ترجمة وتحرير: نون بوست
كيف وصلنا إلى هنا؟
على مدار عامي 2020 و2021، كشفت التحقيقات الرائدة بتفصيل صارخ عن استخدام السلطات الإسرائيلية المكثف لتقنيات المراقبة والتنبؤ للسيطرة على تحركات الفلسطينيين. وإخضاع الفلسطينيين لمثل هذا التدقيق من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية يتسبب في تضييق مساحاتهم التعبيرية ويغرقهم في حالة من القلق المستمر.
تخدم هذه الممارسة أيضًا غرضًا تجاريًا: باتت فلسطين المحتلة بشكل فعال مختبرًا في الهواء الطلق لـ “إسرائيل” لاختبار تقنيات التجسس والمراقبة قبل بيعها للأنظمة القمعية في جميع أنحاء العالم. تحمل هذه التجارة آثارًا مقلقة لا سيما أن المزيد من الحكومات قد استفادت من أدوات المراقبة الرقمية ضد المعارضين السياسيين والنشطاء والصحفيين والعاملين في المجتمع المدني وغيرهم ممن يُعتبرون “تهديدًا”. وفي حالة الفلسطينيين، تقوم جهات فاعلة مختلفة بالتحقيق بعمق في حياتهم الخاصة من خلال تقنيات المراقبة المستمرة.
يخضع الفلسطينيون لمستويات متعددة من المراقبة تهدف كلها إلى مراقبة الأصوات الفلسطينية وتقييد حرية التعبير والحد من استقلاليتهم. تشبه المراقبة في فلسطين إلى حد ما سجن البانوبتيكون، وهي آلية للسيطرة الاجتماعية والنفسية اقترحها الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام في القرن الثامن عشر. في وسط سجن البانوبتيكون، يقف حارس في برج مراقبة تحيط به زنزانات السجناء لتكون كلها في مرمى نظره مما يبقى السجناء الذين لا يعرفون ما إذا كانوا مراقبين أم لا في أي وقت ملتزمين بالسلوك المناسب دائمًا.
في تحليله للبانوبتيكون، جادل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بأن الغرض من هذا المبنى هو “الحفاظ على النظام بحيث يكون تأثير المراقبة دائمًا حتى لو كانت متقطعة”. يدعم المنطق ذاته المرتبط بجنون العظمة المراقبة الإسرائيلية: إذ أن الهدف ليس فقط مشاهدة الفلسطينيين من خلال الكاميرات الموضوعة بشكل استراتيجي، وإنما أيضًا – وبطريقة أكثر خبثًا – جعلهم يشعرون بأنهم مراقبون بغض النظر عن مكان تواجودهم.. إن المراقبة الرقمية الإسرائيلية هي أحدث تكرار لتكتيك جيش الدفاع الإسرائيلي “لإظهار الحضور“، الذي يروج للدوريات الإسرائيلية في المجتمعات الفلسطينية لغرض وحيد وهو إبراز مساحة انتشار الجيش.
تمثّل المراقبة جوهر استراتيجية الاحتلال، هو ما يجعل إدارة الشعب المستعمَر “سهلة ومربحة – على حد تعبير إدوارد سعيد في كتابه بعنوان “الاستشراق”: “معرفة الأجناس أو ‘الشرقيين’ – وتمنح المعرفة القوة وتتطلب المزيد من القوة اكتساب المزيد من المعرفة، وما إلى ذلك في ثنائية مربحة بشكل متزايد من المعلومات والسيطرة”
يخضع الفلسطينيون للمراقبة الرقمية من قبل السلطات الإسرائيلية بشكل يومي سواء عند نقاط التفتيش أو أثناء الاحتجاجات والتجمعات الاجتماعية أو على وسائل التواصل الاجتماعي. علاوة على ذلك، يتعرض الفلسطينيون لما وصفته شوشانا زوبوف بـ “رأسمالية المراقبة“، حيث تقوم شركات التواصل الاجتماعي بجمع بيانات المستخدم من أجل الربح من خلال الوسائل المستعملة لجمع البيانات وتحليلها. وفي غياب التشريعات التي تحمي حقهم في الخصوصية، يكون الفلسطينيون بشكل خاص عرضة لمثل هذا التدخل المؤسسي في حياتهم. وأخيرا، يتعرض الفلسطينيون بانتظام لانتهاكات لخصوصيتهم من قبل السلطة الفلسطينية في محاولتها لمراقبتهم ومنع المعارضين من التعبير عن آرائهم.
المراقبة في الحياة اليومية
لطالما عانى الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري من سيطرة ومراقبة اجتماعية كبيرة، غالبا في شكل مداهمات أو عمليات تفتيش غير معلنة لمنازلهم واستجواب وحشي عند المعابر الحدودية ونقاط التفتيش.
خلال العشرين عاما الماضية، تغلغلت هذه المراقبة في العالم الرقمي وتم تكثيفها باستخدام التقنيات الرقمية. يتعرّض الفلسطينيون للمراقبة بشكل روتيني في الأماكن العامة، حيث تنشر السلطات الإسرائيلية كاميرات المراقبة في شوارع الأراضي الفلسطينية وتحديدا في الخليل والقدس الشرقية.
بدأت هذه الممارسة في سنة 2000، عندما أطلقت “إسرائيل” مركز التكنولوجيا والمراقبة الخاص بها “مابات 2000” (التي تعني “نظرة” بالعبرية) وزادت من عدد كاميرات المراقبة. في حزيران/ يونيو 2014، أصدرت الحكومة الإسرائيلية القرار عدد 1775، الذي يدعو إلى تركيب المزيد من كاميرات المراقبة في القدس بحجة “تعزيز الأمن”. نتيجة لهذ القرار، خصصت “إسرائيل” 48.9 مليون شيكل (15.26 مليون دولار) في عام 2015 لتعزيز المراقبة بالكاميرات في القدس.
تتوسّع هذه المراقبة الرقمية وتشحذ أهدافها حيث استخدمت السلطات الإسرائيلية على نطاق واسع تقنيات التعرف على الوجه من خلال كاميرات المراقبة والهواتف الذكية. ووفقًا لبلدية القدس، تم تركيب 1000 كاميرا مراقبة في المدينة مع إمكانية التعرف على الأشياء، 10 بالمئة منها متصلة بخوادم يمكنها تحليل البيانات. تستطيع بعض هذه الكاميرات أيضًا التقاط الأرقام والحروف على لوحات السيارات الثابتة والمتحركة مما يمس بحقوق التنقل للفلسطينيين داخل أحيائهم الخاصة.
في غضون ذلك، قامت السلطات الإسرائيلية بتركيب كاميرات مسح ضوئي للوجه في الخليل، حيث يستخدمها الجنود لتحديد هوية الفلسطينيين دون الحاجة إلى التحقق من بطاقات هوياتهم. هذا الابتكار وليد مبادرة المراقبة التي نفذتها السلطات الإسرائيلية في سنة 2020. في بداية الجائحة، وبينما كان العالم بأسره يكافح لوقف انتشار الفيروس، كانت السلطات الإسرائيلية تستعد للتطفل أكثر على خصوصية الفلسطينيين.
أدت مبادرة المراقبة هذه إلى ظهور “الذئب الأزرق“، وهو تطبيق للهواتف الذكية يتم تشغيله بواسطة قاعدة بيانات ضخمة من المعلومات الشخصية للفلسطينيين. تُستمد قاعدة البيانات الخاصة بهذا التطبيق من قاعدة بيانات أكبر تسمى “مجموعة الذئاب” تسعى إلى تصنيف كل فلسطيني يعيش في الضفة الغربية من خلال ملف تعريف يحتوي على صور فوتوغرافية وتاريخ عائلي وخلفية تعليمية وتقييم أمني.
تجند “إسرائيل” جنودها لتصوير الفلسطينيين دون موافقتهم من أجل توسيع قاعدة بيانات “مجموعة الذئاب”، ويتلقى الجنود الإسرائيليون أوامر بإدخال صور وتفاصيل ما لا يقل عن 50 فلسطينيًا في نظام تعقب “الذئب الأزرق” التابع للجيش الإسرائيلي خلال كل مناوبة عمل. يضطر الجنود الذين يفشلون في تنفيذ مهمّتهم إلى البقاء في الخدمة لساعات إضافية حتى يحققوا الهدف، كما أنهم يتنافسون أيضًا على مضايقة أكبر عدد من الفلسطينيين.
الوصول للإنترنت والبيانات
تسيطر الحكومة الإسرائيلية على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الأراضي الفلسطينية، وبالتالي تحرم الفلسطينيين من حقهم الأساسي في الوصول إلى اتصال جيد بالإنترنت بأسعار معقولة. تعمّدت السلطات الإسرائيلية مدّ الفلسطينيين بتكنولوجيا إنترنت قديمة، وبينما تقوم بتحديث بنيتها التحتية إلى الجيل الخامس من الإنترنت، لا يزال الفلسطينيون في الضفة الغربية يستخدمون الجيل الثالث ولا يتمتع الفلسطينيون في قطاع غزة سوى بخدمات شبكة الجيل الثاني للإنترنت.
يؤدي حرمان الفلسطينيين من الوصول إلى التقنيات الجديدة إلى زيادة سعر الإنترنت مع تقليل أمن قنوات الاتصال. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك السلطات الإسرائيلية الآن القدرة على مراقبة كل محادثة هاتفية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما يتم زرع أجهزة التنصت الإسرائيلية في كل جهاز محمول يتم استيراده إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم دون علم أو موافقة المشتري النهائي. وأخيرًا، تستخدم “إسرائيل” برامج التجسس، التي تصنعها وتصدرها إلى جميع أنحاء العالم، لمراقبة المدافعين الفلسطينيين عن حقوق الإنسان، وتخلّف هذه المراقبة تأثيرا خطيرا على حرية التعبير في فضاءات المجتمع المدني.
تستخدم “إسرائيل” كاميرات المراقبة وطرق التتبع الأخرى كوسيلة للترهيب الذي يولد الرعب نتيجة شعورك بأنك مراقب دائما، حيث تؤثّر كاميرات المراقبة على سلوك الناس والفلسطينيون ليسوا استثناء. فعلى سبيل المثال، تخشى بعض النساء في القدس خلع حجابهن في المنزل لأنهن يشعرن أنهن مراقبات، حتى في أكثر الأماكن حميمية.
وعلى المدى القصير، قد تكون التعديلات الطفيفة على الروتين اليومي كافية للتخفيف من القلق الناجم عن المراقبة المستمرة، لكن الحكومة الإسرائيلية تأمل أن تضغط كاميراتها على الفلسطينيين في الوقت المناسب لإجراء تغييرات جذرية أكثر في سلوكهم. وهذا الإحساس المستمر بالمراقبة يهدد بتقسيم مجتمع مجزّأ بالفعل يسوده الشك ويُخضِعه الخوف.
المراقبة النفسية
دفعت المعلومات المثيرة للجدل التي أفصح عنها إدوارد سنودن حول الرقابة الجماعية المفروضة على المواطنين الأمريكيين في حزيران/ يونيو 2013 الباحثين إلى إجراء دراسة لمعرفة كيف يغير المستخدمون سلوكهم عبر الإنترنت. أظهرت الدراسة أنه في أعقاب تسريبات سنودن شهدت عمليات البحث على ويكيبيديا عن كلمات رئيسية معينة تتعلق بالإرهاب تراجعا كبيرا وهي تشمل تنظيم القاعدة وحزب الله والقنبلة القذرة والأسلحة الكيماوية والجهاد.
وفي حين أن الخوف من البحث عن المصطلحات المذكورة أعلاه قد لا يضر بالرفاهية الأساسية للفرد، فإنه يمكن للمرء أن يتخيل بشكل معقول أن المسلمين وأفراد الأقليات الأخرى الخاضعة للرقابة قد يترددون في البحث عن معلومات عبر الإنترنت تعد جزءا لا يتجزأ من هويتهم – مثل مواقيت الصلاة في مسجد محلي.
أظهرت الأبحاث أن وجود المراقبة أو التهديد بها يؤدي إلى فقدان الثقة وزيادة اللامبالاة. أصبحت أهداف الرقابة معروفة للجميع لكن من خلال ادعاء الفلسطينيين أنه ليس لديهم ما يخفونه، فهم يضحون بحقهم في احترام خصوصيتهم. يحتفظ المواطنون بأفكارهم لأنفسهم ويبتعدون عن المبادرات لتنظيم وتعبئة المقاومة ضد الاضطهاد. بعبارة أخرى، تدفع المراقبة الفلسطينيين إلى ممارسة الرقابة الذاتية الأمر الذي يتعارض مع مبادئ المجتمع المفتوح. هذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة لأولئك الذين يعيشون، مثل الفلسطينيين، في مجتمعات مستعمرة أو تحت حكم أنظمة قمعية مثل الصين.
إن تكنولوجيا المراقبة بجميع أشكالها، سواء كانت المراقبة الجماعية أو كاميرات المراقبة أو برامج التجسس أو مراقبة المكالمات أو التحكم في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تنتهك حقوق الفلسطينيين مثل الحق في الخصوصية وإخفاء الهوية وحرية التعبير والوصول إلى المعلومات.
وتعد تقنية التعرف على الوجه من أكثر أشكال المراقبة المثيرة للاستياء المستخدمة في الأراضي المحتلة وحول العالم بأسره. حُظرت هذه التكنولوجيا الجديدة نسبيًا لأن لها تداعيات مزعجة على الخصوصية، وهي تقوم على استخدام الحكومة لأنظمة التعرف على الوجه من قبل ما لا يقل عن 12 مدينة أمريكية، وتطورت دعوات الحظر في الاتحاد الأوروبي وحتى داخل إسرائيل.
عارضت الهيئة الوطنية للأمن السيبراني اقتراحًا من قبل مسؤولي إنفاذ القانون لإدخال كاميرات التعرف على الوجه إلى الأماكن العامة الإسرائيلية ورفضته المحكمة العليا الإسرائيلية، على الأرجح بسبب تأثيره على المواطنين اليهود في إسرائيل. من خلال هذه القرارات، أصبح من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية تعتمد معايير مزدوجة في تعريف الخصوصية والاستقلالية تخضع لمنطق مختلف يقوم على هوية الطرف التي تكون خصوصيته على المحك
نحو حق عالمي في الخصوصية
لطالما لفت النشطاء والصحفيون والعلماء والمواطنون الفلسطينيون الانتباه الى الطرق التي يتعرضون بها للإذلال والتحقير بواسطة أشكال المراقبة المبتكرة التي تنتهك خصوصيتهم. من نواح كثيرة، تُظهر حالة الفلسطينيين كيف يمكن تسليح التكنولوجيا، لا سيما كوسيلة لإثارة الرقابة الذاتية والامتثال من قبل الأشخاص الذين يعيشون في الأراضي المحتلة أو الذين تصنفهم الحكومات على أنهم أقليات خطيرة أو مهددة، كما هو الحال مع الأويغور في الصين والكشميريين الذين تطاردهم الحكومة القومية الهندوسية. وفي سياق الشرق الأوسط، شوهد ترهيب النشطاء والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بالوسائل التكنولوجية في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والمغرب وخارجها.
ومن الواضح أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم الذين يتعاملون مع التقنيات الغازية في العصر الرقمي، حتى لو كانوا يمثلون حالة فريدة من نوعها بالنظر إلى أن حياتهم اليومية التي تتم مراقبتها تساهم في تطوير أساليب المراقبة المتقدمة. وبالنظر إلى النطاق العالمي الذي تتخذه هذه المسألة، لا تتطلب المقاومة جهودًا من الفلسطينيين فحسب، بل تتطلب أيضًا تنظيم حملة عالمية شاملة لحماية الخصوصية الفردية ومواجهة الحجج التي تبرر هذه الأساليب.
نحتاج إلى تنظيم أنفسنا عالميًا لمواجهة هذه التقنيات والضغط على حكوماتنا لقطع العلاقات مع المصنعين والموردين حتى يمتثلوا للقانون الدولي. نحن بحاجة إلى استعادة مساحاتنا الرقمية والحضرية والتشكيك في أهمية هذه التقنيات. ومن المؤسف أنه تم التطبيع مع المراقبة الحكومية في الضمير الجماعي لدرجة أن كاميرات المراقبة لم تعد مثيرة للاستياء والسخط.
إن تعدي القوات العسكرية والأمنية على فضاء الفلسطينيين والأقليات الأخرى والرعايا الاستعماريين ينشر الرعب بين الأشخاص المستهدفين ويمثل شكلاً من أشكال التمييز العنصري والعرقي والقومي. في خضم النضال ضد المراقبة، باتت الحرية على المحك. يقع على عاتق المراقبين المهتمين واجب التعاون مع منظمات المجتمع المدني التقدمية في النضال من أجل وضع حد لإساءة استخدام هذه التقنيات من قبل الحكومات التي ترغب في التجسس على مواطنيها.
المصدر: معهد الشرق الأوسط