يتزاحم العشرات من الغزيين داخل محلات الصرافة التي يتجاوز عددها الـ 300 في قطاع غزة المحاصر منذ اليوم الأول لشهر رمضان، للحصول على الحوالات المالية التي وصلتهم من ذويهم أو معارفهم المقيمين في الخارج، خاصة دول الخليج وأوروبا.
وتواصل محلات الصرافة عملها ليل نهار لصرف تلك الحوالات المالية التي يحملها فقراء غزة أو حتى الموظفين منهم، عبر رسالة وصلتهم غالبًا عبر الواتساب لتنعش جيوبهم وتساعدهم في جلب احتياجاتهم الأساسية في رمضان وعيد الفطر، في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والرواتب المجتزئة.
وتشكّل الحوالات المالية طوق نجاة ليس للعاطلين عن العمل فحسب، بل لموظفي سلطة رام الله أو حكومة حماس، حيث جُلّهم يتقاضون رواتب مجتزئة لا تكفي المصاريف الرمضانية وحتى كسوة العيد، وما يصاحبها من طقوس كالعيدية والعزائم.
ومنذ حوالي 15 عامًا يشهد قطاع غزة الذي يعيش فيه أكثر من مليوني نسمة وضعًا إنسانيًّا وُصف بالكارثي وفق مؤسسات حقوقية، وذلك لارتفاع مستويات الفقر والبطالة مقارنة بالسنوات التي سبقت الحصار، حيث بلغت نسبة الفقر فيه 70%، بينما البطالة حوالي 50%، وذلك وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2021.
حاجة الغزيين للمال في رمضان
داخل محل “البرعصي للصرافة” في حي الرمال، انفرجت أسارير تيسير الحاج (65 عامًا) بعدما حصل على مبلغ 2000 دولار وصله من ابنه المقيم في كندا منذ سنوات، حيث خرج مسرعًا إلى أقرب مول تجاري لجلب احتياجات بيته الأساسية من لحوم وخضار، وكل ما يلزمه لإعداد وليمة من أجل دعوة بناته المتزوجات لطعام الإفطار كما جرت العادة.
يقول تيسير لـ”نون بوست”: “ما يرسله ابني يخفف عني المصاريف اليومية، خاصة أن لا مصدر دخل لي بعدما كنت أعمل في الداخل المحتل (..) حيث يرسل بشكل شهري حوالي 200 دولار لكن في رمضان يضاعف المبلغ لأعطي منه شقيقاته”.
ويذكر الحاج أن الحياة المعيشية في قطاع غزة صعبة في ظل ارتفاع أسعار السلع بكل أنواعها في شهر رمضان، فلم يعد يمكنه توفير أدنى احتياجاته الأساسية من المصروف الذي يحصل عليه من أبنائه، فينتظر المبلغ المالي الذي يصله من ابنه في الخارج الذي يشكّل طوق نجاة بالنسبة إليه، معتبرًا أن تفاصيل الحياة متعبة وبحاجة إلى نقود عند كل خطوة يخطيها.
المصاريف الرمضانية بالنسبة إلى الغزيين كثيرة، فلم تقتصر على توفير طعام الإفطار والسحور وحسب، بل هناك طقوس ترهق جيوبهم كشراء الهدايا عند زيارة الأرحام، وتجديد الأواني المنزلية التي باتت تتبعها بعض السيدات الغزيات كموضة، عدا عن العزائم الرمضانية، وكل ذلك يحرج رب الأسرة غير المقتدر.
وإلى محل صرافة آخر وسط حي الرمال بمدينة غزة، أخيرًا وصلت لمياء عوض، وحاولت بكل السبل اقتحام صفوف الزبائن لتحصل على حوالتها التي وصلتها للتو من شقيقها المقيم في السعودية بقيمة 1000 دولار كعيدية من إخوانها، حيث تعلّق: “دومًا يرسلون لي زكاة فطرهم بحجّة أنها عيدية كي لا يجرحوني”.
الحوالات المالية تعتبر منفس الغزيين في أوقات المواسم كرمضان والأعياد، لا سيما في ظل ارتفاع الأسعار للسلع كافة
وتضيف: “وضع زوجي المادي سيّئ بعدما فقدَ مصدر رزقه في منجرته التي دُمِّرت في الحرب الأخيرة على غزة العام الماضي، فبعدما كان رب العمل بات أجيرًا يتقاضى 30 شيكلًا (حوالي 6 دولارات) يوميًّا، وبالكاد يمكنه توفير طعام أبنائنا الأربعة”.
وبمجرد أن ظفرت بالمبلغ، هرعت برفقة صغارها إلى محلات الملابس لشراء ما يلزمهم، وتعلّق: “أريد إدخال الفرحة على قلوب الصغار، لا ذنب لهم بوضعنا المادي السيّئ (..) وسأعطي زوجي بعض المال ليقدّمه عيدية لشقيقاته”.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنه بفعل الحروب وخسارة أرباب العمل لمصدر رزقهم بفعل القصف الذي دمّرَ ورشاتهم، زادت حاجة الغزيين للمال وكثرت الحوالات المالية التي تغيثهم وتسدّ رمقهم.
ولا تقتصر الحوالات المالية على إغاثة الأقارب فحسب، وهذا ما تذكره مها شعبان (44 عامًا)، حيث يصلها في شهر رمضان من والدها وأشقائها حوالي 10 آلاف دولار على فترات متقاربة، من أجل منحها للمحتاجين الذين باتوا يطرقون بابها كل عام.
وذكرت أن وضع عائلتها المقيمة في السعودية ممتاز، لذا يفضّلون إرسال زكاة مالهم للمحتاجين من الغزيين، من باب “القريب أولى من الغريب”، وتعلق: “أحاول تقديم المساعدة لطلبة الجامعات أو المرضى”.
كما تضطر لسحب المبلغ وتوزيعه على المحتاجين، رغم خسارتها بعض الشواكل بفعل محلات الصرافة التي ترفض منحها المبلغ بالدولار، موضّحة أن المبلغ يُصرَف بالشيكل بدلًا من الدولار كما يريد صاحب المحل، وفي حال اعترضت يرفض صرفها أو يوقفها.
مليون دولار لكل محل صرافة
بدوره يقول جهاد بسيسو، عضو نقابة الصرافين ومالك مكتب للصرافة، إن ملايين الدولارات تصل محلات الصرافة في شهر رمضان، حيث إن المكتب الواحد يصله ما لا يقلّ عن مليون دولار أمريكي، مشيرًا إلى أن الدعم المالي الذي يأتي من فلسطينيي الخارج ويُضخّ في قطاع غزة يؤثّر بشكل إيجابي على الحركة الشرائية في السوق.
وذكر بسيسو لـ”نون بوست” أن حجم الأموال التي تصل محل الصرافة في رمضان لا يقارن ببقية الشهور، التي تكون الحركة فيها عادة نهاية الشهر، مبيّنًا أن الصرافين يواصلون عملهم ليل نهار في الشهر الكريم، خاصة أن الدعم لا يكون فقط من الأقارب، بل هناك تبرعات تصل إلى الناس الفقيرة عبر جمعيات إغاثية تحوّل آلاف الدولارات لدعم الغزيين.
وبحسب ملاحظته، فإن هناك معيقات تواجه محلات الصرافة، ومنها السيولة حيث عملة الدولار الشحيحة، فيضطر الصراف منح الزبون حوالته بالشيكل الإسرائيلي، ما يثير امتعاض البعض، مشيرًا إلى أن 99% من الحوالات بالدولار، ما يسبّب عجزًا في توفره.
ويرى أنه من الضروري أن تضغط سلطة النقد على البنوك لتوفير السيولة بالدولار، وذلك من أجل العمل بأريحية دون مشاكل مع الزبائن.
ويلفت بسيسو إلى أن أكثر البلاد التي تُحوَّل منها مبالغ مالية لقطاع غزة المحاصر، هي بالدرجة الأولى دول الخليج العربي ومن ثم أوروبا، موضّحًا أن كل دولة تسمح بمبلغ معيّن لتحويله، وذلك فقط ما يحدده قانون البنك المركزي التابع لها.
وأشار إلى أن مكاتب الصرافة ترسل بشكل أسبوعي تقارير إلى سلطة النقد بحجم الحوالات التي وصلتها، خاصة أن البرنامج الذي يعملون وفقه لسحب الحوالات مرتبط مع سلطة النقد، مبيّنًا أنه في حال لم يعرف الزبون من هو مرسل الحوالة أو الدولة التي جاءت منها، لا تُصرف له أو تلغى.
وذكر بسيسو أنه في حال وصل مبلغ تجاوز الـ 7000 دولار لشخص واحد، دون توضيح الأسباب أو ماهية صلته بالمرسل، تُلغى أيضًا، خاصة لو كان يشوبها شبهات فساد.
منفس من الضائقة الاقتصادية
وفيما يتعلق بأهمية الحوالات المالية، يقول أحمد أبو قمر، الخبير الاقتصادي: “بشكل عام، أهميتها لا تقتصر على قطاع غزة، بل هي مهمة لأي اقتصاد حول العالم كونه يزيد من العملة الصعبة داخل البلد، ويمثّل رافعة قوية”.
وذكر أبو قمر أن اقتصاد قطاع غزة محاصر منذ عقد ونصف، وتمثِّل الحوالات المالية رافعة اقتصادية له، موضّحًا أن ما يرسله الغزيون الذين يعيشون خارج البلاد من أموال، سواء في شهر رمضان أو في الأيام العادية، يخفّف من وتيرة الأوضاع المعيشية الصعبة للغزيين.
ويصف لـ”نون بوست” أن الحوالات المالية تُعتبر منفس الغزيين في أوقات المواسم كرمضان والأعياد، لا سيما في ظلّ ارتفاع الأسعار للسلع كافة.
وتطرّق إلى نقطة هامة، فوفق قوله قطاع غزة محارب ماليًّا، وهناك تضييق على الحوالات من قبل الجانب الإسرائيلي، ما يهدد محلات الصرافة، موضحًا أن التضييقات تسبّب تعمُّق الأزمات المالية، ما يضطر الصرافين ومن تصل الحوالات إليهم أيضًا بالالتفاف المالي الذي يكلّفهم عمولات إضافية عند تحويل الأموال بطريقة أو بأخرى، بعيدًا عن التحقيقات.
وأوضح أن لجوء الصرافين إلى منح الزبائن حوالاتهم بالشيكل بدلًا من العملة التي وصلتهم عبر الحوالة المالية، يمثل مشكلة كبيرة تسبّب خسائر تتكبّدها الأسر، داعيًا إلى ضرورة تنظيم الحوالات وفرض رقابة أكثر عليها من سلطة النقد، والصرف بالعملة المحولة، وفي حال لم تتوفر لا بدَّ من إعطائها للمواطن بسعرها في السوق، وليس كما يريد الصراف ليحقق أرباح إضافيه لمكتبه دون وجه حق.
ورغم أن شهر رمضان يشارف على الانتهاء، إلا أن محلات الصرافة لا تزال تعمل حتى منتصف الليل، ويخرج منها المواطنون بعد انتظار طويل وهم يحملون الدولار للدخول في دوامة “كسوة العيد”، بعدما كانت جيوبهم فارغة تنتظر أي مبلغ يفرح صغارهم ويدخل البهجة لقلوبهم بدلًا من العام الماضي، حين وضعت الحرب أوزارها وأُلغي العيد.