على نحو غير مفاجئ، اندلعت الجمعة الماضية بولاية غرب دارفور بمحلية كرينك، التي تبعد عن عاصمة الولاية مدينة الجنينة حوالي 80 كيلومترًا، أحداث عنف دامية بين مكوّنَين أهليَّين، اُستخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والثقيلة، لتخلّف الأحداث مئات القتلى وآلاف النازحين والمشردين، ولتنتقل الأحداث سريعًا إلى عاصمة الولاية مدينة الجنينة التي ما زالت تعيش حتى هذه اللحظات أجواء متوترة، تنذر بتفاقم الأزمة في ظل تقاعس السلطات.
ورغم أن ولاية غرب دارفور شهدت طوال الأعوام الماضية عددًا من أحداث العنف، راح ضحيتها مئات القتلى وآلاف المشردين، إلا أن الأحداث الأخيرة كانت صادمة، إذ خلّفت بعد مرور أقل من 72 ساعة أكثر من 200 قتيل من المدنيين والعزل، حتى لم يسلم من عمليات القتل والتصفيات المصلون في المساجد، ورجال الشرطة النظاميون من السكان المحليين بمدينة كرينيك.
ليست الأولى
الأحداث الأخيرة التي شهدتها ولاية غرب دارفور (إحدى ولايات إقليم دارفور الخمس)، لم تكن الأولى في الإقليم ولا في الولاية نفسها في الأعوام الأخيرة، وكان من المرجّح أن تتضاءل وتيرة العنف.
كما أن بعض المتفائلين رجّحوا تلاشيه وانعدامه تمامًا، بعد سقوط نظام البشير وتكوين حكومة في أعقاب انتصار الثورة، وانضمام حركات ممثلة للإقليم إلى الحكومة المركزية والولائية في مناصب سيادية وتنفيذية عليا، بحسب مستحقات اتفاق سلام جوبا.
وكان من المؤمل أن يكون اتفاق سلام جوبا محطة فارقة في تاريخ الإقليم الذي شهد صراعًا داميًا ما بين مكوناته طوال عقود، ورغم ذلك، وبعد تكوين الحكومة الانتقالية وانضمام الحركات المسلحة الممثلة للإقليم إلى الحكومة، شهد إقليم دارفور موجات متكررة من العنف ما بين المكونات الأهلية والاجتماعية في الإقليم.
ففي ديسمبر/ كانون الأول 2019 تحولت مشاجرة عادية ما بين شابَّين، في أحد أندية المشاهدة بمدينة الجنينة، إلى أحداث عنف قَبَلية دامية ما بين مكوّنَي القبائل العربية في غرب دارفور والمساليت، وهما المكوّنان نفسهما اللذين شهدا عددًا من موجات العنف لاحقًا، آخرها أحداث كرينك التي اندلعت الجمعة الماضية.
وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي، أعلن والي غرب دارفور السابق، محمد عبدالله الدومة، مدينة الجنينة منطقة منكوبة، إثر صراع دامٍ ما بين المكوّنَين المتصارعَين ذاتهما.
وتُعتبر هذه الموجة الأخيرة من العنف امتدادًا لتلك الصراعات التي تعود بجذورها إلى عقود إلى الوراء، إلا أن الأحداث الأخيرة حملت تطورًا نوعيًّا نسبة إلى الأوضاع السياسية التي أحاطت بالأحداث، ووجود أطراف الصراع على سدّة الجهاز التنفيذي والتشريعي، كما أن السلاح المستخدَم في النزاع يُنسب إلى أطراف حكومية.
أيضًا شهدت منطقة كوقلي بولاية شمال دارفور أحداثًا دامية في أغسطس/ آب العام الماضي، راح نتيجتها عدد من القتلى والجرحى، إلا أن تحركات عاجلة قامت بها جهات سيادية وأمنية، على رأسها عضو المجلس السيادي السابق محمد حسن التعايشي، حالت دون تفاقم الأمر.
عدة روايات وقتلى بريئون في كل حال
الحديث عن أسباب اندلاع أي صراع قَبَلي/ أهلي في دارفور يبدو صعبًا، فليست هناك نقطة محددة يمكن تأريخ انطلاق حدث منها، فعمومًا يظلّ الإقليم بؤرة ساخنة قابلة للاشتعال في أي وقت، هذا مع تبنّي أطراف النزاع لروايات متباينة، يحرص كل طرف على ذكر وترويج الرواية التي تؤيّد موقفه.
وبحسب تصريحات رسمية أدلى بها والي ولاية غرب دارفور، خميس عبد الله أبكر، فإن الأحداث تعود إلى حادثة مقتل شخصَين من العرب الرعاة في الولاية الجمعة الماضية، على بُعد 5 كيلومترات من كرينيك، وإثر عثور أهالي القتلى على جثمانَي القتيلَين، قام أهلاهما بتقصّي الأثر وصولًا إلى كرينيك، ليطالبوا المسؤولين هناك بتسليم الجناة في غضون ساعتَين كما ذكر الوالي.
وبحسب الوالي، فإن الجهات المسؤولة، على رأسها المدير التنفيذي للمحلية (الذي أُحرق مكتبه لاحقًا أثناء الأحداث)، وعدت بتسليم الجناة متى ما توصّلوا إليهم، وبحسب أحاديث الوالي فإن أهالي القتلى لم يمهلوا الجهات الحكومية الوقت الكافي لتسليم الجناة، ليقوموا بشنّ حملتهم الشرسة على المدينة خلال ساعات قليلة.
هناك رواية أخرى متداولة تقول إن سبب الغضب والمجزرة التي نُفِّذت بحقّ سكان كرينيك، يعود إلى أن أهالي القتيلَين من القبائل العربية التي قامت بتقصّي الأثر، تمّت مهاجمتهم في طريق عودتهم من قبل مجموعة من كرينيك، ليسقط عدد من القتلى ويفرّ الناجون لتبليغ أهاليهم، ما دفعهم لتنظيم الحملة الانتقامية.
وبغضّ النظر عن الرواية الصحيحة، فثمّة حقيقة مؤكدة، هي أن عددًا من الأسباب، على رأسها الغبن التاريخي، إضافة إلى انتشار السلاح وغياب أجهزة الدولة، تجعل من إقليم دارفور منطقة قابلة للاشتعال لأسباب لا تكون إلا بمثابة قدحة زناد، ليندلع النزاع الذي عادة ما يروح ضحاياه مئات القتلى الذين لا علاقة لهم بالأسباب المباشرة.
صراع قَبَلي بأسلحة حكومية
ربما النقطة الفارقة في الصراع المندلع حديثًا في كرينيك، هي احتماء كل مكوّن من المكوّنات المتناحرة بظهيره السياسي، إذ ترجّح معظم الشهادات مشاركة مجموعات من قوات الدعم السريع التي ينحدر معظم مجنّديها من القبائل العربية في هذا الصراع.
وقد تمَّ استخدام الأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى الدواب التي اشتهرت ميليشيات الجنجويد القَبَلية (بذرة قوات الدعم السريع) باستخدامها تاريخيًّا، إضافة إلى الدراجات النارية، كما أن أسلوب التصفيات وحرق المساكن هو الأسلوب المميز نفسه الذي ظلّت تتبعه ميليشيات الجنجويد، والذي أفضى إلى اتهامها دوليًّا بارتكاب جرائم تطهير عرقي.
وفي الجانب الآخر أيضًا، ينسبُ البعض مشاركة قوات التحالف السوداني في القتال إلى أنه دفاع عن مواطني مدينة كرينيك، وهي فصيل مسلح منضوٍ تحت مظلة الجبهة الثورية الموقعة على اتفاق سلام جوبا، ويشغل رئيسه الحالي، خميس عبد الله أبكر، منصب والي غرب دارفور.
ورغم أن الوالي نفى مشاركة قواته إلا أن الاتهامات طالت القوات، كما أن الوالي نفسه اعترف بمقتل القائد العام لقواته، إلياس مصطفى، واصفًا مقتله بـ”التصفية” أثناء تواجده بمحيط مستشفى الجنينة.
أثر سياسي محتمل
وفقًا لمخرجات اتفاق سلام جوبا، نُصِّب في العام الماضي مني أركو مناوي حاكمًا لإقليم دارفور، مع سلطات واسعة تقارب سلطات حاكم دولة مستقلة، ومنصب حاكم الإقليم هو منصب مستعاد من ماضي نُظُم الحكم في السودان، تمَّ تخصيصه استثنائيًّا رغم أن السودان ما زال يُدار بنظام الولايات.
ومنذ ذلك الوقت أضحى إقليم دارفور يقع نظريًّا تحت طائلة مناوي المنضم إلى الطاقم الحكومي، بوصفه أحد لوردات الحرب الذين صارعوا حكومة البشير قبل سقوطها.
وظلَّ مناوي يحتفظ بمساحة آمنة مع حلفائه من العسكريين، حيث يبدو حريصًا على هذا التحالف بعدما أفضى إلى محافظته على كل مكتسباته السياسية، رغم إطاحة العسكر بجميع المكتسبات التي ترتّبت عن تشكيل حكومة بعد الثورة.
ومع اندلاع الأحداث في كرينيك، توجّهت الأنظار إلى حاكم دارفور، بوصفه المسؤول الأول عمّا يحدث في دارفور، وبوصف أن شركاءه في الحكم، من العسكريين وقوات الدعم السريع، مسؤولون بشكل مباشر عمّا حدث في كرينيك، سواء باتهامات المشاركة المباشرة بالسلاح والجنود أو بالتقاعس عن حماية الضحايا لأسباب ما.
رغم التقارب الاضطراري ما بين الجبهة الثورية والعسكريين في السودان، إلا أن التناقض التاريخي ما بين الحليفَين يطل بوجهه مجددًا، مع اتخاذ الأحداث الأخيرة طابعًا وجوديًّا يهدد سلطة وجماهيرية هذه الحركات في الإقليم
مناوي الذي اتسمت فترة حكمه للإقليم بالضعف وفقدان السيطرة، أطل إطلالة باهتة تفضح حجم سلطاته الشكلية، والبعيدة تمامًا عن القدرة على إحداث فعل حقيقي، كما لم تخلُ إطلالته من رسائل تذمُّر أطلقها في وجه شركائه من العسكريين.
فقد حمّل حاكم الإقليم مسؤولية الأحداث إلى القوات المشتركة المناط بها حفظ السلام وبسط الأمن في المنطقة، حيث تواترت الأحاديث عن انسحاب حامية الجيش في كرينيك، وكأنها إشارة خضراء للميليشيات بارتكاب المجزرة.
وقال مناوي في خطاب له على خلفية الأحداث: “إن القوات الحكومية إما متواطئة أو متباطئة”، كما هدد بكشف أسماء المتورّطين في تأجيج الصراع.
التحالف بين الجبهة الثورية والمكون العسكري الذي على رأسه عبد الفتاح البرهان، لا يبدو تحالفًا استراتيجيًّا، فالعديد من الشواهد تقول إن المكوّن العسكري استخدم الحركات استخدامًا مرحليًّا بتقريبها له، من أجل إزاحة قوى الحرية والتغيير.
ورغم التقارب الاضطراري ما بين الجبهة الثورية والعسكريين في السودان، إلا أن التناقض التاريخي ما بين الحليفَين يطلّ بوجهه مجددًا، مع اتخاذ الأحداث الأخيرة طابعًا وجوديًّا يهدد سلطة وجماهيرية هذه الحركات في الإقليم، ويعيد إلى الأذهان تاريخ الصراع الدامي الذي ظنَّ الجميع، لوهلة، أنه أُغلق مع تحول هذه الحركات من متمردة إلى حاكمة للإقليم بحكم اتفاق سلام جوبا.