في سباق الدراما الرمضاني، تنافس أكثر من 30 مسلسلًا مصريًا على جذب الجمهور وتحقيق نسبة مشاهدة عالية، مسلسلات عديدة تعرض مواضيع مختلفة ولفئات متنوعة، ما يجعل السباق هذا الموسم سباقًا صعبًا وتنافسيًا، وينقص من فرص نجاح العديد من الأعمال الدرامية بأنواعها المختلفة، إذ لا يتم رصدها على الرادار الرمضاني طبقًا للبيئة التنافسية ومساحة العرض الضيقة في قنوات معينة.
جميع هذه المسلسلات تقريبًا تستخدم فورمات الثلاثين حلقة ما عدا عمل أو اثنين، كانت لديهم الجرأة الكافية لكسر أنماط الدراما التليفزيونية المعهودة، من هذه الأعمال الدرامية مسلسل “مين قال” الذي لم يكتف بالتمرد على القالب الخارجي لعدد الحلقات، بل غيّر مضمونه بشكل مميز وابتعد عن الدراما النمطية، ليتحقق واحد من أوائل المسلسلات التليفزيونية التي تتعرض لمشاكل المراهقين بشكل جدي وتركز على أنماط الحياة الأسرية داخل المجتمع الما بعد حداثي، لكن من منظور المراهقين أنفسهم أكثر من منظور الكبار المتحكمين.
تلعب نادين خان مخرجة المسلسل في مساحة مختلفة تمامًا بعيدًا عن كل الأعمال الرمضانية، ما يمنحها تفردًا على مستوى الشريحة الجماهيرية خصوصًا مع قالب الخمس عشرة حلقة الذي يجعل قرار متابعة المسلسل أمرًا يسيرًا وأقل خطورة، لأن مسلسلات الخمس عشرة حلقة تتميز بإيقاع أسرع وحبكة مشدودة، بالإضافة لضرورة انكشاف الحبكة الرئيسية في الحلقات الأولى.
جازف صنّاع العمل بالمضمون أولًا، فدراما المراهقين مصطلح ملتبس ومساحة غامضة بالنسبة للمشاهد المصري، ربما هذه ميزة وعيب في الوقت ذاته، فهو نوع درامي مشهور في كل أنحاء العالم تقريبًا إلا مصر، يتسم بديناميكية عالية ويأخذ أشكالًا وأنماطًا مختلفةً، بجانب حصوله على نسب مشاهدة عالية جدًا بالمنصات الإلكترونية.
فنوعية المراهقين تتميز بخصوصية عالية وتحتاج لوعي تام بالمشكلة الرئيسية والظروف المحيطة، الجدير بالذكر أنها تندرج تحت نوع Coming of age الذي يمتاز بالتمرد والاندفاع والجرأة على الخوض في حياة المراهقين بطريقة تبتعد عن السذاجة المعهودة في الطرح، وتصل لنقاط تبدو ملتبسة بالنسبة للكثير من الأجيال، أعمال مثل “13 Reasons Why” و”Euphoria” و”On My Block”.
جيل مختلف
الروح الجديدة هي ما تجعل هذا العمل الدرامي مميزًا، فبداية من المخرجة الشابة نادين خان ابنة المخرج الكبير الراحل محمد خان، مرورًا بالوجوه الجديدة التي تقدمها نادين على مدار خمس عشرة حلقة، وصولًا لحداثة عهد الفكرة بالنسبة للسوق المصري، كل هذا يضع المسلسل في منطقة أخرى.
فالتيمة المقدمة هنا تستهدف فئة المراهقين والشباب بشكل أساسي وهم الشريحة الكبرى، لكنها في الوقت ذاته تمنح مساحةً لشريحة هائلة من الفئات العمرية لأنهم جميعًا متورطون في الحكاية، فالمجتمع ببساطة يتكون من أباء وأبناء، ما يسمح للمسلسل بالتغلغل في الشرائح العمرية بسهولة، خصوصًا أن الحبكة كلها تقوم على إشكالية جيل أولياء الأمور الذي يشكّل المجتمع بصورته السلطوية المتحكمة، وجيل الأبناء، المتمثل في مجموعة مراهقين منعزلين بفكرهم وأحلامهم وطموحاتهم عن مجتمع أولياء الأمور، ويأخذ المسلسل من هذه الفجوة الهائلة مساحةً له، يعرض خلالها معضلات الجيل الحاليّ في مواجهة سطوة الأجيال القديمة، بتفاوت أعمارهم وتوجهاتهم.
الجدير بالذكر أن المسلسل لا يؤسس لوجهة نظر أحادية، رغم محاولات تكثيف السرد في اتجاه الأبناء كشخصيات رئيسية، ورصد تأثير التحديات والمشاكل على حياتهم، خصوصًا أنهم نحو سبع شخصيات من فئة المراهقين، ما يستدعي نوعًا من التنسيق والتنظيم بين مساحة الأدوار، بيد أن ورشة كتابة مريم نعوم المنوطة بكتابة سيناريو العمل الدرامي لم تغفل دور الآباء، وحاولت توضيح موقفهم من طيش أولادهم، لتمنح رؤية أوسع وأشمل للمشاكل وتعطيها سمة واقعية، بجانب رصد الصراع الهوياتي بين الآباء والأبناء وتقديمه كصراع أجيال، بالإضافة إلى توريط مجتمع الآباء في مشكلات مشابهة، واختبارهم كممثلين لمجتمع الوصايا في اضطرابات حياتية واردة الحدوث، تعكس هذه المنعطفات الدرامية وجهات نظر مختلفة للإشكاليات الرئيسية وتنزع النظرة الأحادية لأي من الجيلين.
الإشكالية والطبقة الاجتماعية
تغوص نادين في عالم المراهقين، ترصد همومهم وأحلامهم وعلاقاتهم الداخلية حتى تقاليع الموضة التي ينتمون إليها، تتبعهم الكاميرا في المنزل والجامعة وأماكن الترفيه والتجمّع، في أشد الأماكن خصوصية وفي أكثرها شيوعًا وعمومية، إلا أن هناك سؤالًا ملحًا يثير المشاهد العادي أمام التلفاز: هل يتحدث المسلسل عن المراهقين بغض النظر عن شرائحهم الاجتماعية أم يستهدف طبقة اجتماعية معينة؟ هل يرصد نماذج معينة ويقدم خطابًا ينتمي لشريحة اجتماعية معينة لا يمكن تعميمها؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بشكلٍ قطعي، فمن المؤكد أن العالم الذي ينتمي إليه بطلنا “شريف” لا يشبه مجتمع الطبقة الوسطى أو الطبقة العاملة التي ينتمي إليها أغلب المصريين، لا يوجد تماثل في شكل العمارة والمسكن ولا الرفاهية الاجتماعية بكل أشكالها التي يعيشها شريف وأصدقاؤه، فأغلب الشباب في هذا العمر لا يملكون سيارة ولا حتى سكوتر، والأغلبية لا يقدرون على مصاريف الجامعات الخاصة.
إلا أن هذا التناقض في نمط الحياة والشكل الخارجي للمعيشة لا ينفي إطلاقًا تشابه المشكلات التي تواجه جيل المراهقين من كل فئات المجتمع، أنا لا أحصر جميع المشكلات على المسلسل، لا أقيم حدًا بين هموم أبطال المسلسل وهموم الشباب خارجها، لكن من غير المنطقي أن يحتوي عملًا واحدًا على كل المشكلات الممكنة، لذا فبالنظر للإشكاليات التي تعرّضت لها المخرجة نادين خان دراميًا داخل المسلسل سنجد تآلفًا وتجانسًا بين جيل كامل.
فهذا النوع من التحديات، أقصد التحديات التي تحيط بعقل المراهق في فترة الشباب بغرض تحقيق الذات، هي العامل المشترك لفئة المراهقين بشكل عام، محاولة الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي والانفلات عن سلطة أولياء الأمور شيئًا طبيعيًا لأولاد ما زالوا يستكشفون الحياة.
إلى جانب هذه النقطة، وعلى الرغم من خصوصية شريحة المراهقين مقارنة بالشرائح الأخرى، فإن الحداثة والعولمة ضيقا مساحة الاختلاف بين طبقات الشريحة الواحدة، فهم جيل واحد بغض النظر عن الفروق الاقتصادية، جميعهم نشأوا في خضم التكنولوجيا، يقدسون الحوسبة والآلية، يحملون هواتف ذكية وينشطون على السوشيال ميديا التي أصبحت مساحة مختلفة للتعبير والرواج، لذا فتوجه نادين خان نحو هذه الشريحة كان ذكيًا، لأنها ببساطة مساحة تنوع واختلاف ستغذي الرؤية وستوفر عدة ثيمات للحكي.
يأخذ مسلسل “مين قال؟!” التمرد ثيمةً له، بداية من الاسم الذي ينم عن صيغة استفهامية مبطّنة بالتحدي، فيها نوع من التساؤل والجرأة على المواجهة، مرورًا بالتتر الرئيسي لمغني الراب الشهير “شاهين” الذي يصنع أغنيةً يشوبها التمرد على التقاليد من كل اتجاه.
فاختيار شاهين نفسه هو محاولة للثورة على السائد والتقليدي، لأنه ينتمي لفن غنائي يأخذ من التمرد شعارًا له، حتى في حلقات المسلسل نجد نزعةً دفينةً للتمرد داخل كل شخصية من الشخصيات الرئيسية، الصخب والعلاقات المشوهة، والشجارات الكثيرة تحدث ديناميكية وتخلق ذروات صغيرة تدفع المشاهد لمتابعة الأحداث بشغف.
رغم هذه المزايا، لم يخل من العيوب أيضًا، أولها بالطبع كانت شخصية الأب ــ الممثل جمال سليمان ــ الذي لا يتقن اللهجة المصرية بالمرّة ويواجه صعوبة في تمصير الحديث، كان هذا أمرًا مزعجًا بحق، كان من الممكن الخروج من هذا المأزق عبر تبرير اللهجة خلال الأحداث، ومنحها سببًا منطقيًا، بيد أن فريق العمل تركها كما هي، لتتحول إلى علامة استفهام كبيرة، الشيء الآخر هو كثرة الشخصيات التي لا تجد مساحة كبيرة للتعبير عن نفسها، بحيث يمكن أن يتعاطف معها المشاهد بشكل كامل، وهذا لضيق عدد الحلقات والمساحة، ورغم ذلك جرى تقديم الشخصيات بشكل جيد، لكن المشكلة في تطورها وليس في تقديمها.