السماقية
“حاذق حار” هو مذاق طبق السماقية الذي يزيّن المائدة الغزاوية أيام عيد الفطر، فهي أكلة شعبية توارثتها الأمهات عن الجدّات، ويحاولن تعليمها للفتيات الصغيرات ليحفظن عادة يقبل عليها الصغير قبل الكبير.
ورغم أن مكوّناتها ثابتة ولم يطرأ عليها أي تعديل منذ عشرات السنين، إلا أن كل سيدة غزاوية تصنعها بطريقتها المميزة، وتتفنّن في طريقة تقديمها مع الخبز البيتي والمخللات الشهية، التي تُصنع في البيت أيضًا.
وقبل حرب 1948 كانت الأسرة الفلسطينية شبه مكتفية ذاتيًّا بالنسبة إلى الغذاء، كون جميع المستلزمات الأساسية كانت موجودة على مدار السنة لديهم، ولأن لكل مدينة من المدن طابعها الخاص، تعدّ الأكلات الشعبية تراثًا ما زال يتمسّك به أهل فلسطين.
وقد ذُكرت السماقية بوصفها أشهر الأكلات الغزّية منذ القدم في كتاب الشيخ محمد بن الحسن البغدادي المسمّى بـ”الطبيخ” عام 1225، ويعود السبب الرئيسي لتسميتها إلى اعتبار أن أهمَّ مكوّن فيها هو السماق، الذي يُمزَج مع المذاق الحار للفلفل الأخضر.
أما عن طريقة صنع السماقية الغزاوية التي ذاع صيتها خارج البلاد وبات يطلبها كل من تذوقها، بداية يُسلق اللحم بإضافة قليل من الماء إليه، ويُنقع السماق قبل يوم ثم يُطحن بمفراك خشب ليصفّى ويذوّب بقليل من الطحين، ثم يُضاف إلى اللحم ونبات السلق المفروم، ويوضع له دقة “كمون – عين جرادة – فلفل”، ويُترك حتى يجمد ويتماسك قليلًا، ويوضع بـ”السكرجة أو الهون”، ويُترك حتى يبرد، وبعد ذلك يتجمّع أفراد العائلة لتناول الطعام.
ولا يقتصر طيها في الأعياد فقط، بل هي صاحبة الأفراح والأتراح كما يصفونها، كونها تصنع وقت العزاء أو وقت الأفراح، لا سيما حفلة العريس التي تسبق فرحه، ويشتهر بها أهل غزة لأنها لا تحتاج إلى ثلاجة فتريح المرأة، لذلك سمّيت “الطبخة الكسلانة” حيث يكمن حفظها أيامًا.
أما خبراء التغذية يقولون إنها أكلة بسيطة في مركّباتها لكنها عظيمة في فائدتها ومذاقها، لاحتوائها على البروتينات الحيوانية من اللحم الذي يدخل في تركيبتها، والبروتينات النباتية والمأخوذة من الحمّص الذي تحتويه هذه الأكلة، أما نبات السلق الذي يدخل في مكوّناتها له فوائد كبيرة للجسم، لاحتوائه على الفيتامينات التي تمدّ الجسم بمضادات الأكسدة.
طقوس إعداد السماقية
عادة في اليوم الأخير من شهر رمضان، تقوم أم لؤي ضاهر (67 عامًا) بتجهيز أكثر من 30 طبقًا منها، بمساعدة زوجات أبنائها الثلاث.
ورغم انتشار الكثير من الفيديوهات التي تساعد على صنعها، إلا أن الغزيات يحرصن على أن تقوم السيدات كبار السن بطهيها، لاعتقادهن أن في أيديهن البركة، كما تقول أم لؤي لـ”نون بوست”.
وتذكر أنها كانت تشاهد أمها برفقة الجارات يجهّزن لأكلة السماقية، حيث يتشاركن في تقطيع السلق والبصل، وغسل اللحمة ونقع السماق، لا سيما في الأعياد والأفراح، لذا تتعمّد إعادة تلك الطقوس في كل مرة تطهو فيها السماقية برفقة بناتها أو زوجات أبنائها.
كما تحرص على تزيين طبق السماقية بزيت الزيتون، وتقديمه مع المخللات التي تجهّزها قبل شهر رمضان، مبيّنة أنها في صبيحة العيد وبعد الصلاة مباشرة تصنع أكثر من 100 رغيف من الخبز البلدي الطازج، لتوزّعه مع أطباق السماقية إلى الجيران والأقارب.
وتحكي أنها حين تزوجت لم تكن عائلة زوجها المهجّرة من قرية المحرقة تعرف طبق السماقية الغني بالبروتينات، فبدأت تعدّه لهم وقت المناسبات، حتى تعلمته السيدات اللواتي أصبحن يتنافسن معها لصناعة الطبق الأشهى.
وتشبه طقوس أم لؤي في صناعة السماقية السيدات الغزيات وهنّ يجهزن لهذا الطبق السهل الصعب كما يوصف، لكن من يعيش خارج البلاد يبقى طيلة الوقت يرغب بأي أكلة تذكّره بوالدته وحياته قبل الغربة، كحال والد أمينة صادق (25 عامًا).
منذ أن أتقنت أمينة صناعة السماقية، لم تترك مناسبة إلا ويكون الطبق الشعبي يزيّن المائدة، لدرجة أنها دعت صديقاتها الأجنبيات والعربيات حتى أعجبن فيه، وكذلك عائلة زوجها الكويتية
حكاية أمينة مع صناعة السماقية مختلفة، فهي لأمّ ألمانية وأب غزاوي يعيشون في مدينة هال البريطانية منذ ولادتها، ودومًا يحاول والدها تعليمها وشقيقتها الأطباق الفلسطينية وتحديدًا الشعبية، كما تقول.
تحكي لـ”نون بوست” أن والدتها تعلمت القليل من الأكلات الغزاوية من جدّتها، مشيرة إلى أن والدها دومًا يشتهي السماقية، خاصة في الأعياد، وحاولَ كثيرًا البحث عن السلق، وهو مكوّن أساسي للطبخة حتى وجده قبل 3 سنوات، ومن لحظتها لم يترك مناسبة إلا ويطلب منها طبخها، خاصة في عيدَي الفطر والأضحى.
تقول أمينة: “لم أتذوق السماقية في حياتي لأشعر بلهفة والدي لها (..) تواصلت مع عمتي التي تسكن غزة وعلمتني الطريقة وبقيت معي على الهاتف خطوة بخطوة، حتى تمكّنت من إعدادها بطريقة جدتي كما وصف والدي حين تذوقها”.
وتابعت: “صنعت كمية كبيرة في العيد، وكل من يأتي لزيارة والدي، خاصة أصدقائه الغزاويين، يفاجئهم بوضع صحن السماقية أمامه والفلفل الأخضر الحار، وسرعان ما يستذكرون أمهاتهم ويضحكون”.
ومنذ أن أتقنت أمينة صناعة السماقية، لم تترك مناسبة إلا ويكون الطبق الشعبي يزين المائدة، لدرجة أنها عزمت صديقاتها الأجنبيات والعربيات حتى أعجبن فيه، وكذلك عائلة زوجها الكويتية.
مقادير بـ”كفة اليد”
ولقلّة كتب الطبخ التي يدوَّن فيها طريقة عمل الأكلات الشعبية، تتفرّد الشيف علا الحاج بعمل فيديوهات توضيحية تنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتعليم ربّات البيوت الصغيرات الأطباق التراثية كما الغربية.
تقول الحاج لـ”نون بوست” إن أكلة السماقية لا يعرفها أحد من مدن وقرى فلسطين ما عدا الغزازوة، واصفة من ابتكرها بـ”العبقري” لمزجه المكوّنات مع بعضها، وصناعة طبق شهي يقبل عليه الجميع.
وتضيف: “بعد نكبة 1948 ووصول اللاجئين من قراهم في الداخل المحتل إلى قطاع غزة، تعلّمت نسائهم إعداد السماقية من الغزاويات، حتى باتت حاضرة في جميع مناسباتهم، خاصة الأفراح”.
وتذكر الحاج أنها تعلمت هذه الأكلة الشعبية من والدتها لكن دون معايير، موضّحة أن كبار السن مقاديرهم “عالبركة”، فمثلًا كانت تقول لها والدتها ضعي “بالكفّ” سماق، فبدأت تقدّر بالميزان حتى خرجت بوصفة يمكن لأي سيدة أن تتقنها دون أن تفسد.
رغم تنوع الأكلات الشعبية وإدخال الأطباق الحديثة التي باتت يتقنّها الغزاويات، إلا أن السماقية تبقى سيدة المائدة الغزاوية في الأعياد
وأشارت إلى أنه في السابق كانت السيدات من كبار السن وحدهن من يصنعن طبق السماقية بمساعدة بناتهن، لكن اليوم هناك إقبال من الصغيرات على إعداد السماقية لأسباب كثيرة يتشاركنها من الجدات والأمهات، حيث إنهن في الأعياد يتفرغن لاستقبال الضيوف والزيارات، وهذا الطبق يمكن أكله باردًا ويبقى لعدة أيام.
وتشترك الشيف الحاج ضمن مجموعة لطباخين من الوطن العربي، لتبادُل الأطباق العربية خاصة التراثية التي تميّز كل بلد، وحين جاء دورها لعرض طبقها اختارت السماقية التي استغربوا من مكوّناتها البسيطة ذات المذاق الطيب، كما وصفوا لها بعد تطبيقها.
وتوضِّح أنها تركز في وصفاتها على إحياء الأكلات التراثية، خاصة أن الجيل الجديد يُقبل على طهي كل ما هو سهل وحديث.
وتطرّقت خلال حديثها إلى أن كثيرًا من الغزازوة المقيمين في دول أوروبية يتواصلون معها لمساعدتهم في إيجاد بدائل غير متوفرة لديهم، كنبتة السلق الأساسية في السماقية، فمثلًا يتساءلون هل يمكن وضع السبانخ، فتساعدهم حتى ينجزون أطباقهم الشعبية التي يشتهون في مناسبات طهيها.
ورغم تنوع الأكلات الشعبية وإدخال الأطباق الحديثة التي باتت يتقنّها الغزاويات، إلا أن السماقية تبقى سيدة المائدة الغزاوية في الأعياد، فمن تذوقها مرة واحد يبقى طعمها في فمه حتى يكرر التجربة.