لا يتخلى المهاجر اللبناني عن عائلته وأصدقائه وبلده عبثًا، فقد يحوّل البؤس والاضطهاد، الحياة إلى جحيم لا يُطاق، وحين تطبق على أنفاسه سلطة فاسدة وتسكت الثورة وينتشر السلاح، يبقى الفرار الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة.
إنها قصة شعب طالما شعر بالتهديد في وطنه الذي يتميز بموقع جغرافي فريد، لكنه في الوقت ذاته معرض للتهديدات سواء كانت داخلية أم خارجية، وبين حروب ووضع اقتصادي ومالي منهار حصلت الهجرة وتشتت أجيال في جميع أصقاع الأرض، وقد يكون لبنان بلا منازع أكبر دولة في العالم لديها عدد مهاجرين بالقياس إلى عدد سكانها، إذا وضع في الاعتبار الملايين من ذوي الأصول اللبنانية الذين ما عادوا يحملون الجنسية.
يعود لبنان اليوم ليشهد موجة هجرة جديدة، تأتي كواحدة من تداعيات الأزمة الاقتصادية الأسوأ في تاريخه والأعقد عالميًا، وفق ما يؤكد البنك الدولي في تقاريره.. فكيف اختلفت الهجرة بين اليوم والأمس؟ وما المخاوف التي تلوح في الأفق؟
تاريخ الهجرة اللبنانية ووجهات اللبنانيين
الهجرة عمرها من عمر تاريخ لبنان، إلا أن أولى الهجرات في العصر الحديث بدأت من جبل لبنان عقب الفتنة الشهيرة بين المسلمين والمسيحيين في الشام عام 1860 (كانت بالأساس بين الموارنة والدروز)، توجه فيها اللبنانيون إلى القارة الأمريكية، حيث استقطبتهم البرازيل والأرجنتين على وجه الخصوص، واعتمدوا على التجارة كمصدر رزق، عكس مهنتهم الأساسية في لبنان التي كانت ترتكز أساسًا على الزراعة.
الموجة الثانية من الهجرة كانت في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914/1918)، فتوجهوا أيضًا نحو ما كان يعرف بالأمريكتين، وكانت الأسباب حينها سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية.
وبعد استقلال لبنان عام 1946 أصبحنا أمام نوع جديد من الهجرة، خصوصًا في فترة ما بين الخمسينيات والسبعينيات، حين توافد عدد كبير من أهل الجنوب اللبناني إلى إفريقيا، وبذلك استطاع أبناء الجنوب (أبناء جبل عامل) تحسين أوضاعهم وأوضاع مناطقهم بعد أن كان يسودها الفقر والحرمان.
الموجة الثالثة هي الحرب الأهلية اللبنانية الممتدة من عام 1975 إلى عام 1990، التي دفعت بشباب لبنان إلى التوجه هذه المرة إلى مناطق الخليج العربي (السعودية، الإمارات، الكويت، قطر)، وبدأت باستقطاب اللبنانيين منذ الخمسينيات ومن كل الطوائف، بسبب تدفق النفط، ما سمي بـ”الهجرة العاملة”، إلا أن فترة الحرب اللبنانية أيضًا شهدت هجرة إلى أوروبا وسوريا ومصر وأمريكا وكندا والبرازيل.
وعن أعداد المهاجرين، ففي منتصف الحرب الأهلية، كان عدد المهاجرين يبلغ 3 ملايين ونصف المليون، فيما وصل العدد بعد الحرب إلى ما يزيد على 6 ملايين، وعليه فإن 37% من الهجرة اللبنانية حصلت بعد عام 1990.
أما اليوم يقدر العدد الإجمالي للمهاجرين اللبنانيين بـ12 مليون مهاجر، وتؤكد الأرقام أن عدد المغتربين ارتفع بشكل كبير منذ أوائل 2019، واليوم نحن أمام موجة هجرة جديدة قد تطال مئات آلاف المهاجرين الجدد، وتضاف إلى سجل موجات هجرة اللبناني التي توالت عبر التاريخ.
أسباب الهجرة بين اليوم والأمس
سابقًا كانت الحروب تقف خلف الهجرة ويمكن اختصار الأسباب بالعوامل الاقتصادية والأمنية والدينية، ولبنان في أحسن حالاته هو البلد الذي تقل إمكاناته كثيرًا مقارنة بقدرات وطموحات شعبه، خاصة أن خريجي الجامعات كثر والنظام التعليمي جيد.
وفي ظل عدم وجود أراض زراعية شاسعة وتراجع الصناعة بسبب المنافسة الخارجية، لا يجد اللبناني نفسه إلا كمهاجر، ومن بين الأسباب أيضًا استحالة تأمين عيش كريم لعدم توافر فرص عمل أو عدم وجود خدمات عامة كالصحة والأمن أو تعطلها التام أو الرغبة في الالتحاق بأفراد من العائلة استقروا في الخارج.
ناهيك بما تُمليه ضرورة الهروب من العنف الذي ينجم عن النزاعات المسلحة والتفجيرات التي تكررت في السنوات السابقة، وقد تكون أسباب الهروب أقل حدة مثل تفشي الجريمة أو القمع العنيف وغير المتناسب للتحركات الشعبية أو اضطهاد بعض المجموعات لأسباب سياسية، وكلها أسباب تدفع الناس إلى السعي لبناء حياتهم في مكان آخر.
على ما يبدو نحن اليوم أيضًا أمام موجة هجرة حادة تختلف عن الموجات السابقة في الظروف وتضيف إلى تلك الأسباب السابقة مبررات أخرى، فيبدأ عهد الهجرة الحديثة تحديدًا بعد تراجع قيمة العملة الوطنية سنة 2019 وانفجار المرفأ 2020، فبتنا نسمع يوميًا أن شباب لبنان يتجهون بأعداد كبيرة إلى خيار الهجرة، فالأرقام تشير إلى أن عدد الطلبات في السفارات تفوق الـ380 ألف طلب قابلة للزيادة.
الهجرة اليوم ليست كسابقاتها، فنتيجة وباء كورونا في لبنان والعالم، أصبحت مجالات العمل غير متاحة كما كانت قبل الوباء، فالمهاجرون الجدد يتجهون إلى أقاربهم وأصدقائهم في بلاد الاغتراب، بحثًا فقط عن الأمان الاجتماعي والاستقرار والأمن المتوافر في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
كلها أسباب تدفع اللبناني إلى المغادرة، لكن الهجرة اليوم صعبة جدًا، فاليوم باتت الهجرة ظاهرة عالمية انتشرت في القارة الإفريقية والشرق الأوسط، ما دفع السفارات لأن تغلق أبوابها وتعقد إجراءات تأشيراتها في وجه اللبناني، فلم يعد اللبناني اليوم من أولوية الدول التي راحت تستقبل فقط المتضررين من الحروب والفارين من القتل.
لذلك يسلك اللبناني اليوم طريق الهجرة غير الشرعية التي أضحت من أبرز عناوين هجرته الحديثة ولسان حاله يقول الموت أو الهجرة! فركب قوارب الهلاك وخاطر بحياته من أجل مستقبل جديد، هربًا من اليأس.
المخاوف التي تحتمها الهجرة
تستنزف الهجرة في المقام الأول العقول التي تطمح إلى وضع اقتصادي ومعيشي أفضل، واليوم بات النقص الحاد في الكادر الطبي والصحي واضحًا، خاصة أن الأطباء في الفترة الأخيرة تدنت مرتباتهم ناهيك بالنقص الحاد في الأدوية والمستحضرات الطبية.
كما ظهرت حاجة المدارس إلى معلمين بعد أن هاجر الكثير منهم، وما زال الباقي يبحث عن فرصة في بلد بلا ماء أو كهرباء أو حتى دواء.
منذ عقود لم يشهد لبنان هذا الكم من طلبات الهجرة والسفر، وبات اليوم يدق لبنان ناقوس الخطر مع تضاؤل الفئة المتعلمة وتراجع الكفاءات في البلاد بشكل عام.
ومن أبرز مخاوف الهجرة اليوم التغيير الديمغرافي وهو جوهر المشكلة البالغة في تعقيداتها، لأن بناء نظام لبنان الذي تم عام 1920 على أساس التركيب الديموغرافي حسب الطوائف والمذاهب المكونة لشعبه، لكنه آنذاك تغاضى عن توقع أوضاعه الديموغرافية مستقبلًا، لاسيما حسب معطى المذاهب نفسها.
فشكلت أوزان وأحجام هذه المذاهب أساسًا لبنية تركيب النظام السياسي، وبالتالي لتوزيع مختلف السلطات السياسية والوظائف الإدارية والحكومية (رئيس الجمهورية ماروني، رئيس الوزراء سني، رئيس البرلمان شيعي).
ومن البديهي أن يؤدي أي خلل في التركيب الديموغرافي إلى تصدع التوازن السياسي، فكيف يمكن المحافظة على النظام عندما تكون الأسس المكوّنة له غير ثابتة ومتبدلة ومتغيرة على الدوام؟ لا سيما أن أغلب المهاجرين لم يحتفظوا بهويتهم الوطنية، ما يطرح مشكلة أخرى تفاقم من حدة الصراع السياسي.
سابقًا كان معروف أن الهجرة المسيحية هي الشائعة في لبنان دومًا، ما يمثل خطرًا على الطائفة المسيحية، وهو أمر يردده دومًا رئيس التيار الوطني الحر وأبرز المرشحين للرئاسة جبران باسيل.
تسببت الأزمات المحيطة بلبنان في زيادة عدد المقيمين من غير اللبنانيين بدءًا من نكبة فلسطين وصولًا إلى الأزمة السورية
أما اليوم الهجرة باتت إسلامية سنية تنطلق من طرابلس (المدينة الأكثر حرمانًا في لبنان)، فطرابلس ثاني أكبر مدينة لبنانية مهملة إلى حد بعيد، تنتشر فيها عمالة الأطفال والبطالة، ناهيك بالسلاح والاشتباكات المتكررة بين منطقة درب التبانة السنية وجبل محسن العلوية، رغم أن أغلب أغنياء لبنان من الشمال حتى رئيس الوزراء الحاليّ نجيب ميقاتي من طرابلس، لكن لا أحد يوليها اهتمامًا.
لذلك نرى أن الشعب الطرابلسي هو اليوم الأكثر مخاطرة بالهجرة وركوب الأمواج مثل الحادثة الأخيرة التي راح ضحيتها العشرات، كما نلاحظ انتشارًا واسعًا لهم في تركيا بالوقت الحاليّ، لذا ليس غريبًا اليوم أن نشهد تراجعًا في حجم تلك الطائفة في لبنان.
وفقًا لأرقام عام 1995 فإن المسيحيين يمثلون 44% من السكان المقيمين، بينما المسلمون كانوا يمثلون 56% من اللبنانيين المقيمين مع حسبان الفلسطينيين خارج المخيمات، أما اليوم، ومع الهجرة اللبنانية الإسلامية الكثيفة والتقارب في نسب الولادة بين الطوائف، فمن المرجح أن تكون نسب السكان اللبنانيين بين مسيحيين ومسلمين قد تقاربت أكثر.
لكن بصرف النظر عن التركيبة الطائفية للهجرة، فإن الهجرة إضافة إلى قلة الزيادة السكانية تسببت في تراجع عدد سكان البلاد في كثير من الأوقات، فقد تراجع عدد السكان اللبنانيين من 3.616.525 عام 2007 إلى 3.433.286 مقيمًا عام 2012، أي بتناقص 186.239 نسمة، وإذا أضيف إلى هذا الرقم الأخير حاصل رصيد الولادات والوفيات خلال الفترة نفسها (2008 – 2012)، البالغ 310.786 شخصًا لتدنّى عدد السكان بحدود 497.007 نسمة.
في المقابل تسببت الأزمات المحيطة بلبنان في زيادة عدد المقيمين من غير اللبنانيين بدءًا من نكبة فلسطين وصولًا إلى الأزمة السورية، الأمر الذي يخشى معه كثير من اللبنانيين من أنه بعد النزاع القديم المتجدد على التركيبة الديموغرافية بين المسلمين والمسيحيين، فإن الخوف الحقيقي هو من الوجود غير اللبناني خاصة في ضوء حرمان “إسرائيل” وبشار الأسد على السواء من عودة اللاجئين الفلسطينيين والسوريين إلى ديارهم.