ترجمة وتحرير: نون بوست
في 1 آب/أغسطس 2018؛ أعلنت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية تفشي فيروس إيبولا في شمال شرق البلاد الذي مزقته الحرب، كان هذا هو التفشي العاشر المسجل للحمى النزفية القاتلة في الكونغو، ولكنه الأول في منطقة نزاع نشطة. ولتجنب تكرار ما حدث عندما تفشى وباء الإيبولا في غرب إفريقيا سنة 2014، ومع قلة المساعدة الخارجية وبعد فوات الأوان، تخلى المانحون عن الحذر وضخّوا أكثر من 700 مليون دولار في شمال شرق الكونغو لمحاربة المرض على مدى العشرين شهرًا التالية. ولحماية موظفيها؛ وضعت منظمة الصحة العالمية وشركاؤها من قوات الأمن الكونغولية وأفراد الميليشيات المحلية قوائم رواتبهم. وخلق هذا دوافع منحرفة؛ على الرغم من أن المقاتلين لديهم سبب للامتناع عن مهاجمة عمال الإغاثة، إلا أن لديهم أيضًا مصلحة في إطالة أمد الوباء حتى يتمكنوا من الاستمرار في الاستفادة منه. وبين آب/أغسطس 2018 وتموز/يونيو 2020، عندما تم الإعلان أخيرًا عن وباء الإيبولا، قام بعض رجال الميليشيات وأفراد قوات الأمن الحكومية بتغذية العنف وعدم الاستقرار حتى يستمر المرض في الانتشار وتواصل وكالات الإغاثة الدولية الدفع لهم، وانتهى الأمر بالجهود حسنة النية لاحتواء المرض إلى فعل العكس تمامًا.
هذا هو وجه العديد من الصراعات الإفريقية اليوم؛ ففي حين أن معظم الجماعات المسلحة في القارة كانت تهدف، سابقًا، إلى الإطاحة بالحكومات أو الانفصال وتأسيس دول جديدة، فإن أولئك الذين يحملون السلاح اليوم هم أقرب للقيام بذلك كوسيلة للمساومة على الموارد، فقد سعى بعض المسؤولين الحكوميين في الكونغو ومالي ونيجيريا والصومال وأماكن أخرى إلى إطالة أمد النزاعات وحتى التحريض عليها، طالما أنها لم تهدد حياتهم، وغالبًا ما تتحدى الجماعات المتمردة، في هذه البلدان وغيرها، الحكومات كوسيلة للحصول على مدفوعات وامتيازات أخرى. وعلى الرغم من أن المعارك على السلطة لم تختف تمامًا -الحرب الأهلية الإثيوبية هي أحدها- أصبحت الحرب في العديد من البلدان الأفريقية أداة مساومة اقتصادية وأسلوب حياة وحتى أسلوب حكم.
ويمثل هذا التغيير الأساسي في طبيعة الصراع في القارة مأزقًا للجهات الفاعلة الخارجية؛ بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، التي غالبًا ما تشارك الحكومات الأفريقية في مكافحة الإرهاب أو وقف الهجرة. إذا لم تكن بعض الحكومات الأفريقية ملتزمة حقًا بالاستقرار أو – أسوأ من ذلك – العمل بنشاط على تأجيج الفوضى، فإن الشركاء الأجانب يخاطرون بالتواطؤ في العنف من خلال تقديم الدعم لهم دون المطالبة بحوكمة أفضل أو مسؤولية في المقابل. لذلك حان الوقت لاتباع نهج جديد؛ فبدلًا من دعم الأنظمة التي غالبًا ما تكون جزءًا من المشكلة، يجب على واشنطن وبروكسل والجهات الفاعلة الخارجية الأخرى العمل بشكل وثيق مع المجتمع المدني والحركات الديمقراطية في القارة لتعزيز الإصلاح الديمقراطي. فمن خلال تغيير طابع الدول الأفريقية، فقط، يمكنهم أن يأملوا في تغيير طبيعة الصراع في أفريقيا.
الوجه المتغير للحرب
لقد تغيرت طبيعة الحرب في إفريقيا بشكل كبير خلال الستين سنة الماضية، فقد كانت معظم نزاعات المنطقة، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عبارة عن صراعات على السلطة بين نخب البلدان المستقلة حديثًا، كما كان الحال في الكونغو ونيجيريا، أو صراعات بين حركات التحرير وأخرى تمثل بقايا الاستعمار، كما هو الحال في المستعمرات البرتغالية المتبقية في أنغولا وموزمبيق، وفي مستعمرات المستوطنين البيض في ناميبيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي، وبالنسبة لجميع حركات التمرد هذه، كان الهدف هو السيطرة على الدولة – سواء الدولة المركزية أو الدولة الانفصالية – والحصول على الحرية، وطوال هذه الفترة؛ تم تحريض المتحاربين واستغلالهم من قبل القوى المتنافسة في الحرب الباردة؛ فقد أرسلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين وكوبا أسلحة ومستشارين عسكريين وأموالًا إلى دول في جميع أنحاء القارة، مما جعل الحروب هناك أكثر وحشية واستعصاءً. كما قاموا بتصدير أيديولوجياتهم، مما أدى إلى تأجيج الصراعات بين الحركات من أجل الاشتراكية الأفريقية والحكومات التي اختارت أن تكون إلى جانب الولايات المتحدة
وأطلقت نهاية الحرب الباردة العنان لقوات جديدة في القارة؛ حيث بدأت الحكومات الاستبدادية، التي فقد البعض منها رعاته الخارجيين، في الانفتاح اقتصاديًّا وسياسيًّا، ودفع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي العديد من البلدان إلى خصخصة أجزاء كبيرة من اقتصاداتها وتحريرها مقابل القروض، كما قاد القادة السياسيون وحركات المجتمع المدني موجة من الإصلاحات الديمقراطية، وفي غضون عقد من الزمان تقريبًا في الثمانينيات والتسعينيات، تحولت القارة من استبدادية إلى حد كبير إلى ممارسة شكل من أشكال الديمقراطية في الغالب.
وأدت هذه التغييرات إلى اتجاهين جديدين يبدو أنهما متناقضان؛ حيث أصبحت الصراعات الأفريقية أكثر تواترًا، لكنها أصبحت أيضًا أكثر هامشية وأقل تهديدًا للحكومات. في العقد الماضي، تضاعف عدد الجماعات المسلحة في الكونغو إلى حوالي 120 جماعة. ومن المحتمل أن يكون هناك أكثر من 40 مجموعة من هذا القبيل في جنوب السودان، و 20 في ليبيا، وما لا يقل عن العشرات في نيجيريا. لكن بالنسبة للجزء الأكبر؛ فإن هؤلاء المتمردين ليس لديهم فرصة واقعية للإطاحة بالحكومة، بل إنهم يهدفون إلى مساومتها بالعنف. لقد ولت أيام الحروب الأهلية الدموية والشاملة، مثل تلك التي حدثت في إثيوبيا ورواندا في التسعينيات. لقد دخلت أفريقيا عصر صراع منخفض المستوى واستقرار منعدم.
هذا لا يعني أن النزاعات أصبحت أقل تدميرًا، ولكنها أصبحت أقل وضوحًا وإثارة، فبين سنتي 2010 و2020؛ ارتفع عدد الأشخاص النازحين قسرًا بسبب النزاع ثلاثة أضعاف تقريبًا، حتى مع انخفاض عدد القتلى. وأصبحت أجزاء كبيرة من المناطق الريفية في الكونغو ومالي ونيجيريا والصومال وجنوب السودان تخضع الآن لسيطرة الجماعات المسلحة. بعبارة أخرى، يؤثر عدد متزايد من الصراعات الأصغر والأكثر تجزئة على مناطق جغرافية أكبر؛ لا سيما على أطراف الدول، ويتوقع البنك الدولي أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية، وبحلول سنة 2030، سيعيش ما يقارب ثلثي الفقراء المدقعين في العالم في بلدان متأثرة بمستويات عالية من العنف، ومعظمهم في إفريقيا.
مع تغير طبيعة الصراعات الأفريقية؛ تغيرت أيضًا مصالح ودوافع المتحاربين؛ حيث إن الجهات المسلحة اليوم ليست من مقاتلي التحرير على غرار تقليد سامورا ماشيل في موزمبيق وأميلكار كابرال من غينيا بيساو، ولا متمردين إصلاحيين، كما وصفهم يوويري موسيفيني من أوغندا وبول كاغامي من رواندا، اللذين سعيا للاستيلاء على السلطة من أجل تغيير بلديهما. ولا حتى أمراء حرب على غرار تشارلز تايلور في ليبيريا، الذي على الرغم من شهرته بالفساد إلا أنه كان يهدف إلى الاستيلاء على الدولة؛ إن الجماعات المسلحة التي تنشر الفوضى في إفريقيا تتحدى اليوم هذه الفئات، فهي تدير سلسلة كاملة من المتمردين الإسلاميين في شرق إفريقيا والساحل، إلى ضباط الجيش الساخطين في جنوب السودان، إلى عصابات قطاع الطرق المنظمة في شمال شرق نيجيريا.
ربما لا يوجد مكان يمثّل الوجه الجديد للصراع الأفريقي أفضل من الكونغو؛ فبين عامي 1996 و2003؛ خاضت البلاد حربين واسعتي النطاق، تضمنت الثانية جيوشًا من تسع دول مختلفة في المنطقة ويطلق عليها أحيانًا باسم الحرب العالمية الأفريقية
هذا التعايش بين المتمردين والحكومات لا يعني مؤامرة كبرى لإدامة الصراع. على العكس، فقد أصبح العنف منهجيًا، متجاوزًا نوايا أي جهة فاعلة فردية. فدول مثل الكونغو ضعيفة ومقسمة لدرجة أن القادة فيها يجدون صعوبة في ممارسة سيطرة مركزية عليها. في نهاية الأمر، فرض الانضباط والمساءلة داخل قوات الأمن ينطوي على مخاطر، خاصة في قارة لها تاريخ من الانقلابات العسكرية. على النقيض من ذلك، يمكن أن يكون دعم الجماعات المسلحة رهانًا أكثر أمانًا، ويوفر أيضًا فرصًا تجارية مربحة.
قد تبدو حركات التمرد الجهادية التي انتشرت كالنار في الهشيم في أنحاء أفريقيا في السنوات الأخيرة وكأنها استثناء من القاعدة؛ ففي حين صاغ عدد قليل جدًّا من الثوار أهدافهم بمصطلحات دينية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فإن غالبية النزاعات في القارة اليوم تضم متمردين مرتبطين بطريقة ما بتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة. وغالبًا ما تدعي مثل هذه الجماعات أنها تحاول ترسيخ خلفائها السياديين، ولكن معظم محصلي الضرائب في المناطق التي يسيطرون عليها وينظمون الحياة اليومية فيها – كما تفعل حركة الشباب في الصومال، على سبيل المثال – أصبحوا لا ينظرون إلى سلطة الدولة على أنها جائزة، وبدلًا من المحاولة الحقيقية للإطاحة بالحكومة المركزية، فإنهم يستخدمون العنف كوسيلة للسيطرة على قواتهم، والإشارة إلى أهميتها، وتجنيد داعمين ومقاتلين جدد.
العامل الآخر وراء استخدام العنف كأداة للمساومة هو أن معظم حركات التمرد في أفريقيا هي تكرار للحروب الأهلية، وهذا يعني أن كل نزاع أهلي في القارة يحدث عمليًّا على أنقاض – وأهم من ذلك؛ على أساس من الشبكات الاجتماعية ووجهات النظر العالمية والمظالم المرتبطة بها – حلقات العنف السابقة، وقد أدى ذلك إلى خلق طبقات اجتماعية كاملة مستثمرة في الصراع وجعل التعبئة المسلحة وسيلة عملية ومقبولة لإدارة السياسة؛ لقد أصبح النزاع المسلح مهنة، أو وظيفة، كما لاحظته عالمة السياسة الفرنسية مارييل ديبوس على المقاتلين في تشاد.
الصراع والعيش المشترك
ربما لا يوجد مكان يمثّل الوجه الجديد للصراع الأفريقي أفضل من الكونغو؛ فبين عامي 1996 و2003؛ خاضت البلاد حربين واسعتي النطاق، تضمنت الثانية جيوشًا من تسع دول مختلفة في المنطقة ويطلق عليها أحيانًا باسم الحرب العالمية الأفريقية.
وفي عام 2003، وافقت الأطراف المتصارعة على اتفاق سلام أفضى إلى تشكيل حكومة انتقالية، والتي بدورها صاغت دستورًا جديدًا للبلاد. وفي عام 2006، عقدت أول انتخابات ديمقراطية في الكونغو منذ 46 عامًا، لكن اتفاق السلام هذا لم يفلح في إنهاء الصراع. وبدًلا من ذلك؛ كانت بداية مرحلة مجزأة وغير واضحة المعالم من الحرب، وعلى الرغم من أن القتال كان يقتصر في الغالب على مقاطعات إيتوري وشمال كيفو وجنوب كيفو كما كان عام 2021، فقد كان هناك أكثر من 5.6 ملايين نازح داخليًا في شرق الكونغو؛ أي أكثر من أي وقت مضى في التاريخ المسجل.
وتُبيّن مجموعة من العوامل كيف انتشر الصراع؛ فقد همَّش اتفاق السلام لعام 2003 أحد أقوى المتحاربين، وهو التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية، الذي عاد فصيل منه إلى الحرب، وأدت عملية تسريح المقاتلين وإصلاح الجيش إلى خلق القليل من سبل العيش البديلة للمقاتلين السابقين وتهميش العديد من القادة الأقوياء سابقًا، مما أدى إلى إثارة الاستياء وتجنيد عدد كبير من الجماعات المسلحة الجديدة التي يقودها المنشقون عن الجيش.
وحفز اندفاع الناس إلى المشاركة في الانتخابات بين عامي 2006 و2011 السياسيين على التحالف مع الجماعات المسلحة التي سيطرت على الناخبين في مناطق معينة وعملت على ترهيب المعارضين، كما خلّفت الانتخابات خاسرين لجأ بعضهم إلى العنف، وتفاقمت كل هذه المشاكل بسبب الموقف المتهكم للحكومة الكونغولية تجاه تصاعد حالة انعدام الأمن.
وفي تجمعهم في العاصمة كينشاسا، فإن إدارة الجيش الوطني الجديد، الذي تم إنشاؤه حديثًا من خليط من المحاربين السابقين، كانت تؤرق الرئيس جوزيف كابيلا ومستشاروه المقربون أكثر من الجماعات المسلحة التي انتشرت على بعد 1000 ميل باتجاه الشرق. فسيطرت مكائد القصر والخوف من الانقلاب على تفكيرهم، لذلك تحسسوا مخاطر أكبر في محاولة فرض الانضباط على قوات الأمن أكثر من سماحهم بانتشار شبكات المحسوبية والابتزاز. وبدلًا من محاولة إنشاء جيش محايد سياسيًّا وجدير بحماية البلاد، أقاموا شبكات مستقلة، وأحيانًا متنافسة، من الضباط المخلصين لتحصيل الإيرادات وحماية أنفسهم من الانقلابات.
لم يحافظ تكتيك الحكم هذا على اقتصاد الحرب فحسب؛ حيث ازدهرت فيه نخبة قليلة من السياسيين والقادة العسكريين والمتمردين ورجال الأعمال لأكثر من عقدين، بل ساهم في توسعته بالفعل، وكان من الممكن أن تعني نهاية العنف نهاية كرامة وسُبل عيش هذه النخب وعشرات الآلاف من المقاتلين.
في أوقات السلم؛ يكافح ضباط الشرطة والجيش لتدبر أمور معيشتهم على رواتبهم البخسة. ولكن عندما يتم إرسالهم إلى خطوط الجبهات يحصلون على مكافآت تساوي عدة أضعاف أجورهم الرسمية، وعلى الرغم من أن رواتبهم الأساسية بلغت ذروتها عند حوالي 150 دولارًا شهريًّا، فقد أخبرني ضباط عسكريون في عام 2014 أنهم كانوا يتلقون في كثير من الأحيان مبالغ تصل إلى 1000 دولار شهريًا كمكافآت بسبب مشاركتهم في الصراع، فالجنود العاملون في زمن الحرب لديهم العديد من فرص النهب والابتزاز والاختلاس بسبب الطمع، فقد قال لي كولونيل كونغولي: “عليك أن تقاتل لتكسب المال”.
وقد تحولت هذه التهكمات عن الجنود إلى أقوال شعبية إذ يطلق الكونغوليون على المتمردين الذين يثيرون المتاعب بحيث يجب على الحكومة أن تتفاوض معهم على أنهم “رجال إطفاء مهووسون بالحرائق”.
وتجسد نيجيريا أيضًا الوضع الطبيعي الجديد في الصراع الأفريقي؛ فهي تعاني من تمرد إسلامي عنيف في الشمال الشرقي، وانتشار حوداث قطع الطرق في الشمال الغربي بالإضافة إلى الصراعات بين الرعاة والمزارعين في وسط البلاد ونشاط الميليشيات طويل الأمد في دلتا النيجر وانتشار العمليات الإجرامية في كل مكان. ففي عام 2021؛ ووفقًا لمشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلح غير الربحي، شهدت البلاد مصرع 9691 شخصًا بسبب النزاع، وهي النسبة الأكبر في إفريقيا.
ومثلما هو الحال في الكونغو، فعلى الرغم من أن العديد من أفراد قوات الأمن والحكومة ملتزمون بتهدئة الأوضاع في البلاد، فإن كثيرين آخرين إما يستفيدون من حالة الصراع أو لديهم حافز ضئيل للسيطرة عليها. وفي شمال البلاد، لم تفلح قوات الأمن النيجيرية في قمع العنف ولم تستطع إشعال لهيبه من خلال سرقة الأموال أو دعم الميليشيات في بعض الأحيان.
في إحدى الولايات الشمالية الغربية، زامفارا، وجدت لجنة حكومية أن خمسة أمراء و33 من رؤساء المقاطعات متواطئون في هجمات شنها قطاع الطرق بين عامي 2011 و2019؛ فعندما لا تقوم الحكومة النيجيرية بتأجيج العنف بشكل مباشر فإنها غالبًا تبذل القليل من الجهد لإيقافه. وعلى مدى العقد الماضي؛ شكلت كيانات حكومية مختلفة ما لا يقل عن 22 لجنة تحقيق ولجان وبعثات لتقصي الحقائق تتعلق بالعنف في شمال شرق البلاد وحده حيث لم يتم تنفيذ أي من توصياتهم تقريبًا.
سبب هذا اللامبالاة واضح؛ فقد أصبح انعدام الأمن أمرًا يثير الجلبة وفُقدت ملايين الدولارات من الأموال العامة التي أُنشئت لدعم العمليات العسكرية والجهود الإنسانية، بزعم اختلاسها من قبل المسؤولين الحكوميين والعسكريين.
وفي عام 2020؛ ادعى حاكم بورنو، الولاية الأكثر تضررًا من الصراع مع المتمردين الإسلاميين، أن مسؤولي الأمن يفتعلون عمليات قتالية تخريبية ضد بوكو حرام من أجل مصلحتهم الشخصية. وفي عام 2016، ادعى نائب الرئيس ييمي أوسينباجو أن الحكومة السابقة سرقت حوالي 15 مليار دولار من أموال الدولة من خلال صفقات شراء أسلحة احتيالية وحدها.
ينطبق هذا الوضع أيضًا في جنوب السودان الذي حصل على الاستقلال عن السودان في عام 2011. بحلول ذلك الوقت؛ حولت حركة التمرد حكومة الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي كانت ذات يوم منظمة موجّهة أيديولوجيًّا ومدعومة شعبيًّا، وتحولت إلى تحالف عسكري غير مستقر من رواد الأعمال الذين يتمتعون بقواعد منفصلة للسلطة يجمعهم الابتزاز والولاء العرقي والتهديد بالعنف.
اتخذت هذه الحكومة، التي تم تمويلها بالكامل تقريبًا من عائدات النفط، قراراً مصيريًا في عام 2012 بإغلاق خطوط الأنابيب عن السودان من أجل التفاوض على شروط أفضل مع جارتها الشمالية. فشلت المناورة، مما أدى إلى انخفاض كارثي في الإيرادات وتفكيك حلقة الوصل المالية التي أبقت الحركة الشعبية لتحرير السودان متماسكة.
كانت الفصائل التي يقودها الرئيس سلفا كير ونائب الرئيس ريك مشار تتنازع على الموارد وتختلف على ضغائن قديمة من الحرب الأهلية، لكن الخسارة المفاجئة في الإيرادات دفعتهم إلى صراع مفتوح.
وأوضح أبراهام كول نيون، المقاتل السابق في الحركة الشعبية لتحرير السودان، ما حدث باختصار في مقابلة مع صحيفة الفاينانشيال تايمز في عام 2021 فقال: “عندما نلنا استقلالنا، كانت هناك كعكة أمامنا وقال البعض إنهم هم من سيأكلونها بمفردهم…. وقال آخرون: “إذا كنت ستأكلها، فمن الأفضل أن نتقاتل من أجلها””؛ بعبارة أخرى، لم يتمكن قادة جنوب السودان من معرفة كيفية تقاسم غنائم نيلهم الاستقلال، وهكذا بعد عامين فقط من استقلالها؛ استسلمت البلاد لحرب أهلية دامية؛ حيث انقسمت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى مجموعتين رئيسيتين وعدة مجموعات صغيرة تم تجنيدهم جميعًا على أسس عرقية وقادهم رجال عسكريون أشدّاء.
ومن عام 2013 حتى عام 2018؛ عندما أفضى اتفاق السلام إلى الاتفاق بين كير ومشار، استخدم القادة العسكريون العنف كوسيلة للمساومة فيما بينهم، وكان كير ومشار الطرفين المتحاربين الرئيسيين في هذا الصراع، لكن مجموعة من الرجال المحليين ذوو النفوذ القوي عملوا على إثارة فصائل متمردة أصغر لتحدي الحكومة المركزية والتفاوض معها. وكانت النتيجة مزيج من شبكات المحسوبية التي تربط المسؤولين الحكوميين بالميليشيات وأصحاب النفوذ المحليين ممارسين العنف لتعزيز مكانتهم والحصول على الموارد.
وفي يونيو 2020، قام موقع “سمول آرمس سيرفاي” بمحاولة تخيّليّة لرسم خريطة للتحالفات والتنافسات الرئيسية بين نخب جنوب السودان، وكان كل ما وصلت إليه المنظمة هوعبارة عن مجموعة من الصور المبعثرة المزخومة بالأسهم المتداخلة. وفي النهاية؛ ارتبطت جميع الجهات المسلحة تقريبًا بجميع الأطراف الأخرى وهذا على ما يبدو أنه دليل لملاحظة الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي أن “نمط الهيمنة ما بعد الاستعمار هو نظام لا يقتصر على السيطرة فحسب، بل على العيش المشترك”.
بذور الدمار
للصراع في إفريقيا أسباب عديدة: دول ضعيفة وغير شرعية تمت وراثتها عند الاستقلال، ورسمت حدودًا غير منطقية في العهد الاستعماري، بالاضافة الى الاعتماد بشكل كبير على الموارد الطبيعية، لكن معظم هذه العوامل لم تتغير منذ عقود، في حين أن طبيعة العنف قد تغيرت، ولفهم تصاعد الصراع كأداة للمساومة والتعايش الضار بين العديد من الحكومات والجماعات المتمردة التي تعارضها، يجب على المرء أن ينظر إلى التحرر السريع للأنظمة الاقتصادية والسياسية التي حدثت في نهاية الحرب الباردة وبعدها.
بدأ التحرر الاقتصادي في إفريقيا في الثمانينيات؛ مدفوعًا بالأداء الاقتصادي السيئ للعديد من البلدان والضغط من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونخب رجال الأعمال. أدت الخصخصة وإلغاء القيود في نهاية المطاف إلى تعزيز الابتكار والقدرة التنافسية، لكنهما خلقتا أيضًا مصادر جديدة للربح للجماعات المسلحة وسهّلت تجنيدها. في حين بدأ متوسط الدخل في النمو أخيرًا تقريباً في عام 2002، مما أدى إلى ظهور طبقة متوسطة أفريقية جديدة قوية، ارتفع أيضًا عدد الفقراء في القارة، وتعد الآن منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا موطنًا لأكثر من نصف الفقراء الأشد فقراً في العالم: 490 مليون شخص اعتبارًا من عام 2021، بعد أن كان العدد 284 مليونًا في عام 1990.
وكشفت تجربة نيجيريا مع التحرر الاقتصادي – في منتصف الثمانينيات – مدى خطورة هذه التحولات الاقتصادية؛ فمع مواجهة الديون الهائلة، وانخفاض عائدات النفط، والأزمة الاقتصادية العامة، قررت الحكومة العسكرية للجنرال إبراهيم بابانجيدا في عام 1986 تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي الذي خفض قيمة العملة، وخفض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والإعانات، وخصخص الشركات التي تديرها الدولة. ونتيجة لذلك؛ انخفض متوسط الدخل، واضطر كثير من الناس إلى ترك المدرسة ولم يعد بإمكانهم زيارة الطبيب. وعلى الرغم من تحسن ثروات نيجيريا الاقتصادية في النهاية؛ إلا أن الصدمة الأولية للإصلاحات قوضت شرعية الدولة النيجيرية، وزادت من الانقسامات داخل المجتمع؛ حيث لجأ السياسيون إلى النداءات العرقية والدينية لتعزيز شرعيتهم، كما خلق التحرر فرصًا للكسب غير المشروع والأعمال غير المشروعة، مما أدى إلى تهريب النفط والاحتيال التجاري والمالي وتجارة المخدرات، وكما هو الحال في جميع الأسواق غير الشرعية؛ يتمتع الذين مارسوا العنف بميزات إضافية.
وأدى التحرر الاقتصادي – أيضًا – إلى إنشاء مجموعة من الجنود الراغبين في الانضمام للجماعات المسلحة؛ فمن خلال تركيز الأراضي ورأس المال الزراعي في أيدي نخبة صغيرة، دمرَت الإصلاحات التي قادها صندوق النقد الدولي الفلاحين الريفيين ووسعت الفوارق الاقتصادية بين المناطق الحضرية والريفية. واستقطبت المدن سكانًا أكثر من أي وقت مضى، واعدة بالفرص ولكنها قدمت بشكل أساسي أحياء فقيرة مترامية الأطراف. تركت وراءها في الريف النيجيري أعداد كبيرة من المزارعي الذين يعتمدون على القوت اليومي مع تقلص المزارع وتضاؤل الآفاق الاقتصادية. وكما كان الحال في أماكن أخرى في أفريقيا؛ فقد انضم هؤلاء السكان الريفيون المهمشون إلى الجماعات المسلحة بأعداد غير متناسبة، مما يشير إلى تحول ذي صلة في طبيعة الصراع في القارة: ففي حين تم تجنيد الثوار السابقون من كل من سكان المناطق الحضرية والريفية، مما أدى إلى سد الفجوة بين الاثنين، كانت حركات التمرد الأخيرة – في جمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، وجنوب السودان، والسودان، على سبيل المثال – تتألف إلى حد كبير من مقاتلين ريفيين يعملون بشكل أساسي في الريف، ونظرًا لاهتمامها في المقام الأول باستخراج الموارد من الدولة بدلًا من الاستيلاء عليها؛ فإن هذه الجماعات ليس لديها نية تذكر للاستيلاء على المدن الكبيرة، وهكذا أصبح التمرد المسلح مهمشًّا جغرافيًّا في نفس الوقت الذي أصبح فيه مركزًا اقتصاديًّا وسياسيًّا؛ لكن لم يكن التحرر الاقتصادي وحده هو الذي مهد الطريق لنوع جديد من الحرب، لقد كان التحرر السياسي سببًا أيضًا.
فبعد نهاية الحرب الباردة؛ دخلت الديمقراطية متعددة الأحزاب في معظم أنحاء إفريقيا، وكان لهذا الانفتاح السياسي العديد من الفوائد؛ فقد قاد المتمردون المحتملون بعيدًا عن ساحة المعركة إلى السياسة الانتخابية، وأعاد توجيه الموارد بعيدًا عن الجماعات المسلحة، ووجهها نحو الأحزاب السياسية والانتخابات؛ لقد تغيرت المعايير في جميع أنحاء القارة. ففي عام 2002؛ ألزم الاتحاد الأفريقي أعضاءه رسميًّا برفض التغييرات غير الدستورية للحكومات، وهذا التحول السياسي جلب إصلاحات مشجعة في بعض البلدان، مثل غانا وملاوي، ولكن في العديد من البلدان الأخرى، ظل غير مكتمل، مما أدى إلى إنتاج أنظمة مزجت بين الاستبداد وسياسات المحسوبية وشكل من أشكال المنافسة الانتخابية؛ وهي ما أطلق عليه البعض “الديمقراطيات غير الليبرالية” أو ” أنظمة سياسية هجينة”.
من الكونغو إلى كينيا إلى نيجيريا؛ استخدمت النخب السياسية النظام الانتخابي لتعزيز شرعيتها وتقسيم خصومها، لكنها لجأت أيضًا في كثير من الأحيان إلى دعم الجماعات المسلحة من أجل تعزيز وضعها أو ترهيب منافسيها أو انتزاع الموارد؛ فمنذ أن حددت نتيجة الانتخابات التنافسية فجأة كيفية مشاركة المحسوبية العامة، أصبح لدى النخب الآن حوافز هائلة للتلاعب بالعملية الانتخابية والاستيلاء على النظام السياسي، ففي بلد مثل مالي، البلد الذي تم الترحيب به في السابق باعتباره حامل لواء الديمقراطية في القارة، تم اختطاف النظام السياسي في نهاية المطاف من قبل النخب الوطنية و”الرجال الكبار” الإقليميين، مما أدى إلى تأجيج التحركات اللاحقة للتمرد. فبمجرد توليهم المنصب؛ تم تحفيز القادة السياسيين في الديمقراطيات الانتخابية المختلة والضعيفة على استخدام الصراع والعرقية لتحريض خصومهم ضد بعضهم البعض والبقاء في السلطة، وكانت هذه هي إستراتيجية موبوتو سيسي سيكو فيما كان يُدعى آنذاك زائير (الكونغو الآن) في التسعينيات، كما كانت إستراتيجية العديد من القادة السياسيين في كينيا والرئيس بول بيا في الكاميرون.
ولا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن موجة الديمقراطية غير المكتملة التي دعت إلى الفساد والصراع العرقي لم تقدم سوى القليل في طريق المساءلة والرقابة؛ ففي الكونغو، ما يقرب من ثلث أعضاء البرلمان لا يكلفون أنفسهم عناء الحضور للتصويت، ولم تدقق الحكومة قط في أجهزة الأمن على الرغم من المزاعم المتكررة بالفساد وسوء أداء الجيش؛ حيث إن جزءًا من المشكلة يكمن في أن المسؤولين المنتخبين غالبًا لا يشعرون بأي التزام تجاه جمهورهم، وهناك العديد من القادة السياسيين الذين قابلتهم في كينشاسا أظهروا القليل من المعرفة أو الاهتمام بالنزاع في الجزء الشرقي من البلاد. هؤلاء الناس كانوا دائمًا في حالة حرب. وقال لي أحد أعضاء البرلمان من كينشاسا: “ما من شيء يمكننا القيام به سيغير ذلك”، وقال لي آخر: “عندما أقوم بحملتي الانتخابية في دائرتي الانتخابية في كينشاسا، لم يسألني أحد أبدًا عن العنف في شرق الكونغو”. والوضع مماثل في نيجيريا؛ فوفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة غالوب عام 2017، قال تسعة في المائة فقط من الناخبين إن التصدي للعنف يجب أن يكون على رأس أولويات الحكومة.
الأعمال غير المكتملة
إن العنف كأسلوب حياة وإستراتيجية مساومة ليس متفردًا في أفريقيا؛ فيمكن العثور على تعايش فاسد بنفس القدر بين الحكومة والمتمردين في المكسيك؛ حيث إن معدل القتل للفرد مرتفعٌ على الأقل مثل الكونغو أو نيجيريا. وهناك أيضًا، التحرر الاقتصادي والديمقراطية لعبوا دورًا في تصعيد العنف؛ هذا ما أوضحه الباحثان جيليرمو تريجو و ساندرا لي؛ فلمدة 71 عامًا في ظل حكم الحزب الواحد للحزب الثوري المؤسسي؛ تمكنت حكومة المكسيك من إدارة تجارة المخدرات واستفادت منها دون دعوة أي مكان قريب إلى المستوى الحالي من إراقة الدماء، وعندما انتقلت المكسيك إلى الديمقراطية في عام 2000؛ انهارت هذه الإدارة المركزية لتجارة المخدرات، واندلعت الخلافات بين العصابات المختلفة، حتى مع احتفاظ معظمها بعلاقات مع الدولة، ويمكن العثور على شبكات مماثلة تربط النخب السياسية والاقتصادية بالعصابات الإجرامية والميليشيات في بلدان أمريكا الوسطى الأخرى، وكذلك في بعض المدن البرازيلية الكبرى.
ما يُميّز النزاعات الأفريقية هو الدرجة التي أصبح فيها المانحون والدبلوماسيون الأجانب متواطئين في العنف عن غير قصد؛ حيث دأبت النخب المتحاربة في الصومال وجنوب السودان على استغلال عمليات السلام كأدوات لجني الأموال من المانحين الدوليين. وفي الكونغو؛ ساعد المانحون لتدعيم اتفاق السلام لسنة 2003 من خلال إعادة كتابة قوانين التعدين والضرائب والاستثمار في البلاد من أجل تحسين الشفافية وجذب الشركات الأجنبية، وكان أملهم هو إنشاء طبقة وسطى يمكنها ذات يوم محاسبة الحكومة، لكنهم بدلًا من ذلك فتحوا الطريق أمام تدفق هائل لرأس المال الأجنبي، والذي تمكنت النخب الكونغولية من نهبه على الرغم من القوانين الجديدة، إذ تتراوح تقديرات المبلغ المسروق في عدد قليل من هذه الصفقات من 1.3 مليار دولار إلى 5.5 مليارات دولار.
وأظهرت الوثائق المسربة من بنك غابون أن أفراد عائلة كابيلا اختلسوا ما لا يقل عن 138 مليون دولار من أموال الدولة بين سنتي 2010 و2020. بالإضافة إلى مساعدة الشعب الكونغولي في محاسبة حكومته، وبعبارة أخرى، ساعد المانحون الأجانب في بناء نظام استنزف الدولة الكونغولية الكثير من عائداتها.
ويتمتع شركاء أفريقيا الدوليون بسجل أسوأ فيما يتعلّق بالحالات التي تكون فيها مصالح أمنهم القومي مهدّدة، ففي إطار سعيها لمحاربة الإرهاب ووقف الهجرة، دعمت الولايات المتحدة ودول أوروبية مختلفة بشكل مستمر قوات الأمن الأفريقية في حماية امتيازاتها الخاصة أكثر من تأمين سكانها، وقدّمت الولايات المتحدة 118 مليون دولار كمساعدات عسكرية لأوغندا في سنة 2019، على الرغم من أن حكومة موسيفيني الاستبدادية تستخدم القوة بشكل متكرر ضد مواطنيها. وكانت فرنسا أكثر جرأة؛ حيث قامت بنشر جيشها في تشاد في سنتي 2008 و2019 للمساعدة في هزيمة المتمردين الذين يحاولون الإطاحة بالرئيس الديكتاتوري للبلاد، إدريس ديبي، الحليف الرئيسي لفرنسا في منطقة الساحل.
ولم تكن الولايات المتحدة والدول الأوروبية هي الجهات الممولة الوحيدة لمثل هذا التمويل، ففي سنة 2019؛ تلقت حكومة بوروندي 13 مليون دولار من الأمم المتحدة، أي ما يقرب من 20 في المئة من إجمالي ميزانيتها العسكرية، مقابل إرسال قوات حفظ سلام إلى جمهورية إفريقيا الوسطى.
ولتجنب التعزيز غير المقصود لديناميكيات الصراع ذاتها التي يسعون لمكافحتها، لا تحتاج الولايات المتحدة والدول الأوروبية والأمم المتحدة إلى الانسحاب من إفريقيا أو التخلي عن تعزيز الديمقراطية. بدلًا من ذلك؛ ينبغي أن تساعد في تقوية وتعميق الإصلاحات التي اجتاحت جميع أنحاء القارة في التسعينيات. إن القيام بذلك من شأنه أن يعزز أعظم قوة سياسية في أفريقيا: التعددية النابضة بالحياة، رغم كونها صاخبة وفوضوية. ولا يزال الطلب على الديمقراطية في أفريقيا قويًّا، ففي استطلاع تم إجراؤه؛ رفض سبعة من كل عشرة أفارقة الحكم الاستبدادي وأعربوا عن دعمهم لانتخاب قادتهم.
ومع ذلك؛ أبدت واشنطن تناقضًا في دعم الحركات الديمقراطية في إفريقيا، حيث تأرجحت بين دعم المتظاهرين في شمال إفريقيا خلال الربيع العربي وبين دعم الأنظمة الاستبدادية في تشاد وجيبوتي وغينيا الاستوائية وإثيوبيا ورواندا وأوغندا على حساب الإصلاح الديمقراطي. وعلى الرغم من التقارير الموثوقة عن حدوث تزوير في الانتخابات الرئاسية في الكونغو لسنة 2018، فإن إدارة ترامب لم تقبل فقط فوز فيليكس تشيسكيدي المفترض، بل احتفلت به، وعندما سألتُ مسؤولًا أمريكيًا كبيرًا عن ردة الفعل هذه، قال: “كانت أفضل نتيجة يمكن أن نأملها”.
من جانبها؛ حافظت فرنسا على موقف مماثل تجاه منطقة الساحل، وغالبًا ما أبدت اهتمامًا أكبر بتعزيز تحالفاتها هناك لوقف الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط أكثر من اهتمامها بتعزيز الديمقراطية. وبعد وفاة ديبي فجأة في سنة 2021، جلس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجانب نجل الرجل التشادي الراحل محمد في الجنازة، مما يدل بوضوح على دعم باريس لخلافة الأسرة الحاكمة وليس دعم الانتقال إلى الديمقراطية، وصرّح ماكرون في كلمة له أمام المشيعين أن “فرنسا لن تسمح لأي شخص بالتشكيك أو تهديد استقرار تشاد وسلامتها سواء في الحاضر أو في المستقبل”.
اتخذت إدارة بايدن نهجًا خطابيًا مختلفًا تجاه إفريقيا عن سابقتها؛ ففي أول رحلة قام بها أنتوني بلينكن إلى القارة كوزير للخارجية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2021؛ قال إن الولايات المتحدة ستركّز بشكل أكبر على الديمقراطية
لكن الموازنة بين الأمن والديمقراطية أثبتت فشلها، لا سيما أن العديد من نفس الحكومات الاستبدادية التي تدعمها الحكومات الغربية تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار تتخذ الضعف وانعدام الأمن وسيلة للحفاظ على حكمها، فهم لا يتغاضون عن الصراع فحسب بل يدعون إليه للحصول على المساعدة من المانحين الغربيين وتسهيل أعمالهم غير المشروعة. إن إرسال المزيد من المساعدات إلى هذه الحكومات لا معنى له إذا كان بإمكان النخب الحاكمة ببساطة سرقة مليارات الدولارات من الخزينة العامة. فوفقًا للأمم المتحدة؛ يتجاوز هروب رؤوس الأموال من إفريقيا المساعدات المقدّمة إلى القارة بحوالي 40 مليار دولار سنويًا؛ حيث يمكن تفسير جزء كبير منها على الأرجح من قبل النخب الفاسدة التي تبدد الأموال في الخارج.
يجب على الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين البدء بإصلاح النظام المالي الدولي الذي يسمح بمثل هذا السلوك بل ويشجع عليه، والتخلص من الملاذات الضريبية والأحكام الخاصة بالسرية المصرفية، بل يجب عليهم أيضًا الدفع باتجاه تحولات هيكلية أعمق في أفريقيا نفسها؛ فبينما زادت الأسواق الحرة من نمو النخبة الضيقة هناك، إلا أنها دفعت أيضًا الجزء الأكبر من السكان إلى حالة من عدم الاستقرار. إن تمكّن كل دولة تقريبًا من القفز من حالة الدخل المنخفض إلى المتوسط كان بفضل تدخل الدولة الكبير في صناعاتها المحلية. ولا تختلف الدول الأفريقية عن ذلك، لكنها تحتاج للتجارة مع الدول الأخرى على أساس أكثر مساواة، وليس فقط كمصادر للمواد الخام، فسوف يحتاجون إلى بناء صناعاتهم المحلية، الأمر الذي سيتطلب نقل التكنولوجيا والاستثمار في التعليم والحواجز الضريبية لحماية الشركات المحلية.
والأهم من ذلك كله، يجب على الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين التوفيق بين خطابهم حول الديمقراطية والعمل، وسيتطلب ذلك اتخاذ موقف قوي في الدفاع عن الانتخابات الحرة والحريات المدنية، وهو موقف قد يكون من الصعب الحفاظ عليه؛ حيث أصبح المسؤولون الغربيون المتشددون ينظرون بشكل متزايد إلى السياسة الأفريقية من خلال عدسة المنافسة الجيوسياسية مع الصين أو ساحة لعمليات مكافحة الإرهاب. كما سيتطلب الأمر دعمًا ماليًّا أكبر للمؤسسات الديمقراطية الأفريقية، وتشمل منظمات المجتمع المدني ولجان الانتخابات ووسائل الإعلام وهيئات التدقيق المستقلة والبرلمانات وكذلك للجامعات، التي تعتبر حاضنة للابتكار والنشاط. وتذهب الغالبية العظمى من المساعدات الخارجية الأمريكية حاليًا إلى الرعاية الصحية والمساعدات الإنسانية والتنمية الاقتصادية، ويُنفق جزء كبير منها بشكل جيد، ولكن الولايات المتحدة ـ بالنظر إلى اقتصادها ـ تُنفق ثلث ما تنفقه فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة على المساعدات الخارجية وربع ما تنفقه النرويج والسويد. بمعنى أنها يمكن أن تساعد بأكثر من ذلك بكثير.
لقد اتخذت إدارة بايدن نهجًا خطابيًا مختلفًا تجاه إفريقيا عن سابقتها؛ ففي أول رحلة قام بها أنتوني بلينكن إلى القارة كوزير للخارجية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2021؛ قال إن الولايات المتحدة ستركّز بشكل أكبر على الديمقراطية. ومن جهتها اقترحت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين التخلص من الملاذات الضريبية من خلال فرض حد أدنى عالمي من الضرائب على الشركات، كما وعد ماكرون أيضًا بتحسين علاقة فرنسا بالقارة، بما في ذلك من خلال إنشاء مؤسسة لدعم الديمقراطية وإعادة الفن الأفريقي الموجود حاليًا في المتاحف الفرنسية، لكن من غير المرجح أن تغير مثل هذه التغييرات الشكلية نمط الصراع الذي ترسخت جذوره في إفريقيا على مدى العقود الثلاثة الماضية.
المصدر: فورين أفيرز