تمثل الجالية التركية في كوسوفو واحدة من التجارب الناجحة في معدلات الاندماج بشكل غير مسبوق، فمن الصعب التفرقة بين أتراك كوسوفو وألبانها، حيث تصل نسبة التشابه في كثير من المجالات حدّ التطابق (كاتب النشيد الوطني التركي، الشاعر محمد عاكف إرصوي، من أصول كوسوفية)، وهو ما يمنح أتراك هذا البلد خصوصية تميّزهم عن غيرهم في بلدان أوروبا وآسيا على حد سواء.
وتمتدّ جذور العلاقة بين الأتراك والألبان إلى القرن الخامس عشر، حين خضعت منطقة البلقان بأكملها للفتوحات العثمانية، فيما شهدت تلك العلاقة موجات متلاطمة من المدّ والجزر، دفعت الجالية التركية في كوسوفو ثمنها في ظل التقاطعات والخلافات السياسية التي تنشب كل حين وآخر بين أنقرة وبريشتينا.
البعض يتعامل مع الألبان على أنهم فصيل واحد، سواء كانت جذورهم تركية أو غير ذلك، وهي المعضلة التي بدأت تثير نعرات وخلافات في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد توتير الأجواء بين البلدَين عام 2018، على خلفية اعتراض رئيس حكومة كوسوفو على تسليم أتراك على صلة بمدارس تموّلها حركة “غولن”، لكنها التوترات التي سرعان ما تتلاشى أمام الانصهار الاجتماعي والإنساني بين الأتراك والألبان، سواء داخل كوسوفو أو في الداخل التركي.
ورغم وجود أكثر من 250 ألف شخص يتحدثون اللغة التركية في كوسوفو، بحسب البحث الذي أجرته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) تحت إشراف الأمم المتحدة، إلا أنه لا يوجد إحصاء رسمي لعدد الأتراك في كوسوفو، وإن كانت بعض التقديرات تذهب إلى أن هناك قرابة 30 ألف تركي، وهو الرقم الذي انخفض كثيرًا عمّا كان عليه في السابق قبل موجات الهجرة.
خلفية تاريخية
كانت البلقان بوابة العثمانيين الكبرى للتوغُّل داخل القارة الأوروبية، فبعد عشرات المعارك التي خاضتها الدولة حينها في آسيا وأفريقيا، كان التوجُّه صوب الشرق، وفي عهد مراد الأول (726-791هـ) الذي تولى الحكم سنة 1360، فُتحت مدينة أدرنة عام 1361 ليتخذها عاصمة له بدلًا من بورصة، وكانت الطريق المؤدية نحو القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ثم مركز القيادة العامة للدولة العثمانية في أوروبا، ومنها كان التوجه نحو البلقان وفتح حصونها.
خلال الحكم العثماني امتزجت الخارطة الديموغرافية الألبانية والتركية، ففتحت الدولة العثمانية أبوابها أمام الألبان لتقلُّد المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، وكان لهم دور في إثراء البُعد الثقافي للإمبراطورية المسلمة وقتها، فيما دخل العديد من الألبان في زمرة الإسلام لما لاقوه من معاملة حسنة وحضارة راقية.
ومع اشتعال حروب البلقان (1912-1913) وتحالف الدول الأوروبية تحت راية الصليب لمواجهة الدولة العثمانية، هاجرَ أعداد كبيرة من مسلمي ألبانيا إلى المدن التركية، لا سيما تراقيا والأناضول، وباتت لهم مراكز حضرية ذات أغلبية ألبانية مثل كاراكابي وإدرميت وديجيرميندير وكارامورسل وكيرماستي وبورصة.
كان الشارع الكوسوفي ينظر إلى بلاده على أنها جزء من تركيا، فيما كان الأتراك في كوسوفو يتمتّعون بحضور واندماج وقبول غير مسبوق لدى الشعب الكوسوفي
وظلت موجات الهجرة باتجاه تركيا تتصاعد حتى سبعينيات القرن الماضي، تعاظمت تلك الموجات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتشير التقديرات إلى أنه بين عامَي 1952 و1967 هاجرَ حوالي 175 ألف مسلم من يوغوسلافيا إلى الأراضي التركية، بينما بلغ إجمالي ذوي الأصول الألبانية في تركيا الـ 5-6 ملايين نسمة، ما تسبّب في زيادة أعباء الدولة نظرًا إلى كلفة الإقامة العالية.
ومنذ اندلاع المواجهات بين صربيا وكوسوفو عام 1990 كانت أنقرة داعمة وبقوة لكوسوفو، حيث اشتركت بقواتها إلى جانب بعثة الأمم المتحدة أواخر عام 1999، فيما كانت تركيا واحدة من أوائل الدول التي اعترفت بكوسوفو بعد إعلان استقلالها عن صربيا في 7 فبراير/شباط 2008.
وفي زيارته الرسمية لبريشتينا في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على علاقات بلاده الوثيقة مع كوسوفو، حين قال في خطابه: “ننتمي جميعًا إلى تاريخ مشترك وثقافة مشتركة وحضارة مشتركة؛ نحن شعب إخوة هذا الهيكل. لا تنسوا أن تركيا هي كوسوفو وكوسوفو هي تركيا!”.
في تلك الأثناء كان الشارع الكوسوفي ينظر إلى بلاده على أنها جزء من تركيا، فيما كان الأتراك في كوسوفو يتمتّعون بحضور واندماج وقبول غير مسبوق لدى الشعب الكوسوفي، وتعاظم هذا الانصهار بالامتزاج الاجتماعي والعائلي بين ألبان كوسوفو وأتراكها، وهو ما عبّر عنه أكثر من سياسي تركي بأن الشعبَين شعب واحد وإن تباينت الجنسية.
توتر نسبي
دخلت العلاقات بين البلدَين منحنى آخر من التوتر بدايات 2010، حين أعربت الحكومة التركية عن استنكارها لبعض المحتوى الداخل ضمن المناهج الدراسية في المدارس الكوسوفية، والخاص بالفترة التي حكم فيها العثمانيون البلقان، حيث طالبت أنقرة بإزالة أو تغيير هذا المحتوى الذي اعتبرته يضمّ مواد مسيئة، وبعد سجال مستمر استجابت بريشتينا واستخدمت لغة أكثر حيادية ممّا كانت عليه.
تجدّد التوتر مرة أخرى في 29 مارس/ آذار 2018، حين ألقت السلطات الكوسوفية القبض على 6 أتراك بناء على طلب رسمي من أنقرة، بشأن صلاتهم مع مدارس تموّلها جماعة غولن، وبالفعل تمَّ ترحيل المعتقلين إلى تركيا، ما أغضب رئيس الوزراء حينها راموش هاراديناي، الذي أقال على الفور وزير داخليته وجهاز مخابراته بسبب عدم إبلاغه بهذه الخطوة.
وتصاعدت الأمور اكثر مع اتّهام الرئيس التركي، في 2 أبريل/ نيسان، رئيس وزراء كوسوفو بأنه يأوي الإرهابيين في إشارة إلى أنصار غولن، مؤكدًا أن تلك العملية -في إشارة إلى القبض على المتورّطين- لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، ما أثار حفيظة الحكومة الكوسوفية وقلق الجالية التركية، التي شعرت بالخوف من تداعيات هذا التوتر على أوضاعها الداخلية.
ومع انتخاب فيوسا عثماني رئيسةً للبلاد في أبريل/ نيسان 2021، حاول الرئيس التركي تنقية الأجواء بين البلدَين عبر اتصال هاتفي أجراه معها هنّأها فيه على نجاحها، مؤكدًا على العلاقات الثنائية القوية بين تركيا وكوسوفو، منوّهًا أن “الأقلية التركية جزء لا يتجزّأ من التركيبة متعددة الثقافات في كوسوفو، لافتًا إلى دورها البنّاء في العملية الانتخابية لرئاسة الجمهورية وتأسيس الحكومة الجديدة”.
وفي أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2021 أجرى وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، زيارة مكوكية إلى كل من البوسنة والهرسك وكوسوفو، مؤكدًا على التعاون الوثيق بين تلك البلدان، في محاولة لطمأنة الأتراك المتواجدين هناك في المقام الأول، وإضفاء مناخ من التفاؤل بشأن مستقبل العلاقات التي تمثّل عامل قلق وترقُّب لدى الأتراك في كوسوفو تحديدًا.
خارطة توزيع شاملة
ينتشر الأتراك في مدن كوسوفو بشكل كبير، فلا تكاد تخلو منطقة دون وجود أتراك، وإن كانت خارطة تمركزهم الأكثر كثافة تتمحور في 9 مناطق أساسية (بريزرين وماموشا وبريشتينا وجيلان ودوبورتشان ويانوفا وفيترين وميتروفيتشا وإيبيك)، بعض تلك المناطق ذات صبغة تركية خالصة مثل بريزرين وماموشا وجيلان وميتروفيتشا وبريشتينا وفيتشيتيرين.
وتتصدر مدينة بريزرن التاريخية قائمة المدن الأكثر كثافة من حيث الجنسية التركية، فيها أكثر من 35 ألف شخص يتحدث اللغة التركية، ولا توجد إحصاءات رسمية تشير إلى عدد ذوي الأصول التركية بشكل محدد، غير أن السمة الأبرز للمدينة بشتى مظاهرها لا تختلف عن الوضع في إزمير أو إسطنبول.
وعلى أطراف بريزرن يوجد قرابة 15 قرية ضمن دائرة نصف قطرها 10 كيلومترات من المدينة، أبرزها جورا وجوبا، يقطنها أغلبية تركية، ينتمون إلى العرق السلافي أو الألباني، هذا بخلاف تطابق الزخارف والمنقوشات والتقاليد الاجتماعية مع عادات العثمانيين القدماء، وهو ما يدفع البعض إلى الاعتقاد أن تلك القرى كانت تركية في أصولها التاريخية.
وفي نهاية العام الماضي اختار وزير الدفاع التركي مدينة ماموشا الكوسوفية لزيارتها ضمن جولته التي شملت البوسنة والهرسك كذلك، حيث قوبل بحفاوة بالغة من قبل أتراك المدينة، ثم التقى سكانها وتبادل معهم أطراف الحديث، واستمع إلى شكواهم التي تعهّد بحلّها مع استمرار دعم حكومة بلاده للجالية.
ويوجد في كوسوفو حزبان تركيان رئيسيان، حزب كوسوفو الديمقراطي وحزب اتحاد كوسوفو، ولديهما قاعدة شعبية تترواح بين 30 و35 ألف نسمة، وفق الإحصاءات شبه الرسمية الخاصة بنِسَب التمثيل في الانتخابات العامة والمحلية، غير أن التنافس بين الحزبَين أفقدهما كثيرًا من نفوذهما بعدما تشتّت أصوات الأتراك بينهما، في ظل تباين التوجُّهات السياسية التي كانت محل خلاف بين أبناء الجالية.
بين مطرقة السياسة وسندان الاندماج
يتخوف كثير من الأتراك من تداعيات التوتر السياسي بين أنقرة وبريشتينا، والذي ينعكس عليهم بشكل أو بآخر، هذا بخلاف معاناة البعض من نزعات الانتقام والإقصاء سواء من الداخل الكوسوفي أو من قبل السلطات التركية، التي تستهدف الموالين لجماعة غولن خارج حدودها.
ويخيّم القلق على قطاع كبير من الأتراك خشية سقوطهم في مستنقع الاستهداف والوشاية، وذلك منذ عام 2018 وفي خضمّ التوتر بسبب ترحيل الأتراك الستة، الأمر الذي دفع البعض إلى إعادة تموضعه الميداني والتنقل بين المدن الكوسوفية، رغم تطمينات الحكومة التركية بين الحين والآخر.
وانعكست حالة القلق تلك على الميول السياسية للأتراك داخل كوسوفو، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال تباين معدلات التصويت للأحزاب التركية داخل البلاد، ما دفع الكاتب والمحلل التركي إيهان دمير إلى التحذير من تلك الوضعية التي تهدد واقع ومستقبل الجالية التركية.
وتحت عنوان “لا تقسموا أتراك كوسوفو“، طالب دمير بضرورة احتواء كافة الأتراك المتواجدين في الخارج بشتى انتماءاتهم السياسية وأيديولوجياتهم الثقافية، وأن يكونوا قوة واحدة وصوتًا واحدًا ليدافعوا عن مصالحهم ويعززوا ارتباطهم بوطنهم الأمّ، وهو ما يجب أن يكون عليه وضع كافة الجاليات التركية في شتى دول العالم.
الترقب هو الحالة الأبرز بين مطرقة السياسة وحساباتها المعقدة وسندان الارتباط القوي بالديموغرافية الكوسوفية، التي بات من الصعب التخلي عنها تحت أي ظرف
وأوضح الكاتب التركي أن حالة الشتات التي عليها أتراك كوسوفا ستعزز من حالة الانعزالية والتهميش، ما سيكون له تأثيره السلبي على عشرات الآلاف من المتواجدين في كوسوفو، وتابع: “تركيا دولة ليس لديها مواطنين فحسب بل أمة أيضًا، قد تكون هناك خلافات في الرأي بين أفراد أمّتنا، لكن يجب أن تكون فكرتنا الرئيسية دائمًا هي تركيا، لا يمكننا تجاهل أولئك الذين تحتلّ تركيا كل اهتمامهم ومعتقدهم”.
ويختتم دمير مقاله بأن الكثير من أتراك كوسوفو المختلفين نسبيًّا مع الحكومة الحالية، كانوا من أوائل من تصدّوا لمحاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، وذلك يعني ارتباطهم الواضح بالدولة ومصالحها العليا، ومن ثم يجب أن يُفتح الباب أمام هؤلاء واحتواءهم وطمأنتهم وتفويت الفرصة على المتربصين بالدولة التركية، مضيفًا: “بإغضابك أصدقائك فأنت تسعد أعداءك”.
في المجمل، ورغم التاريخ الطويل والانصهار المجتمعي الهائل لأتراك كوسوفو، في ظلّ تباين هوياتهم وخلفياتهم، يبقى القلق مستمرًّا والترقب هو الحالة الأبرز بين مطرقة السياسة وحساباتها المعقدة وسندان الارتباط القوي بالديموغرافية الكوسوفية، التي بات من الصعب التخلي عنها تحت أي ظرف.