أخفقت حكومة فتحي باشاغا المكلفة من مجلس النواب الليبي مرّتَين في دخول العاصمة طرابلس للاستقرار هناك، حيث يئسَت وانكفأت أخيرًا إلى عاصمة الجنوب سبها، ولا يبدو أن الأمر داخلي فقط، بل إن عوامله تمتدّ إلى دول الجوار، خاصة بعد العودة القوية للجزائر إلى الساحة المغاربية.
لذلك اتّبعت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة مؤخرًا سياسة الهجوم خير وسيلة للدفاع، بالبحث عن تحالفات غربًا، فقطعت ورقة الضمانة الجزائرية، ولا تزال تبحث عن دعم أكبر من تونس، بعد تواتر الحديث عن فشل الحكومة المكلَّفة من البرلمان في دخول طرابلس بتذكرة تونسية، حتى أنها استقرت بالجنوب الليبي.
طرابلس الغرب.. للغرب
يبدو أن حكومة طرابلس الغرب بناء على تحركاتها الأخيرة، تفطّنت إلى أن عمقها الاستراتيجي هو التوجه غربًا لتحييد الجوار الشرقي، وكسب حلفاء بعد تهديد الشرق باختراق الحكومة في عقر دارها، فسابقًا أيام الحصار الغربي لليبيا عقب بأزمة لوكربي، ومن المحور الشرقي، لم تجد طرابلس إلا البوابات الغربية كمتنفّس، ولا منّة في ذلك، فالمقاومة الجزائرية والتونسية أيام الاستعمار وجدت في ليبيا عمقًا لالتقاط أنفاسها.
لم يجد الدبيبة بدًّا من التوجُّه إلى الجزائر والاستفادة من موقفها المعادي للواء المتقاعد خليفة حفتر، وخاصة من موقف الرئيس عبد المجيد تبون، الذي لا تزال مواقفه القديمة محفوظة، بشأن مساندة طرابلس خلال العدوان عليها من الشرق عام 2019، بل إعراب تبون عن نيّته التدخل لمنع سقوط طرابلس بيد حفتر، وهذا الموقف تجدد اليوم.
شاهد | الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في لقاء مع قناة الجزيرة: “حينما قلنا إن #طرابلس خط أحمر كنا نقصد جيدا ما نقول، ولن نقبل أن يحتلها المرتزقة”#ليبيا #الجزائر pic.twitter.com/YxqRPaikeI
— قناة فبراير (@FebruaryChannel) June 8, 2021
صحيح أن الموقف اعتبره كثيرون متأخرًا حينها، في وقت كان فيه وزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا يجوب الجزائر وتونس وتركيا بحثًا عن تحالف ثلاثي مع طرابلس ضد محور مصر والإمارات وفرنسا، لكن لا يخفى ما كانت تمرُّ به الجزائر حينئذ من حالة ترهُّل عامة، كانت وراء ضعف موقفها بشكل عام، على خلاف حقيقة الموقف المساند للشرعية الأممية، باعتبار ما تمرُّ به الجزائر من حراك داخلي تزامن مع تولي تبون، وحداثة عهده بالسلطة وتشعّبات الأوضاع السياسية، بما فيها الجارة تونس، التي خرجت لتوها من انتخابات رئاسية وتشريعية أيضًا.
وبالتالي كانت تلك الفترة بالغة التعقيد، جعلت طرابلس تعاني وحدها تبعات تدخل المحور المصري، بينما اكتفت الجزائر ببعض المواقف الكلامية، فيما ظلت تونس على الحياد التقليدي، الذي ميّز سياستها عمومًا ولو بفوارق، وهو ما يعدّ في حد ذاته أمرًا خادمًا للدبلوماسية الليبية إلى حد كبير، طالما لم تكن ضدها.
دعم قوي للشرعية
بعد استقرار الوضع النسبي في الجزائر، وإثر الانتصار السياسي لحكومة الوفاق في صيف 2020 وردّ قوات حفتر على أعقابها إلى حدود 500 كم شرقًا، حتى حدود التماسّ مع سرت والجفرة بعد التدخل التركي، وجدت سلطة تبون متنفّسًا كبيرًا في إظهار ما كان في جعبتها من تأييد قوي للغرب الليبي، وذلك في معارضة للموقف المصري، وعلى ذلك الأساس خرج تبون في حوار تلفزيوني أخيرًا، وبشّر بعودة الجزائر القوية إلى الساحة السياسية، وكان مبدئيًّا من حيث دعم السلطة الشرعية القائمة المعترَف بها أمميًّا.
تجدد الموقف نفسه مؤخرًا من الرئيس الجزائري هذه المرة تصريحًا وليس تلميحًا، معلنًا معارضة بلاده كل محاولات تقسيم وتشكيل حكومات غير منتخَبة في ليبيا، بل دعا صراحة إلى انتخابات تشريعية دون ذكر الانتخابات رئاسية.
حيث يطالب بهذا قطاع شعبي واسع ليستفرد رئيس الدولة بالحكم في حال إجراء انتخابات رئاسية قبل التشريعية، على غرار المحاولات السابقة في تفصيل القاعدة الدستورية على مقاس حفتر، وبالتالي منح الفرصة للبرلمان الجديد لاختيار آليات الحكم وشكل الدولة.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وموقف الجزائر من الحكومة الشرعية في ليبيا.
????? pic.twitter.com/NNOLwr9FIE
— Faisel Ali Elsherif (@F1091975yahooc1) April 24, 2022
تأتي تصريحات تبون السياسية شبه مسنودة بقرار عسكري، متساوقة مع زيارة أدّاها رئيس أركان الجيش الجزائري، السعيد شنقريحة، السبت الماضي، إلى الناحية العسكرية الرابعة بورقلة، المحاذية للحدود الليبية، دعا خلالها جيش الجزائر إلى اليقظة والاستعداد في كامل المنطقة التي وصفها بالحساسة.
وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، من خلال تلميح الدبيبة من الجزائر بإطلاق عملية عسكرية للسيطرة على الحقول النفطية الليبية التي أوقفها حفتر مؤخرًا، للضغط على حكومة الوحدة وسحب البساط منها.
وهنا يستذكر الجميع كلمة شنقريحة أيضًا خلال المناورات العسكرية الجزائرية الصيف الماضي، بعد أيام قليلة من سيطرة حفتر على معبر إيسين الحدودي، التي كانت بمثابة رسالة حرب لحفتر ورسالة أكبر لداعميه الإقليميين، نظرًا إلى الأهمية التي توليها الجزائر لمنطقة الساحل ودول جنوب الصحراء بأكملها، حيث تهدد قوات المرتزقة الروس أمن المنطقة، وضفاف المتوسط، خاصة أن نوايا السيسي قديمة في المطامع الليبية.
لهذا تأتي زيارة الدبيبة للجزائر بعد زيارة مصر، التي يبدو أنها فشلت في إقناع السيسي بضرورة إعطاء الأولوية لإجراء انتخابات، بينما تدعم القاهرة حاليًّا منح السلطة التنفيذية لحكومة البرلمان التي كلفت بها باشاغا.
رفض للدور المصري
بدا الموقف الجزائري أكثر صلابة ووضوحًا كما بيّنا، مع انجلاء المعارك العسكرية بدأت الدبلوماسية تكشّر عن أنيابها في كشف البون الشاسع للشقيقة الكبرى في المنطقة المغاربية، التي ترفض كل التمدد المصري الإماراتي في الساحة الليبية، الذي إذا تمكّن منها فلن يقف عند حدودها بل سيزداد زحفًا للغرب نحو تونس والجزائر، لتوسيع الهلال المعادي للثورات التي اتّخذت طابعًا عنيفًا ودمويًّا في الشرق، بينما حافظت على حراكها السلمي المدني في تونس والجزائر.
وعلى هذا الأساس اتّسم موقف الرئيس تبون بالوضوح مؤخرًا خلال لقائه برئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، لذلك أشار تبون بوضوح إلى أن “الجزائر اليوم رجعت قوة إقليمية وصوتها مسموع، ولا تعترف في ليبيا إلا بحكومة الدبيبة التي عندها الشرعية الدولية”.
بل أكثر من ذلك، حيث قال إن أي تغيير في المشهد الليبي لا يمكن أن يحدث بعيدًا عن الدور الجزائري، الذي من دونه لا ينجح أي مسعى، في إشارة إلى مساعي فتحي باشاغا لكسب تأييد حكومته المدعومة من الجانب المصري، عبر رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح.
من اقفل الحقول والموانئ النفطية ومنع التصدير هم #حفتر #عقيله #باشاغا واستعملوا بعض ادواتهم من القبلين والتعليمات صادرة من مصر والإمارات , هذه الحقيقه ، والنائب العام هذا الملف لا يهمه ،،
— ⵄⵍⵢ ⵎⵃⵎⴷ?? علي عبود (@AMAboud6) April 18, 2022
وبالتالي، سيُعطي الموقف الجزائري زخمًا جديدًا لأزمة الحكم لصالح الدبيبة، وتقوية الحزام السياسي لرئيس حكومة الوحدة، باكتساب دفع معنوي كبير، وتسجيل هدف ضدّ عرّابي الانقلابات والتدخلات في منطقة المغرب العربي.
هذا الهدف قد يتعزز المرة القادمة أكثر بهدف جديد في تونس، مع حديث شبه مؤكد عن زيارة مطوّلة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة وعدة وزراء، ربما تكون الضربة القاضية على الخصم السياسي، بعد استنفاد محاولات باشاغا الدخول مؤخرًا عبر بوابة تونس الحدودية مع وازن، ثم من ناحية الزنتان إلى طرابس، حتى أنه انكفأ إلى الجنوب الليبي، حيث يعقد اجتماعات حكومته من مدينة سبها.