لم يكشف تقرير صحيفة “ذي غارديان” البريطانية حول مجزرة حي التضامن جديدًا بالنسبة للسوريين، حيث لا يكاد يوجد سوري إلا وقد شهد مواقف الموت أو كان شاهدًا على موت أو تعذيب أحدهم، ولكن فيديو المجزرة أتى ليجدد جذوة النار في قلوب السوريين ضد نظام الأسد وشبيحته، كما أنه أتى للتأكيد على أنه لا صلح مع هؤلاء.
حصلت مجزرة التضامن التي قُتل فيها 41 شخصًا على يد ضباط وعناصر من جيش الأسد، في وقت كان يقبع فيه الحي تحت حصار جائر من النظام، إضافة إلى قصف هذا الحي والأحياء الجنوبية لدمشق بشتى أنواع الأسلحة، وطالما خاض خلال السنوات الماضية صراعًا مريرًا مع قوات الأسد، كما أنه كان مسرحًا لكافة التطورات التي خاضتها الحالة السورية طوال أيام الثورة والحرب.
يجمع حي التضامن في طياته سوريا المصغّرة، إذ إن سكان هذا الحي جاؤوا من كل المدن السورية، وكما بدأت الثورة في سوريا كان لزامًا على الحي الالتحاق بها، ليعيش الحي المظاهرات السلمية والفعاليات الثورية، وبعد ذلك بدأت العسكرة ليضرب النظام حصارًا على الحي، وتبدأ المعارك بين الجيش الحر وقوات الأسد، لتنتهي الأمور بتهجير أهالي الحي وسيطرة الأسد على ركام الحي، وتغيير وجهه بالكامل بحسب رغبة الأسد.
جغرافية الحي
يقع حي التضامن على أطراف دمشق الجنوبية، ويضمّ بين بيوتاته المواطنين الذي نزحوا من مرتفعات الجولان عام 1967 إبّان نكسة حزيران، والتي حصلت نتيجة خسارة العرب مع “إسرائيل”، ومنذ ذلك التاريخ يتوافد الناس إلى هذه المنطقة التي كانت عبارة عن أراض زراعية تقع بين حي الميدان ومنطقة السيدة زينب.
وإذا أردنا تحديد المنطقة جغرافيًّا فإن الحي ملاصق لمخيم اليرموك من الغرب وبلدة ببيلا ويلدا من الشرق والجنوب، وفي شماله يكون حيا الزاهرة ودف الشوك.
بدأ القادمون إلى هذه المنطقة ببناء البيوت بطريقة عشوائية، ومع مضيّ الأيام اعترفت الحكومة بالحي كجزء من حي الميدان وبلدة يلدا، وأُطلق عليه اسم حي التضامن، وظلَّت هذه البقعة تستقبل السوريين الراغبين في السكن على أطراف العاصمة حتى وقت قريب، ولعلّ آخر هجرة داخلية كانت عام 2003، حيث وفد إلى محيط العاصمة السوريون الفارّون من المناطق الزراعية التي ضربتها موجة الجفاف.
وفقًا للتقرير الذي أصدرته صحيفة “ذي غارديان“، فإن الهجرات المتعاقبة إلى هذا الحي “أسّست ديناميات عائلية سهّلت استقرار القادمين الجدد، وأثّرت بشكل كبير على تشكيل التركيبة الاجتماعية والديمغرافية للحي، الذي أصبح منطقة عشوائية كبيرة ذات أعلى نسبة كثافة سكانية في دمشق”، وقد ضمّ الحي بالإضافة إلى الغالبية السنّية بعضًا من الطوائف الأخرى، كالعلويين الذين سيكون لهم دور بارز في قمع الاحتجاجات التي ستصل إلى الحي عام 2011.
ويقطن العلويون في شارع يُسمّى “شارع نسرين”، وهو امتداد لحي التضامن، وفي أيام الثورة السورية تحوّل هذا الشارع إلى ثكنة عسكرية، وساهم الكثير من أهله بعمليات التشبيح والقتل بحق أحياء جنوب دمشق الثائرة وأولها حي التضامن.
وإضافة إلى العلويين يوجد بعض الدروز، ومن القوميات يوجد تركمان وآخرون أكراد، وهؤلاء قدموا من السويداء وإدلب ودرعا وغيرها من المناطق، وفي عام 2011 كان يقطن في هذا الحي أكثر من 200 ألف مواطن سوري من مختلف الانتماءات والمناطق.
ثورة التضامن
كان سكان الحي المنحدرون من المحافظات الثائرة مرتبطين بشكل مباشر مع أقاربهم وعوائلهم الذين يوصلون إليهم أخبار انطلاقة الانتفاضة الشعبية، ليشكّل هؤلاء شرارة الانتفاضة في الحي، وبالطبع إن وصول الثورة إلى هذا الحي أمر خطير بالنسبة إلى النظام، إذ إنه البوابة الجنوبية للعاصمة التي تحمي من المدّ القادم من جنوب سوريا بشكل عام.
وبالفعل، تفاعل سكان حي التضامن مع الثورة مبكرًا، حيث خرجت المظاهرات المطالبة بالحرية والعدالة ومن ثم تطورت الشعارات للمطالبة بإسقاط الأسد، وهو ما قابله النظام بالعنف وإطلاق النار المباشر كما في كل سوريا، ليسقط عشرات الشهداء في هذا الحي علي يد شبيحة الأحياء المجاورة الذين سرعان ما بدأوا بالتعاون مع جيش النظام وقوات أفرعه الأمنية.
وبالعودة قليلًا إلى الوراء، عمل النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد على زرع كنتونات طائفية ضمن المحافظات، ليعتمد عليها في حال نشوب أية مشاكل تقلق أمن النظام، وبهذه الحالة يعتمد على الموالين وأبناء طائفته، وهو ما استفاد منه أيام الثورة السورية منذ انطلاقتها.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن أكثر المناطق التي شهدت عنفًا ومجازر شنيعة كانت تتمّ في الأماكن التي تتواجد بها هذه الكنتونات، وما مجزرة التضامن التي كُشف عنها حديثًا إلا حلقة ضمن مسلسل الشحن الطائفي الذي بدأه النظام.
في “نون بوست“، تحدثنا في أكثر من تقرير عن “عمارة الاستبداد” التي خلّفها نظام الأسد لتشويه صورة المدن عبر خلق كنتونات طائفية، وهنا يبرز “شارع نسرين” الواقع في حي التضامن، والذي كان أداة حادة بيد الأسد ليواجه بها أهالي الأحياء الجنوبية بشكل عام، وثوار التضامن بشكل خاص، حيث بات هذا الشارع خزانًا مليئًا بالشبيحة واللجان المسلحة غير المنظمة، والتي تساهم في قمع المظاهرات وقتل الناس.
كان غالبية “شبيحة حي نسرين” من الطائفة العلوية وينحدرون من قرى الساحل وحمص، ومع الأيام تمَّ تنظيمهم ضمن ميليشيا “الدفاع الوطني” لتسهيل إدارتهم، كما تمَّ تحويل الشارع إلى ثكنة عسكرية يتواجد فيها مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وقد شارك الشبيحة بمختلف أعمال الانتهاكات، بدءًا من قمع المظاهرات إلى اعتقال الناس وتعذيبهم والمشاركة في قتلهم إلى قصف الأحياء وتدمير البيوت على ساكنيها.
مع دخول الثورة السورية حالة العسكرة لحماية المدن من بطش النظام السوري، وصلت الحالة إلى الأحياء الجنوبية، وقد كان أولها حي التضامن، إذ إن القمع المتزايد دفع الكثير من شباب الحي إلى التسلح والانضمام لصفوف الجيش الحر، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 تمّت سيطرة الجيش الحر على حي التضامن وتحريره من حواجز النظام، وهنا بدأت مرحلة جديدة من الصراع في هذه البقعة.
دمار وتهجير
بدأ النظام حصارًا على الحي بالإضافة إلى الأحياء المجاورة التي انتفضت في وجهه، ولم يبقَ في الحي إلا قليل من العوائل نظرًا إلى صعوبة الأوضاع فيه، حيث نزحت العائلات إما إلى مناطق مجاورة وإما إلى خارج سوريا حال كل السوريين، وقد عانى من بقيَ في الحي من ويلات الحصار الشديد، ما أدّى إلى موت العديد من الأشخاص نتيجة نقص المستلزمات الإنسانية.
لم يسلم الحي أيضًا من تخريب “داعش”، إذ استولى التنظيم عام 2015 على القسم الجنوبي من حي التضامن، بعدما سيطرت عليه فصائل المعارضة عام 2012، وهو ما أثّر على وضع الحي بالإضافة إلى مناطق جنوب دمشق بشكل عام، وتمكّنت قوّات النظام من طرد التنظيم في مايو/ أيار 2018 بعد معارك وغارات عنيفة، أودت بحياة عشرات المدنيين.
ظلت المعارك مستمرة بين الأطراف حتى مايو/ أيار 2018، حيث سيطر النظام السوري على المنطقة الجنوبية لدمشق بشكل كامل، بعد أن أجلى آخر عنصر من “داعش” بعد اتفاق جرى بينهما، وكذا كان الجيش الحر وقوات المعارضة السورية قد خرجا إلى إدلب، وباتت المنطقة ومن ضمنها حي التضامن تحت سيطرة النظام لأول مرة منذ سنوات.
ورغم الدمار الشديد الذي لحق بالمنطقة والحي، إلا أن الجنود والشبيحة لم يوفروا جهدًا لسرقة وتعفيش البيوت والأدوات من الحي، وهو ما يفسر وضع الحي الحالي، إذ لا يزال حتى يومنا هذا خاليًا من المنازل الصالحة للسكن والخدمات الأساسية.
وفي ظل هذه الأوضاع، يفقد أهل الحي الأمل في الرجوع إلى بيوتهم، إذ إن 10% فقط من المساكن قابلة للسكن، وبحسب المصادر يضمّ حي التضامن في الأساس نحو 25 ألف منزل، ولا يزال الدخول إلى الحي بالنسبة إلى الأهالي مقيّدًا من قبل النظام.
وبحسب مزاعم النظام السوري، أكدت اللجنة التي شكّلتها محافظة دمشق لدراسة واقع حي التضامن، على “أن أهالي البيوت الصالحة للسكن وبعد إثبات ملكيتهم وتقديم وثائق تثبت ذلك واستلامهم لها، يمكنهم العودة إليها ريثما يتم تنظيم كامل منطقة التضامن وفق القانون رقم 10، والذي قد يستغرق بين 4 إلى 5 سنوات، وأن جميع الإجراءات التي تقوم بها المحافظة هي لحماية ملكية تلك البيوت وتسليمها للأشخاص الذين كانوا يقيمون فيها قبل الأزمة، وعدم حصول أي إشكالات في هذا الأمر، من قبيل ادّعاء شخص ما امتلاكه بيتاً في المنطقة وهو لا يمتلكه”، ولكن هذا الكلام كان عام 2018، وإلى الآن لم يحصل أي جديد بالنسبة إلى السكان.
بالمحصلة، إن النظام الذي افتعل المجازر بحق السوريين في حي التضامن وفي غيره من الأماكن، لا يهمّه إن عاد السكان أم لم يعودوا، ولعلّ الصور والمشاهد التي وردت عن المجزرة التي تمّت منذ سنوات بعيدة في هذا الحي الثائر، تعيد تذكيرنا نحن السوريين بأنه لا مكان للصلح مع هذه الميليشيات أو النظام، وأن اسم حي التضامن الذي أراد النظام طمسه عبر المجازر والدمار، يعود اليوم ليكون شبحًا يطارد المسؤولين عن هدر دماء السوريين دون حساب أو مساءلة.