في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، مباشرة إثر انتخاب قيس سعيّد رئيسًا لتونس، قلنا إنه من الصعب التنبؤ بملامح السياسة الخارجية التي سيعتمدها رئيس تونس الجديد، فلا تاريخ للرجل في ميدان العلاقات الدبلوماسية، ولا ملامح واضحة للدبلوماسية في برنامجه الانتخابي.
ظننا أن سياسة سعيّد الخارجية ستتضح شيئًا فشيئًا، لكن مرّت أكثر من سنتَين ونصف دون أن نعلم أي تفصيل فيما يخصّ الدبلوماسية التي يعتمدها الرئيس، ففي كل مرة يفاجئنا بالانضمام إلى حلف وذمّ آخر.
ويفسِّرُ هذا الارتباكَ الكبيرَ الذي ظهر جليًّا في مسألة التعيينات والإقالات في السلك الدبلوماسي، حتى أن سفير تونس في الأمم المتحدة تغيّر أكثر من مرة في عهد سعيّد، رغم أن تونس اُنتخبت لمدة سنتَين (2020-2022) لشغل مقعد بمجلس الأمن الدولي، كعضو غير دائم، وهو ما يفرض الاستمرارية.
تدعّمَ هذا الارتباك أكثر منذ انقلاب سعيّد على الدستور ومؤسسات الدولة الشرعية، إذ لم يعرف أين يوجّه بوصلة دبلوماسيته، توجّه نحو دول الخليج فرجع خائبًا، توجّه نحو مصر فعادَ بخُفّي حنين، أراد مغازلة الجزائر فلم يجنِ إلا دنانير قليلة ودعمًا محدودًا، سعى لطمأنة الغرب لكن الأبواب شبه موصدة.
التقرُّب إلى الغرب
أراد نظام قيس سعيّد استغلال الحرب الروسية الأوكرانية للتقرُّب إلى الغرب، رغم أنه في البداية اختار عدم الاصطفاف مع أي محور وعدم إعلان موقف واضح من الحرب، ذلك أن مصالحه مع الطرفَين ولا يريد خسارة أي واحد منهما، فإعلان موقف واضح من الأزمة يعني خسارة أحد الطرفَين، وهو ما لا يخدم مصالحه.
بعد ذلك، صوّتت تونس لصالح قرار أممي ينتقد الحرب الروسية على أوكرانيا، ويطالب موسكو بـ”السحب الفوري وغير المشروط لجميع القوات العسكرية”، أي أنها أقرّت بأن ما يحصل في أوكرانيا عدوان وغزو عسكري روسي.
لم يكتفِ نظام سعيّد بذلك، إذ شارك وزير الدفاع التونسي عماد مميش، مطلع الأسبوع الحالي، في اجتماع نظّمته وزارة الدفاع الأمريكية حول الحرب في أوكرانيا، ودعت إليه 43 دولة، وجاءت مشاركة تونس باعتبارها شريكًا مميّزًا غير عضو بحلف شمال الأطلسي، بحسب بلاغ لوزارة الدفاع التونسية.
ليس واضحًا متى تتمّ هذه الزيارة ومدى جدّية السفير التونسي، لكن من الواضح أن نظام قيس سعيّد أراد بعث رسالة إلى الغرب بأنه منفتح على كل التحالفات
رغم وجود وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس في هذا الاجتماع، لم تجد تونس حرجًا في المشاركة أيضًا، فالتقرُّب إلى الغرب أهم عند سعيّد من الوقوف على المبدأ وعدم التطبيع، مع أنه هو صاحب المقولة المشهورة “التطبيع خيانة”.
أراد سعيّد استغلال الأزمة الأوكرانية لتأكيد تابعيته للغرب وعدم خروج نظامه عن المألوف، وذلك سعيًا منه لفكّ العزلة المفروضة عليه منذ انقلابه على دستور البلاد ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي، وجمع كل السلطات تحت تصرُّفه.
ويذهب ظنّ سعيّد والمحيطين به أن الوقوف في صف الغرب في الأزمة الروسية الأوكرانية من شأنه أن يُعجّل بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتسلُّمهم دفعة من قرض ترجو تونس الحصول عليه لسدّ العجز الكبير في موازنة الدولة للسنة الحالية.
لا أستغرب إن أعلن #قيس_سعيد نيته في اقامة حوار بين روسيا والغرب لإصلاح الأزمة ?
فهذا شغله الشاغل بدل معالجة الاقتصاد والأوضاع المعيشية المتردية في البلاد ?♂️ https://t.co/1cxP3XPoHI
— الرادار التونسي ???? (@tunisian_rd) April 28, 2022
أبدت عدة دول غربية قلقها من تمشي سعيد وسعيّه نحو فرض نظام الحكم الواحد في تونس، والذي ظهر جليًّا في حلّ البرلمان وعدة هيئات دستورية، وآخرها هيئة الانتخابات فضلًا عن ملاحقة النواب وصحفيين ومحامين ونشطاء في المجتمع المدني، وإحالتهم على القضاء العسكري والمدني وفق قانون الإرهاب.
وكثيرًا ما انتقدَ الغرب من خلال الدول السبع الكبار بشكل جماعي سياسة سعيّد في مجال الحريات والتراجع عن الخيار الديمقراطي، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تخفيض مساعداتها لتونس، ودفع عدة بنوك دولية إلى وقف تعاونها مع هذا البلد العربي.
تعديل البوصلة نحو روسيا
الهدف الأبرز من تقرُّب سعيّد إلى الغرب هو فكّ العزلة عنه والتسريع في مفاوضات صندوق النقد الدولي، لكن ذلك يبدو أمرًا صعبًا، فالمفاوضات على حالها، والموقف الغربي ممّا يحصل في تونس زاد حدّة، ونفهم ذلك من موقف واشنطن.
وفي إفادة أمام لجنة برلمانية لمناقشة ميزانية وزير الخارجية لسنة 2023، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إن تونس كانت من بين قصص النجاح في المنطقة التي قمنا بدعمها، ونؤكد اليوم قلقنا من حلّ البرلمان في خطوة أحادية.
وأوضح بلينكن أن “المشاركة الضعيفة للتونسيين في الاستشارة الإلكترونية لا تعكس بشكل واضح مسارًا شاملًا للإصلاح”، مؤكدًا دعمهم “عملية إصلاح شاملة وشفافة تضمّ الأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع المدني”.
يُفهم من هنا أن الولايات المتحدة غير راضية عمّا يجري في تونس، وأن مساعي سعيّد باءت بالفشل، لذلك سارعَ سفير نظامه في موسكو إلى الإعلان عن زيارة مرتقبة لسعيّد إلى روسيا، حيث قال في تصريح لوكالة “سبوتنيك” الروسية أمس الخميس، إن “البعثة الدبلوماسية بالسفارة التونسية تعمل على تنظيم زيارة للرئيس التونسي قيس سعيّد لروسيا في أقرب وقت ممكن”.
يظهر تأرجح الدبلوماسية التونسية وعدم وقوفها على موقف واحد في علاقتها مع مصر
رجّح السفير التونسي أن هذه الزيارة من المحتمل أن تتمَّ بمناسبة مشاركة مرتقبة لرائدة فضاء تونسية في مهمة فضائية ستنطلق من روسيا إلى محطة الفضاء الدولية، على حدّ قوله، حيث يذكر أنه في 13 أغسطس/ آب الماضي وقّع مجمع “تلنات” التونسي الخاص اتفاقًا مع وكالة الفضاء الروسية، لاختيار وتدريب رائدة فضاء تونسية وإرسالها إلى المحطة الروسية الدولية “آي إس إس” أواخر عام 2022 أو بداية عام 2023.
ليس واضحًا متى تتمّ هذه الزيارة ومدى جدّية السفير التونسي، لكن من الواضح أن نظام قيس سعيّد أراد بعث رسالة إلى الغرب بأنه منفتح على كل التحالفات، ولا يضيره شيء إن عدّل البوصلة وتوجّه نحو روسيا ودول أخرى معادية للغرب.
يُفهم هذا أيضًا من هجوم سعيّد الأخير على الغرب، إذ قال خلال إشرافه على مأدبة إفطار بحضور عائلات شهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية من القوات المسلحة العسكرية والأمنية، وعدد من عائلات شهداء الثورة وجرحاها، موجّهًا كلامه نحو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين أعربا عن قلقهما ممّا يحصل في تونس: ”ثم لماذا يأتينا البعض من الخارج يُعرب عن انزعاجه؟ هل أعربنا نحن عن انزعاجنا من اختياراتهم”.
“تيه” الدبلوماسية التونسية
يظهر من هنا أن نظام سعيّد لا يعرف أين يوجّه بوصلة دبلوماسيته، هل يوجّهها نحو الغرب الذي يندّد بانقلابه الدستوري ويربط عودة المساعدات بعودة المسار الديمقراطي في البلاد، أم نحو روسيا التي تعاني جرّاء غزوها أوكرانيا وعدم تمكّنها للآن من تحقيق أي نتائج تُذكر؟
“تيه” الدبلوماسية التونسية في عهد قيس سعيّد لا يظهر هنا فقط، إذ يظهر جليًّا في تعامل الدولة التونسية مع الأزمة الليبية، فمرة نجدُ نظام سعيّد يدعم رئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا، وذلك من خلال السماح له بالعمل من تونس، ومرة نجده في صف رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة.
سؤال مبني للمجهول: هل يمكن أن يزور #قيس_سعيد يوما روسيا؟ إذا حصل الأمر، ربّما نكون تخلّصنا فعلا من هيمنة أمريكا اللعينة وتوابعها وطبعا نتحمّل فاتورة هذه الزّيارة. شخصيّا أتمنّى ذلك، وأعرف أنّ الأماني لا علاقة لها بواقع السياسة والاصطفافات السّخيفة. الصين وروسيا تتعاظم قوّتهما معا
— Bouslimi Maha???? (@BouslimiMahouta) April 28, 2022
استقبلت تونس في مناسبة أولى فتحي باشاغا وسمحت له بتسيير حكومته من بلادها، ثم دعته للمغادرة فورًا، وفي مناسبة ثانية أعربت عن قبولها بزيارة الدبيبة قبل أن تلغيها، رغم أن البلاد في أمسّ الحاجة إلى التعاون مع ليبيا في هذا الظرف.
يظهر تأرجُح الدبلوماسية التونسية وعدم وقوفها على موقف واحد في علاقتها مع مصر أيضًا، ففي أكثر من مرة أكّد سعيّد ووزراؤه أن التجربة المصرية ملهمة لهم ويسعون لتطبيقها في تونس، وأنهم يشاركون مصر في جميع مواقفها الدبلوماسية، لكن في مقابل ذلك يتقرّب سعيد إلى النظام الجزائري الذي يختلف كليًّا مع النظام المصري في عدة مسائل خارجية، على غرار ما يحدث في ليبيا وإثيوبيا.
يثبت هذا الأمر حالة الفوضى والارتباك التي ميّزت عمل الدبلوماسية التونسية منذ تسلُّم قيس سعيّد مقاليد حكم قصر قرطاج، فسعيّد لم يتمكن من إثبات وجوده بالكامل على الجبهة الدبلوماسية، ما جعل الدبلوماسية التونسية في أحلك حالاتها منذ الاستقلال وبداية بناء الدولة الوطنية.