احتفى الأتراك مع بعض كبار المسؤولين في 23 أبريل/ نيسان الجاري بالذكرى الـ 102 لافتتاح مجلس الأمة (البرلمان)، وذلك في أول مقرّ له حين تأسس عام 1920 بمنطقة أولوس في العاصمة أنقرة، بمشاركة رئيس البرلمان مصطفى شنطوب، ونائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي، ووزير الدفاع خلوصي أكار، ورئيس حزب الحركة القومية دولت باهتشلي، وممثلي الكتل البرلمانية الحزبية.
أعاد الاحتفال للأذهان الدور الذي قام به البرلمان في مسيرة الكفاح الوطني من أجل التحرير والاستقلال، منذ مسمّاه القديم “المجلس العمومي” الذي اُفتتح في مارس/ آذار 1877، وكان أول برلمان للدولة العثمانية، وصولًا إلى مقرّه الحالي الذي دُشِّن يوم 6 يناير/كانون الثاني 1961، والذي شهد عددًا من التوسعات أبرزها في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1998، وذلك قبل الترميمات التي شهدها مؤخرًا بعد تعرُّضه للقصف في المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016.
وظلَّ البرلمان في مقرّه الأول في أولوس خلال فترة 1920-1924، ثم انتقل إلى مقرّه الحالي في منطقة تشانقايا، فيما حُوِّل المقر القديم إلى متحف “حرب الاستقلال”، ويوافق يوم تأسيس البرلمان وضع حجر أساس الجمهورية التركية وعيد الطفولة في آن واحد.
في هذه الجولة نلقي الضوء على أبرز المحطات المحورية في مسيرة قرن كامل من تاريخ مجلس الأمة، على رأسها قدرته الفائقة على الحفاظ طيلة العقود العشر الماضية على مدنية الدولة والتصدي لأي مخططات لإعادة البلاد إلى عصور العسكرة مرة أخرى، وتقليم أظافر المؤسسة العسكرية التي كانت تتربّص بالحكم بين الحين والآخر.
145 عامًا من الصمود
تعود معرفة العثمانيين بالكيانات البرلمانية إلى 19 مارس/ آذار 1877، حين اُفتتح أول برلمان رسمي في سرايا دولما باشا في إسطنبول، وقسِّم البرلمان حينها إلى مجلس نواب ومجلس للأعيان، وكان مقرّه الأول في جامعة إسطنبول، وبدأ في عقد أولى جلساته في اليوم التالي للتأسيس.
وقد شهدت السنوات الأولى لتدشين البرلمان العديد من موجات المدّ والجذر، حيث أغلق المجلس أكثر من مرة ثم أُعيد افتتاحه بعد ذلك، في ظل حالة الاضطرابات السياسية والأمنية التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية في ذلك الوقت، وظلَّ على تلك الشاكلة حتى عام 1908.
بعد احتلال إسطنبول عقب الخروج من الحرب العالمية الأولى، أُغلق البرلمان مرة أخرى، وهو ما دفع مصطفى كمال أتاتورك إلى دعوة أعضاء المجلس من المعارضة للتجمهُر أمام مقرّه في إسطنبول، وبالفعل احتشد النواب وأجريت انتخابات عامة سريعة، وتمَّ تشكيل هيئة تمثيلية من المدافعين عن الحقوق.
الخطوة لم تعجب الاحتلال البريطاني الذي اعتقل عددًا من النواب، ما أدّى إلى إعادة غلق المجلس مرة أخرى في 18 مارس/ آذار 1920، ونتاجًا لذلك دعا أتاتورك إلى عقد اجتماع عاجل في أنقرة للهيئة المشكّلة، ليصدر البيان الأول في 21 أبريل/ نيسان بالدعوة العاجلة إلى الاحتشاد يوم الجمعة، 23 من الشهر ذاته، وبالفعل اجتمع البرلمان وعُقدت جلسة عاجلة بمشاركة 115 نائبًا فقط، اُفتتحت بالأدعية عقب صلاة الجمعة المُقامة في جامع عيد الحج.
رأسَ المجلس وقتها البرلماني السيد شريف بصفته العضو الأكبر سنًّا، وألقى خطابه الشهير من على منصة المجلس، قائلًا: “أنا أفتتح المجلس القومي الأكبر بصفتي العضو الأكبر سنًّا لهذا المجلس الأعلى، مُعلنًا لكل العالم الذي بدأ بالإرادة ذاتها وأضيف مباشرة إلى مسؤوليته القدر في ظل الاستقلال التام عن الخارج وداخل نوابنا بمساعدة الله”.
في تلك الجلسة تمَّ تسمية البرلمان باسم “الجمعية التشريعية الكبرى لتركيا”، واختير مصطفى أتاتورك لرئاستها في اليوم التالي مباشرة، وظلَّ في منصبه هذا حتى 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1923، حين تمَّ انتخابه رئيسًا للجمهورية.
الهيكل والمهام
يتكوّن البرلمان التركي من 600 نائب، يتم انتخابهم بالاقتراع السرّي المباشر كل 5 سنوات في 85 دائرة مقسَّمة على محافظات البلاد البالغ عددها 81 محافظة، مع منح إسطنبول وأنقرة وأزمير دوائر انتخابية أكبر نسبيًّا بسبب الثقل السكاني لهذه المدن.
ويباشر الأعضاء عملهم في اليوم الخامس من إعلان النتائج النهائية للانتخابات من قبل الهيئة المشرفة، ويشترط لأي حزب الحصول على 10% على الأقل من الأصوات الصحيحة في البلاد ليتمَّ تمثيله داخل مجلس الأمة.
ويتكون المجلس من 5 كيانات رئيسية، تندرج تحت كل منها إدارات ولجان فرعية، الأولى: الجمعية العامة، والمعنية باتخاذ القرار النهائي في التشريع والمراقبة، كما أنها تبتُّ في مقترحات ومشاريع القوانين، ويضمّ جدول أعمالها عروض الرئاسة والأعمال الخاصة.
ثم ديوان الرئاسة، وهو المكتب التنفيذي للمجلس، ويعني بتنظيم الشؤون الإدارية والأنشطة التشريعية، ويكون من 15 عضوًا، رئيس المجلس ونوابه الأربعة وثلاثة من رؤساء الإدارة وسبعة من الكتّاب، فيما يجرى انتخاب رئيسه مرتَين في كل دورة تشريعية.
أما الكيان الثالث هو المجلس الاستشاري، الذي يرأسه رئيس البرلمان نفسه أو أحد نوابه، ويتشكّل من رؤساء كتل الأحزاب أو نوابهم، وتتمحور وظيفته في توجيه الأنشطة البرلمانية وتأمين الانسجام بين أنشطة الكتل البرلمانية، ويجتمع في الطوارئ بناء على طلب من أي رئيس كتلة حزبية في غضون 14 ساعة.
أما اللجان، وهي المكوّن الرابع للمجلس، فتتولى تهيئة النصوص التشريعية وتقديم مشاريع القوانين والمقترحات، وتشكَّل من عدد من النواب أصحاب الكفاءات والخبرة، وتنقسم إلى قسمَين: لجان دائمة تتولى وضع القوانين ودراسة مقترحات المشاريع، ولجان مؤقتة، وهي المشكّلة لفترة زمنية محددة للحصول على المعلومات أو المراقبة.
وتختتم أركان المجلس الخمسة بالكتل الحزبية، حيث يدشِّن كل حزب داخل البرلمان كتلة برلمانية خاصة به، في الغالب يرأسها رئيس الحزب إن كان نائبًا، وتتولى متابعة نشاطات الحزب والمقترحات الخاصة به، مع إمكانية عقد بعض التحالفات الداخلية لتمرير مشاريع بعينها.
وبحسب المادة 87 من الدستور التركي المعدَّل عام 2017، تشمل واجبات الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا وسلطاتها “سنَّ القوانين وتعديلها وإلغاءها؛ ومناقشة مشروع قانون الموازنة ومشروع قانون الحساب الختامي واعتمادهما؛ وإصدار قرارات صكّ العملة وإعلان الحرب؛ والموافقة على التصديق على المعاهدات الدولية؛ وإصدار قرارات العفو العام والعفو الخاص بأغلبية ثلاثة أخماس الأعضاء؛ وممارسة الصلاحيات والواجبات المنصوص عليها في سائر مواد الدستور”.
تقزيم النفوذ العسكري
كان الجيش حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي هو اللاعب الأبرز في الساحة، والمتحكّم الرئيسي في الخارطة السياسية، مستفيدًا من الوضعية الجيوسياسية التي فرضَت على تركيا تقوية مؤسستها العسكرية وتسليحها ومنحها المزيد من الصلاحيات من أجل مواجهة التحديات، لا سيما أن البلاد تقع في منطقة تعاني من الهشاشة الأمنية والسياسية على حد سواء، تلك الخاصة بمثلث الأزمات المعروف (القوقازي – البلقاني – الشرق أوسطي).
وسمحت تلك الحالة في تنامي نفوذ الجنرالات حتى باتت الانقلابات العسكرية سمة وظاهرة تركيتَين لعدة عقود طويلة، فالنظام الذي لا يتواءم مع أهداف العسكر كان يُطاح به بغمضة عين، ليتمَّ تدشين تعديلات جديدة تمنح المؤسسة العسكرية المزيد من الصلاحيات، وهكذا ظلت البلاد أسيرة هذا النفوذ الذي أجهض مخططات التنمية ورؤى النهوض.
ومع نهاية عام 1998 بدأ الحديث عن ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي خلال قمة هلسنكي، وهي الخطوة التي تتطلب تقليص الصلاحيات الممنوحة للجنرالات للتدخل في الحياة السياسية، بحسب الشروط الأمريكية الأوروبية، وعليه كان التوجُّه نحو تقزيم هذا الدور، لكن القوة التي كانت عليها المؤسسة العسكرية والنفوذ المتنامي كانا حائلَين دون ذلك.
استمرَّ هذا الملف على موائد النقاش دون اتخاذ قرارات جذرية حتى عام 2003 بصعود حزب “العدالة والتنمية” إلى سدة السلطة في البلاد، وفرض سيطرته على السلطتَين التنفيذية والتشريعية وغالبية البلديات، وهنا ظهر دور البرلمان كأحد الأدوات الرئيسية لتقليم أظافر الجيش وجنرالاته.
حاول العسكر العودة للمشهد مرة أخرى من خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، غير أن البرلمان بقيادة رئيسه حينها، إسماعيل كهربان، تصدّى لتلك المؤامرة
وعلى الفور اتّخذ البرلمان حزمة من القوانين التي تهدف لإعادة هيكلة كافة المؤسسات التركية، بما فيها المؤسسة العسكرية بما يتماشى مع المعايير الجديدة الخاصة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتي كان على رأسها تعزيز النظام المدني وتقليل هامش تدخُّل الجيش في الحياة السياسية، وفي 30 يوليو/ تموز 2003 صادق البرلمان على 7 حزم قانونية شكّلت نقطة فاصلة في العلاقة بين العسكر والنظام التركي.
وتمحورت تلك الحزم في تقليص وضعية المؤسسة العسكرية، وإلغاء هيمنتها على بنية مجلس الأمن القومي، وإلغاء صلاحيات المراقبة والمتابعة، كما سحبت من رئيس الأركان بعض الصلاحيات التي كانت ممنوحة له، وأُعيد تشكيل مجلس الأمن القومي لتكون الأغلبية فيه للمدنيين (9 مدنيين مقابل 5 عسكريين).
هذا بخلاف فرض الرقابة على نفقات الجيش، ووضع موارده تحت مراقبة الدولة والبرلمان، وتعزيز دور المحاسبة وفرض القانون على الجميع، مع سحب معظم الامتيازات المخصصة لكبار جنرالات المؤسسة العسكرية، وهو ما أخرجها رويدًا رويدًا خارج الحلبة السياسية، لتحافظ الدولة التركية على طابعها المدني وتزيح الجيش عن الساحة.
حاول العسكر العودة للمشهد مرة أخرى من خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، غير أن البرلمان بقيادة رئيسه حينها، إسماعيل كهربان، تصدى لتلك المؤامرة، ما أثار حفيظة الانقلابيين، الأمر الذي جعلهم يقصفون المبنى بقذائف أسفرت عن مقتل أكثر من 10 أشخاص، فضلًا عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمبنى.
دور دبلوماسي
اتّخذ مجلس الأمة التركي طيلة مسيرته العديد من القرارات والمواقف التي ساهمت في تغيير خارطة البلاد وتحالفاتها الخارجية، وانعكست بشكل أو بآخر على الوضع الداخلي، بعضها كان مثار تقدير وإعجاب الشارع التركي، والآخر كان مثار جدل وتباين في وجهات النظر.
البداية كانت مع توقيع البرلمان لأول معاهدة دولية مع جمهورية أرمينيا في 3 ديسمبر/ كانون الأول 1920، تمَّ بموجبها إغلاق الجبهة الحربية الشرقية، وفي العام التالي مباشرة في 16 مارس/ آذار وقّع المجلس مع الاتحاد السوفيتي معاهدة موسكو، التي أدّت إلى الاعتراف بالحدود الدولية لتركيا الحديثة، وكان ذلك أول اعتراف بتلك الحدود من دولة أجنبية.
وفي 30 مارس/ آذار 2003 وافق البرلمان على فتح المجال الجوي التركي أمام الطائرات الأميركية، كما وافقَ على إرسال قوات تركية إلى شمالي العراق، وقد صوّت لصالح هذا القرار 332 نائبًا من أصل 535 حضروا الجلسة، فيما اعترض 202 وامتنع نائب عن التصويت.
وفي السياق الدبلوماسي ذاته ومنهجية تصفير المشاكل التي يسعى البرلمان لتبنّيها، صادق مجلس الأمة في أغسطس/ آب 2016 على اتفاق تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”، ليسدل الستار على خلاف السنوات الست بين البلدَين، وهو القرار الذي أثار غضب الشارع العربي والفلسطيني، رغم تأكيد أنقرة أنه لن يؤثر على دعم القضية الفلسطينية.
تعديلات تشريعية
تبنّى البرلمان عددًا من الإجراءات الرامية إلى علمنة الدولة والميل نحو النهج الليبرالي، مع بعض الإصلاحات المجتمعية التي كانت مثار انتقاد المجتمع الدولي، ووقفت حجر عثرة أمام التقارب التركي الأوروبي، وهو ما ساهمَ بشكل أو بآخر في تجميل صورة البلاد عالميًّا، وتقليل حجم الهجوم الدولي عليها.
ومن أبرز الخطوات في هذا المجال، التعديل الدستوري الذي أجراه المجلس في 10 أبريل/ نيسان 1928، والذي يتضمّن إزالة بند “الإسلام هو دين الدولة” ليتحول نظام الحكم في البلاد من حكم إسلامي إلى حكم علماني، وهي الخطوة التي غيّرت وجه تركيا حتى اليوم، وفي 5 ديسمبر/ كانون الأول 1934 منح المجلس المرأة حقّ التصويت والترشُّح.
وفي أغسطس/ آب 2002 صادق المجلس على مشروع قانون لإلغاء عقوبة الإعدام، حيث صوّت على القانون 256 نائبًا مقابل معارضة 162 عضوًا وامتناع عضو واحد عن التصويت، وجاء هذا المشروع ضمن قائمة مطوّلة من المقترحات التي تشمل إصلاحات اجتماعية وتشريعية تهدف إلى تعزيز الملف الحقوقي والاجتماعي.
التحول إلى النظام الرئاسي
ومن أكثر الملفات التي أثارت الجدل داخل البرلمان وخارجه، ذلك المقترح الخاص بتغيير نظام الحكم في البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي، حيث وافقت اللجنة الدستورية عليه في البرلمان نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2016، وتمَّ تمريره رسميًّا في يناير/ كانون الثاني 2017.
ومن أبرز المواد التي تضمّنها التعديل السماح للرئيس رجب طيب أردوغان بالبقاء في السلطة حتى عام 2029، بعد 3 ولايات على رأس الحكومة (2003-2014)، كذلك زيادة عدد النواب في البرلمان التركي من 550 إلى 600 نائب، وخفض سنّ الترشُّح للنيابة من 25 إلى 18عامًا.
معركة دستورية جديدة هي الأحدث ربما يخوضها البرلمان خلال الأيام القادمة، تتعلق بمشروع قانون الانتخاب الذي تقدّم به تحالف الجمهور المكوّن من حزبَي العدالة والتنمية والحركة القومية، في 24 مارس/ آذار 2022 الماضي، ويتضمّن 15 مادة بعضها أثار الجدل، وهي خفض العتبة الانتخابية إلى 7%، واستثناء الرئيس من قانون “الصمت الانتخابي”، وانتخاب رؤساء اللجان الانتخابية، وطريقة احتساب أصوات الأحزاب التي تنضوي تحت تحالف واحد، ويتوقع أن تشهد قاعة الاجتماعات خلال مناقشته، المتوقع أن تكون خلال الأيام المقبلة، سجالات حامية الوطيس بين المعارضة وتحالف الجمهور.
في ضوء ما سبق، ورغم الانتقادات التي وُجِّهت لمجلس الأمة التركي إزاء بعض القرارات، يُحسب له دوره الحاسم في قطع الطريق تمامًا أمام الجنرالات لاستعادة نفوذهم والهيمنة مجددًا على الحياة السياسية، وهو النجاح الذي يُحسب في المقام الأول للبرلمان ثم للنخبة السياسية، حكومة ومعارضة، ليظلَّ هذا الكيان علامة فارقة في تاريخ الدولة التركية الحديث.