسرائيلي عن استئناف تصاريح العمل، وقالت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق – في بيان لها إن قرار زيادة حصة التجار اتُّخذ على المستوى السياسي بعد تقييم أمني لهذا الأمر، وأضاف البيان أن القرار مشروط باستمرار الحفاظ على الاستقرار الأمني في المنطقة على المدى الطويل.
فجوة مخابراتية
في آيار/ماي 2021؛ شنت “إسرائيل” هجومها العسكري المدمر على قطاع غزة، والذي أطلق عليه اسم حارس الجدران، وذلك بعد أقل من شهر من إعلان الجيش الإسرائيلي أنه أعد بنكًا من الأهداف لردع الجماعات المسلحة، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، وقال المتحدث العسكري الإسرائيلي الجنرال هيداي زيلبرمان، خلال الهجوم، لراديو شبكة الجيش الإسرائيلي إن القوات الإسرائيلية لديها بنك ممتلئ من الأهداف وأنهم يريدون الاستمرار وممارسة الضغط على حماس، ولكن في 15 آيار/مايو، وفي اليوم السادس للهجوم، دعا وزراء الحكومة الإسرائيلية إلى إنهاء العملية لأن البنك المستهدف لـ”إسرائيل” استنفد نفسه، وفقًا للقناة 13 الإسرائيلية.
وفي ذلك اليوم؛ دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية مبنى مكونًا من 12 طابقًا في وسط مدينة غزة تستخدمه عدد من وسائل الإعلام، بما في ذلك ميدل إيست آي والجزيرة وأسوشيتد برس، وبلغ عدد القتلى الفلسطينيين 140 قتيلًا بينهم 39 طفلًا، لكن وفقًا لخبراء إسرائيليين، على الرغم من أن العملية نجحت في إلحاق ضرر كبير بالقدرات العسكرية لحركة حماس، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها، فقد قال عمر دوستري، خبير في الإستراتيجية والأمن الإسرائيلي، إن العملية بها ثغرات على المستوى العملياتي، وقد فشلت في الكشف عن الجماعات المسلحة في القطاع، وأضاف دوستري في مقال نشر في صحيفة معرشوت التابعة للجيش الإسرائيلي: “لقد فشل الجيش الإسرائيلي بشكل كبير في إحباط وتدمير نظام إطلاق الصواريخ والقذائف”.
وتابع قائلًا إن “العديد من الأسلحة الإستراتيجية الرئيسية للقوى الإرهابية في غزة ما زالت صالحة للاستعمال، لقد فشل الجيش الإسرائيلي في القضاء على أي عضو من الأعضاء الكبار في القيادة العسكرية أو السياسية لحماس”، مشيرًا إلى أن سبب فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه قد يكون فجوة استخباراتية، أو فجوة في تحديد الأهداف من قبل سلاح الجو، أو الخوف من إلحاق الضرر بغير المتورطين.
في أعقاب الهجوم؛ قال مسؤولون في الجيش الإسرائيلي إن حماس قد تهاجم “إسرائيل” مرة أخرى، رغم محاولات ردعها، فوفقًا لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، بعد أسبوع من التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين “إسرائيل” وحماس في آيار/مايو الماضي، قال مسؤولون رفيعو المستوى بالجيش في مناقشات داخلية إنه “من المستحيل تحديد مدى ردع حماس وكيف ستؤثر الأضرار في غزة على قرارها بشن حملة أخرى قريبًا”.
الاستمرار في إلقاء القنابل
وخلال العملية التي استمرت 11 يوما قتلت القوات الإسرائيلية 256 فلسطينيًّا، من بينهم 66 طفلًا، وأصيب 1948 آخرون، بينهم 610 طفلًا، بحسب وزارة الصحة في غزة، كما استُهدفت مئات الأماكن في مناطق مكتظة بالسكان في القطاع، بما في ذلك أحياء مدنية، باستخدام نحو 2750 غارة جوية و2300 قذيفة مدفعية، وقد يكون هذا دليلًا آخر على أن الجيش الإسرائيلي فشل في تحديد أهدافه بشكل صحيح.
وفي مقابلة مع صحيفة إندبندنت البريطانية في سنة 2020، قال عضو في سلاح الجو الإسرائيلي إنه “إذا كان هناك نقص في الأهداف أثناء العمليات، فإن الأوامر كانت ببساطة الاستمرار في إلقاء القنابل، في أي مكان من أجل إحداث ضوضاء”.
ويعتقد مسؤولون فلسطينيون وخبراء إسرائيليون أن هناك أسباب غير معلنة لفتح الباب أمام آلاف الفلسطينيين من غزة للعمل في “إسرائيل”. أحدها؛ كما يعتقد بعض الخبراء، هو سد فجوة استخباراتية من خلال تجنيد متعاونين فلسطينيين لجمع معلومات عن أعضاء الجماعات المسلحة أو أنشطة معينة في القطاع.
وقال رامي شقرا، العقيد بوزارة الداخلية في غزة، لموقع “ميدل إيست آي”: “العديد ممن ذهبوا مؤخرًا لحضور مقابلات مع المخابرات الإسرائيلية عند معبر بيت حانون عادوا للإبلاغ عن تعرضهم للابتزاز من قبل وزارة الداخلية”، وأضاف: “عُرض على البعض التعاون مع ضباط إسرائيليين من أجل تصاريح العمل والسفر أو المال، و طُرح على آخرين، بدلاً من التعاون، أسئلة عشوائية مشبوهة حول أشخاص معينين مرتبطين بالمقاومة، أو أقاربهم، أو أصدقائهم، أو حتى المقيمين في أحيائهم”، وتابع قائلًا: “نحن ندرك أن “إسرائيل” ستستخدم هذه الخطوة لمحاولة تجنيد فلسطينيين لجمع المعلومات عن سكان القطاع، خاصة وأن غزة أصبحت الآن منطقة مغلقة بالكامل تقريبًا ويصعب على الاحتلال جمع أنواع معينة من المعلومات”.
وقال شقرا إن الاجهزة الأمنية في غزة تدرك التهديد الذي تمثله مثل هذه الخطوة وستراقب الموضوع عن كثب.
ويعتقد هيليل كوهين، الباحث الإسرائيلي ومؤلف كتاب جيش الظلال: متعاونون فلسطينيون مع الصهيونية 1917-1948، أن السلطات الإسرائيلية كانت تصدر تصاريح عمل للفلسطينيين في غزة كوسيلة للحفاظ على الهدوء في القطاع، لكنهم كانوا يهدفون أيضًا لتجنيد متعاونين جدد، وأخبر موقع “ميدل إيست آي” أن “الدافع الأساسي كان تهدئة التوتر في قطاع غزة. لكن من المؤكد أن يتم استخدامه أيضًا كأداة لتجنيد المتعاونين”.
إكراه الفلسطينيين
منذ فرض حصار غزة؛ وثّقت منظمات حقوقية عشرات الحالات التي استخدمت فيها “إسرائيل” سيطرتها على المعابر لإجبار الفلسطينيين على التعاون مع أجهزتها المخابراتية مقابل تصاريح السفر والعمل أو العلاج الطبي، وقامت منظمة “غيشا” الإسرائيلية لحقوق الإنسان مؤخرًا بتوثيق حالات رُفضت فيها تصاريح عمل لفلسطينيين رفضوا التعاون مع ضباط الأمن الإسرائيليين عند معبر بيت حانون.
وقالت شاي جرونبرج، المتحدثة باسم المنظمة، لـ”ميدل إيست آي”: “هذه الممارسة ليست جديدة؛ فإسرائيل تستخدم سيطرتها على المعابر البرية للضغط على سكان غزة لتقديم معلومات عن أفراد مجتمعاتهم؛ حيث يدرك السكان أنه في حالة فشلهم في توفير المعلومات، فقد يمنعهم محققو وكالة الأمن الإسرائيلية (الشاباك) من الدخول، حتى لو كانوا بحاجة إلى علاج يتعلق بحياة أو موت”، كما أخبرت جرونبرج موقع “ميدل إيست آي” أنه في أعقاب قرار “إسرائيل” بمنح الآلاف من سكان غزة تصاريح عمل، وثَّقت منظمتها حالات قام فيها مسؤولون إسرائيليون بابتزاز حاملي تصاريح العمل بسبب حقهم في العمل، وأضافت: “أخبرنا أحد عملائنا، الذي يحمل تصريح تاجر، مؤخرًا أنه عندما دخل المعبر، أخذه ممثلون إسرائيليون جانبًا وطلبوا منه التعاون مع “إسرائيل”، وقيل له إنه إذا رفض ذلك، فلن يتمكن من استكمال رحلته والدخول إلى “إسرائيل”، وقد رفض التعاون، فسُحب منه التصريح الذي صدر له على الجانب الفلسطيني من المعبر، وأعيد إلى غزة، وأخبرنا أن الأمر نفسه حدث معه ثلاث مرات في الأسبوعين الماضيين”.
استجواب، ابتزاز، ضغط
وقال الخبير الأمني الفلسطيني محمد أبو هربيد، إن مقابلات الضباط الإسرائيليين مع العمال الفلسطينيين تُستخدم كأحد الأدوات الرئيسية في تجنيد المتعاونين، وقال إن “المعابر والأراضي المحتلة هما المكانان الرئيسيان؛ حيث يمكن لضابط التجنيد لقاء الضحية – “المتعاون” – من أجل استجوابه وابتزازه والضغط عليه لتقديم المعلومات، فإسرائيل تستخدم سيطرتها على الحدود لهذا السبب لأنه يوجد يوميًّا ما يقرب من 1200 إلى 2400 فلسطيني يعبرون معبر بيت حانون، من بينهم عمال وطلاب وزوار”.
وبينما أبلغ العمال عن عشرات التجارب المماثلة؛ قالت جرونبرج إن منظمة “غيشا” قد تلقت أيضًا شكاوى من مرضى يتعرضون للابتزاز بانتظام من قبل الضباط الإسرائيليين بسبب حقهم في الحركة والعلاج الطبي.
وتنفي السلطات الإسرائيلية المزاعم القائلة بأن مثل هذه الاستجوابات تستخدم لجمع معلومات أمنية أو لتجنيد المتعاونين، ولكن – في سنة 2015 – نشرت القناة العاشرة الإسرائيلية محادثة اعترف فيها ليئور لوتان، ممثل رئيس الوزراء الإسرائيلي لشؤون الأسرى والمفقودين، بأن أجهزة المخابرات الإسرائيلية عند معبر بيت حانون استخدمت سيطرتها على الحدود لإجبار الفلسطينيين على تبادل المعلومات الأمنية، وقال؛ في إشارة إلى أفيرا مانغيستو، وهو إسرائيلي عبر إلى غزة في سبتمبر/ أيلول 2014 واحتجزته حماس: “عندما أراد أشخاص، من أقارب مسؤولين رفيعي المستوى في حماس، دخول “إسرائيل” لتلقي العلاج الطبي، طلبنا منهم تزويدنا بمعلومات عن أفيرا”.
سياسة الترويض
منذ حرب الأيام الستة العربية الإسرائيلية سنة 1967، والتي أدت إلى الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، جندت “إسرائيل” عشرات الآلاف من الفلسطينيين للعمل كمتعاونين ولجمع المعلومات؛ وفقًا لتقرير صدر سنة 1994 عن منظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان.
بصفتها القوة الحاكمة على الفلسطينيين، فإن “إسرائيل” مسؤولة عن توفير الخدمات الحيوية للشعب المحتل، وقد ساعدها اعتمادهم على مثل هذه الخدمات في إجبار الكثيرين منهم على التعاون؛ بما في ذلك الابتزاز والتهديد والإغراء. هذا على الرغم من أن القانون الدولي يحظر جميع أفعال إجبار الأفراد على التعاون مع قوة محتلة.
ووفقًا لهليل كوهين، الباحث الإسرائيلي، كان تجنيد “إسرائيل” للمتعاونين الفلسطينيين أكثر كثافة في السبعينيات والثمانينيات، عندما استخدمتهم لجمع المعلومات عن أعضاء الجماعات المسلحة الفلسطينية، الذين اغتيل العديد منهم في وقت لاحق.
وقال مصدر مقرب من وزارة الداخلية في غزة لموقع “ميدل إيست آي” إنه من خلال السماح للآلاف من سكان غزة بالسفر والعمل في “إسرائيل” في ظل ظروف صارمة، تحاول السلطات الإسرائيلية تنفيذ سياسة الترويض. وقال المصدر: “إنهم يريدون أن يجعلوا سكان غزة يرون هذه الفرصة على أنها امتياز لا يريدون فقدانه بالانضمام إلى المقاومة أو دعمها”، وبحسب الخبير الأمني الفلسطيني محمد أبو هربيد، فإن “إسرائيل” كانت تحاول تغيير المعادلة في القطاع، مستخدمة سيطرتها على المعابر لفرض سياسة التجنيد الجماعي للسكان، وأضاف:” إن “إسرائيل” تفرض سياسات مختلفة وتستخدم أدوات مختلفة لتغيير الوضع الحالي، والبعد السياسي وراء هذه الخطوة أكبر من البعد الأمني والعملي، فإسرائيل تريد أن تمنح غزة شيئًا تخشى أن تخسره في حال هاجمت المقاومة إسرائيل؛ حيث إنها تعمل على جعل المقاومة تفكر مرتين قبل إطلاق صاروخ على الأراضي المحتلة، خشية أن يفقد الآلاف من سكان غزة عملهم وبالتالي ارتفاع معدلات الفقر والبطالة”.
معروفات وليست التزامات
بعد أقل من شهر من إعلان وزارة التعاون الإقليمي الإسرائيلية عن رفع الحكومة عدد التصاريح للفلسطينيين في غزة إلى ما مجموعه 20 ألف تصريح؛ أعلنت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق إغلاق معبر بيت حانون فيما قالت إنه رد على إطلاق صواريخ من القطاع وسط توترات في القدس بسبب الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وقالت الهيئة في بيان يوم السبت: “عقب إطلاق الصواريخ باتجاه الأراضي الإسرائيلية من قطاع غزة الليلة الماضية، تقرر عدم السماح بعبور التجار والعمال من غزة إلى “إسرائيل” يوم الأحد المقبل”.
ومن المرجح أن ينتهي الإغلاق عند استعادة الهدوء النسبي؛ لكن الإجراءات العقابية المماثلة ليست جديدة على غزة، فقد قال موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي سنة 1967: “دع الفرد يعرف أن لديه ما يخسره؛ حيث يمكن نسف منزله، ويمكن سحب رخصة الحافلة الخاصة به، ويمكن ترحيله من المنطقة، أو العكس، يمكنه العيش بكرامة، وكسب المال، واستغلال العرب الآخرين، والسفر في حافلته”.
وفي كتابه “الجزرة والعصا” الصادر سنة 1995، كتب شلومو جازيت، أول منسق إسرائيلي لأنشطة الحكومة في الأراضي الفلسطينية، قائلًا إن “سياسة “إسرائيل” تهدف إلى خلق وضع يكون فيه للسكان ما يخسرونه، وهو وضع تكون فيه العقوبة الأكثر فعالية هي إلغاء المزايا”.
ووفقًا لمنظمة بتسيلم، منذ احتلال “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية؛ اعتبرت السلطات منح الخدمات الحيوية والمدنية للفلسطينيين بمثابة معروفات وتعبيرًا عن حسن النية يمكن إلغاؤها في أي وقت، بدلًا من التزام يقع على عاتقها كقوة احتلال. وقالت المنظمة إنه على مدى سنوات؛ استخدمت “إسرائيل” طريقتين رئيسيتين لتجنيد المتعاونين، وهما جعل منح الخدمات الأساسية والتصاريح مشروطة بالتعاون، ووعد الأفراد المشتبه بهم أو المتهمين أو المدانين بارتكاب جرائم أمنية وجنائية؛ بإسقاط التهم عنهم أو تخفيف أحكامهم أو تحسين ظروفهم مقابل تعاونهم ومساعدتهم.
واستمر الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للقطاع الاقتصادي في غزة، فضلاً عن القيود الصارمة المفروضة على حدود القطاع، في دفع الآلاف من سكانه إلى البطالة والفقر، وفي سنة 2012؛ أُجبرت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق على إصدار وثيقة صدرت سنة 2008 تفصل الخطوط الحمراء الإسرائيلية لاستهلاك الغذاء في قطاع غزة، بعد معركة قانونية رفعتها منظمة “غيشا”.
الوثيقة؛ التي أعدت بعد قرابة عام من تشديد “إسرائيل” لحصارها على القطاع، حسبت الحد الأدنى لعدد السعرات الحرارية التي يحتاجها كل فلسطيني لحمايته من سوء التغذية، وكنتيجة للقيود الإسرائيلية، تبين أن ثلثي سكان غزة (64.4 بالمائة) يعانون من انعدام الأمن الغذائي بحلول بداية سنة 2022.
في أعقاب هجوم آيار/مايو؛ وصل معدل البطالة إلى 45 بالمائة، بينما بلغ معدل الفقر 64 بالمائة، أي ما يقارب ضعف مثيله في الضفة الغربية والقدس الشرقية، مع زيادة بنسبة 19 بالمائة على الأقل خلال 15 سنة منذ فرض الحصار.
الجوع كأداة
وكان للهجوم الإسرائيلي عواقب وخيمة على القطاع الاقتصادي الهش بالفعل؛ حيث أدى إلى تدمير 20 مصنعًا وإحالة ما لا يقل عن 5000 عامل إلى البطالة، ومع تدهور الوضع في القطاع والقيود المشددة المفروضة على التجار والمزارعين والصيادين، وجد سكان غزة بعض الراحة في تخفيف “إسرائيل” للقيود المفروضة على تصاريح العمل.
أبو جياب، اسم مستعار؛ حيث يفضل العمال عدم الكشف عن هويتهم خوفًا من فقدان تصاريح عملهم، حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال وعمل سابقًا كمحاضر جامعي، ويعمل حاليًا كعامل بناء في “إسرائيل” بسبب الانخفاض الشديد للغاية في الأجور وقلة فرص العمل في غزة؛ حيث يحضر هو وعشرات غيره دورات لتعليم اللغة العبرية في غزة حتى يتمكنوا من التواصل مع أصحاب العمل في “إسرائيل”. في غضون ذلك؛ يحضر مئات الشباب الآخرين، معظمهم من خريجي الجامعات، الدورات على أمل الحصول على تصاريح للعمل في وظائف وضيعة في “إسرائيل”.
وقال أبو جياب لموقع “ميدل إيست آي”: “كان راتبي في الجامعة يتراوح بين 420 و560 دولارًا كل ستة أشهر، ولم يكن يغطي أيًا من احتياجات عائلتي؛ فقد كنت أنفقه على المواصلات، ولكن في “إسرائيل” أحصل على حوالي 350-400 شيكل (110-140 دولارًا) في اليوم، ولا يعني ذلك أنني أفضل العمل في “إسرائيل”، لكني بحاجة إلى عمل يسمح لي بإعالة عائلتي. ولو وجدت عملًا براتب 50 شيكل فقط في اليوم في غزة، فسأبقى هنا وأعمل”.
حنين حسن، باحثة فلسطينية ونائبة رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، قالت إن “إسرائيل” تستخدم التجويع منذ عقود كأداة للسيطرة على الفلسطينيين في غزة. وقالت لموقع “ميدل إيست آي”: “بالإضافة إلى التهديد الوشيك لحياة الفلسطينيين مع اقتراب العمال من نقطة تفتيش إسرائيلية، فإن تصاريح العمل هذه هي شكل دقيق من أشكال العمل القسري في ظل الحكم الاستعماري؛ حيث لا يُمنح العمال الفلسطينيون أي وسيلة أخرى للعيش”، وأضافت: “لقد دفع الحصار الاستعماري والتخلف الممنهج لقطاع غزة، على مدى خمسة عقود، الفلسطينيين الجوعى إلى السعي للحصول على تصاريح عمل إسرائيلية”، متابعة: “هذه التصاريح لا تمثل فقط استغلالًا لأجساد الفلسطينيين وأراضيهم، بل تجبر العمال الفلسطينيين على المساهمة في القضاء على استقلالهم الوطني وطموحاتهم”.
المصدر: ميدل إيست آي