مع انطلاق العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية في فبراير/ شباط الماضي، هرع جمع من المحللين والكتّاب إلى ترويج سيناريو الحرب العالمية الثالثة التي ستندفع فيها أطراف الصراع إلى الخيار النووي.
حجم العمليات العسكرية الروسية، التي تعدّ الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وما اقترن بها من حرب كلامية وتصريحات شديدة اللهجة، لا سيما من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جعلت رواية الحرب التراجيدية طرحًا ذا رواج.
بعد أكثر من شهرَين من الصراع، تبدو الأمور -رغم حجم الدمار- أقل دراماتيكية ممّا روِّج له، فروسيا لا تزال مقتصرة على أسلحة الحرب التكتيكية، على غرار المدرّعات والطائرات والقطع البحرية، وهناك حذر جليّ لدى موسكو من الاندفاع نحو استخدام الأسلحة الاستراتيجية (أسلحة الدمار الشامل والأسلحة طويلة المدى)، باستثناء استخدام الصواريخ الباليستية في بعض المناسبات.
من جهته، حرص حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على دعم القوات الأوكرانية بصورة تحفظ ميزان التهديد وفق المعطيات الحالية، وبما يحول دون الانجراف نحو صدام مسلّح مع النظير الروسي.
حيث رفض الحلف طلب أوكرانيا غلق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية، وترددت تركيا -العضو في الحلف- كثيرًا قبل تفعيل اتفاقية مونترو وإغلاق مضائقها، رغم محدودية تأثيرها العسكري بسبب وجود قطع بحرية روسية في البحر الأسود.
العقلانية التي تتحرك بها أطراف الصراع المختلفة، تفتح المجال لإعادة تقييم المشهد ضمن سياق أوسع بعيدًا عن التحليلات الانطباعية، وذلك من خلال التحليل في محورَين رئيسيَّين، يتمثّل الأول في دراسة الطبيعة البنيوية للحروب في النظام الدولي، ويتطرق المحور الثاني إلى تفنيد الحسابات الاستراتيجية المرتبطة باستخدام الأسلحة النووية، وذلك من زاوية النظرية الواقعية الجديدة (Neo-Realism/ Structural Realism) في العلاقات الدولية.
لماذا تتحارب الدول؟
كان هذا السؤال الدافع وراء تأسيس علم العلاقات الدولية في جامعة ويلز عام 1919، وخلال أكثر من قرن انقسمت آراء المنظّرين على عدة مستويات، فذهب أساتذة الواقعية الكلاسيكية إلى تفسير الحرب باعتبارها تجليًا لطبيعة النفس البشرية المتعطّشة للقوة والسلطة.
في المقابل، عزا مفكّرو اليسار الحربَ إلى شكل وأيديولوجيا النظام الحاكم، حيث أشار لينين إلى أن الدول الرأسمالية تشعل الحروب بغية التوسع الإمبريالي والسيطرة على ثروات الشعوب، وتكوين حكم نخبوي لرأس المال.
في النصف الثاني من القرن العشرين، برز توجُّه جديد نحو دراسة العلاقات الدولية بالاستعانة بنظرية الأنظمة (Systems Theory)، وإرجاء الحروب إلى بنية النظام الدولي وما تفرضه من خيارات على الدول.
فيشير كينيث والتز -مؤسس المدرسة الواقعية الجديدة- إلى أن بنية النظام الدولي لا سلطوية (Anarchy)، وهي الصورة المعاكسة للبنية الهرمية، ويعزي ذلك إلى الطبيعة الوظيفية للوحدات المكوّنة للنظام الدولي -أي الدول-، باعتبارها متماثلة وتؤدّي جميعها الوظيفة نفسها، ما يحول دون تعريف سلطة مركزية تقوم بدور المسؤول عن سلامة النظام.
لتبسيط الفكرة، يمكن مقارنة النظام الدولي بتركيبة النظام الداخلي للدول، فتتشكّل الدولة من مجموعة من المؤسسات والجهات الحكومية التي تقوم بوظائف مختلفة تكمل بعضها، فهناك منصب الرئيس ورئيس الوزراء والوزير وصولًا إلى المواطن.
تبايُن الوظائف بين الوحدات المكونة للنظام أدّى بصورة تلقائية إلى خلق مستويات مختلفة من المسؤولية، وبالتالي تشكّل نظام هرمي توجد في قمته سلطة مركزية (رئيس الجمهورية) تقوم بحفظ النظام وتسييره، وتليها في الترتيب المؤسسات والجهات كل بحسب وظيفته.
غياب السلطة المركزية عن النظام الدولي يجعل كل دولة في حالة اعتماد على الذات لحفظ أمنها، في خضمّ وضع يخيّم عليه القلق والتوجُّس من نوايا الدول الأخرى.
وبينما تغيب التراتبية الوظيفية داخل النظام، يصبح فارق القوة بين الدول هو معيار تفاضلها، ما يعني أن الدول الكبرى هي من تمتلك الأفضلية في النظام، وتسعى بذلك إلى فرض سيطرتها وسلطتها على باقي الدول بغية تأمين مصالحها.
لذا تتسابق الدول الكبرى على رفع قدراتها العسكرية وبسط نفوذها الجيوسياسي بالمقارنة فيما بينها، مشكّلة ميزانًا للقوة (Balance of Power) يعدّ المعيار الرئيسي لاستقرار النظام الدولي، فيكون النظام أكثر استقرارًا كلّما كان عدد القوى الكبرى أقل كلّما كان فارق القوة بينها هامشيًّا، وفي المقابل يكون أكثر اضطرابًا حين تتعدد الأقطاب ويستمرّ التقلُّب لميزان القوة فيما بينها.
على العكس من روسيا، لم تكن الحرب خيارًا ملحًّا لواشنطن، سواء من النواحي السياسية أو الأمنية، فأوكرانيا حتى اللحظة ليست عضوًا في الناتو، ما يعفي الولايات المتحدة من أي التزام بحمايتها
على ميزان القوة تنشأ “تراجيديا القوى الكبرى”، كما يصفها جون ميرشايمر، فبينما تقف الدول على أكفّ مختلفة للميزان في حالة شكّ متبادل، تصبح مساعي أي دولة لتأمين نفسها سببًا في تغيُّر الميزان، وبالتالي مصدر تهديد للدول الأخرى، فتنشأ بذلك “معضلة أمنية” (Security Dilemma) وحلقة مغلقة قد تنتهي بانهيار الميزان وصدام الدول الكبرى، وهو السيناريو الذي شهدته أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، وانتهى باندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وفق هذا التوصيف يبدو النظام الدولي أشبه بأحد الشوارع الخلفية الذي تنتشر فيه العصابات والجريمة، وهنا يستدرك ميرشايمر مبيّنًا أن الدول تتصرف بعقلانية (Rational Actor)، أي أنها تبني قراراتها بناء على حسابات حذرة وبصورة استراتيجية، ولذا حينما يتعلق الأمر بالحرب فإن الدول لا تقدم على المغامرة العسكرية، إلا حينما تكون فوائدها المرجوة أكبر من خسائرها المتوقعة، أو عندما تكون ظروف السلم أشد وطأة من التبعات المحتملة للحرب.
رغم ذلك تظلّ الحروب أمرًا يصعب التكهّن بمجرياته، وذلك لكمية المتغيرات التي قد تطرأ خارج حسابات الدول، ما يجعل الخيار العسكري أقل جاذبية، فيصوّر والتز الحرب بأنها أشبه بزلزال لا منتصر فيه، إنما خاسرون يتفاوتون في حجم خسائرهم.
ولهذا حرصت الدول على تطوير استراتيجيات فعّالة لموازنة القوة دون اللجوء إلى الحرب المباشرة، على غرار التحالفات وحروب الوكالة، أو حتى من خلال استراتيجيات الردع والعقوبات الاقتصادية.
بإسقاط الإطار النظري على الحرب الروسية في أوكرانيا، يمكن استنباط الدوافع الرئيسية وراء التدخل العسكري بعيدًا عن التفسيرات التراجيدية، فروسيا الساعية لتأمين حدودها ألفت نفسها تحت وطأة تهديد حقيقي بتحول حلفاء الاتحاد السوفيتي السابقين إلى أعضاء في الناتو، وازداد الطين بلة حين سعت الولايات المتحدة إلى ضمّ أوكرانيا للحلف، ما يعني تطويق روسيا وإمكانية نصب صواريخ على بُعد 800 كيلومتر من العاصمة موسكو.
أثار الحراك الأمريكي توجُّس روسيا وأدار عجلة المعضلة الأمنية، بما يجعل الحرب على أوكرانيا خيارًا استراتيجيًّا، خاصة أن نجاحها يمكن أن يكون له تبعات جيوسياسية تعيد تموضع روسيا على ميزان القوة الدولي.
حيث يُفتح ذلك المجال لروسيا لتعميق نفوذها في شرق أوروبا والبلقان، وتحديد حزام جيوسياسي آمن لا يحقّ لدولة كبرى أخرى التدخل فيه، وهو ما يمكن تشبيهه بتحرك الولايات المتحدة لتأمين أمريكا اللاتينية من التوسع الاستعماري الأوروبي، فيما يُعرف بـ”مبدأ مونرو”.
على العكس من روسيا، لم تكن الحرب خيارًا ملحًّا لواشنطن سواء من النواحي السياسية أو الأمنية، فأوكرانيا حتى اللحظة ليست عضوًا في الناتو، ما يعفي الولايات المتحدة من أي التزام بحمايتها، كما تقع خارج حدود أوروبا الغربية التي تنظر إليها الولايات المتحدة كجزء من عمقها الاستراتيجي، الذي سعت لبسط نفوذها فيه عبر “خطة مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية.
في الوقت الذي كانت موسكو غير قادرة على مجاراة التبدل في ميزان القوة وفق الاستراتيجيات التقليدية، ومع دخول أوكرانيا في المعادلة، أصبح الخيار العسكري منطقيًّا
من خلال دعمها للملف الأوكراني، بحثت أمريكا عن اكتساب قواعد متقدمة في شرق أوروبا تحول دون تحوُّل روسيا إلى قوة كبرى، وتحفظ ميزان القوة وفق التفضيل الأمريكي.
وبينما يهدد التدخل الروسي بإفشال الاستراتيجية الأمريكية، تبقى مخاطر الحرب المباشرة أكبر من المكاسب التي تتطلع واشنطن إلى الظفر بتحقيقها، لا سيما أن ميزان القوة لن يشهد تبدلًا عنيفًا، إذ لا تزال أمريكا تحاصر روسيا في البلطيق والبحر الأسود عبر حلفائها في الناتو.
وبإمعان النظر في ميزان القوة منذ فترة ما بعد الحرب الباردة، يمكن القول إن النظام الدولي أحادي القطب باعتبار الولايات المتحدة القوة الكبرى، وبينما تمثل الصين وروسيا أقطابًا محتملة، لا يزال النظام في حالة استقرار نسبي، ولم يشهد تبدلات عنيفة في ميزان القوة تسرّع من تدوير عجلة المعضلة الأمنية باتجاه الصدام.
تحت هذه الظروف، كان طبيعيًّا انكفاء الولايات المتحدة على حرب الوكالة لاستنزاف روسيا، بما يدفعها إلى التخلي عن أهدافها في أوكرانيا.
خلاصة، تندلع الحروب بين الدول بسبب البنية اللاسلطوية (الأناركية) للنظام الدولي، التي تجعل كل دولة مسؤولة عن تأمين مصالحها ذاتيًّا، والبحث عن حيازة مصادر القوة كشرط أساسي للبقاء، ما يؤدي إلى اختلال ميزان القوة وتشكُّل معضلة أمنية ترى فيها كل دولة حراك الأخرى تهديدًا لأمنها وفق حسابات استراتيجية متبادلة.
ومتى ما فشلت دولة في تثبيت كفتها على ميزان القوة، وبدت مخاطر السلم أعلى من خسائر الحرب، فإنها تلجأ إلى الصدام المباشر كحلّ عقلاني لتحقيق التوازن الذي ترتجيه.
في حالة الحرب الروسية على أوكرانيا، كان توسع حلف شمال الأطلسي نحو المحيط الحيوي لروسيا تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي، في الوقت الذي كانت موسكو غير قادرة على مجاراة التبدل في ميزان القوة وفق الاستراتيجيات التقليدية، ومع دخول أوكرانيا في المعادلة أصبح الخيار العسكري منطقيًّا.
في الجهة الأخرى، تمثّل أوكرانيا قطعة مهمة في اللعبة الجيوسياسية الأمريكية، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلها تضع أمنها القومي على المحك وتستنزف مواردها، وبالتالي كان خيار حرب الوكالة الأقرب لحسابات البيت الأبيض.
لماذا لم تندلع الحرب العالمية الثالثة؟
وقوف الولايات المتحدة وروسيا على ضفتَي الصراع يضع أكبر ترسانتَين نوويتَين على كفتَي الميزان، فتمتلك روسيا قرابة 6000 رأس نووي وتقابلها أمريكا بحوالي 5500 رأس نووي، وفي حال انجرفت القوتان إلى حرب نووية شاملة، فسيكون ذلك كفيلًا بإحداث دمار عالمي يغيّر ملامح الإنسانية.
تراجيديا الحرب النووية لم تغب عن أطروحات مروّجي الحرب العالمية الثالثة، الذين استندَ منطقهم إلى حتمية لجوء القطبَين إلى السلاح النووي، واستخدام القوى القصوى للظفر بالانتصار.
تاريخيًّا، لم يُستخدَم السلاح النووي إلا في واقعتَين خلال الحرب العالمية الثانية، ما يجعل موضوع الأسلحة النووية وطبيعتها موضع نقاشات ساخنة بين مفكّري العلاقات الدولية، كان أبرزها جدال والتز وساغان (Waltz-Sagan Debate).
يرى والتز في انتشار الأسلحة النووية مضاعفة للخوف، بما يوازن التهديد بين الدول ويجعل خيار الحرب مستبعدًا؛ بينما يناقض ساغان هذا الطرح، مبررًا أن انتشار الأسلحة النووية يزيد من احتمالية استخدامها ولو على سبيل الخطأ.
بين تبايُن وجهتَي النظر، وبالأخذ بفرضيات الخوف الذي تخلقه لا سلطوية النظام الدولي وعقلانية الدول في حسابات الحرب، يمكن التوافق على أن الأسلحة النووية رفعت من حجم الخسائر المحتملة للحروب، بما يؤدي إلى “تدمير متبادَل مؤكد” (Mutual Assured “Destruction “MAD)، لا سيما في حالة الدول ذات المساحة الجغرافية الشاسعة التي تتيح لها احتمال وطأة هجوم نووي والردّ بهجوم نووي مضاد، ما يعني أن الدولة المبادرة بالهجوم النووي لن تكون في حالة أفضلية.
نتيجة لذلك صنعت الأسلحة النووية حالة من الخوف المتبادل من تبعات استخدامها، فيما يصطلح عليه بـ”الردع النووي” (Nuclear Deterrence)، وهو الذي كان موضوع دراسة متعمّقة في فترة الحرب الباردة لمفكرين على غرار غلين سنايدر، توماس فريدمان وبشكل خاص توماس شيلينغ، الذي يرى في السلاح النووي أداة نفوذ وتأثير وليس بالضرورة أداة تدمير، وبالفعل كان الردع النووي حائلًا دون تطور الحرب الباردة إلى لهيب ساخن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
انحسار العمليات الروسية ومحدودية تأثير أسلحتها، وفي المقابل فاعلية خطة حرب الاستنزاف التي تخوضها أوكرانيا، تفتح المجال للتوجُّس حول احتمالية استخدام روسيا للأسلحة النووية التكتيكية
إذ بلغت المعضلة الأمنية بين القوتَين العالميتَين مداها في أزمة صواريخ كوبا عام 1962، حين شرع الاتحاد السوفيتي بنصب منصات صواريخ نووية على جزيرة كوبا في الكاريبي، ما استفزَّ إدارة الرئيس كينيدي للتصعيد، حتى بدا أن العالم يوشك على مشاهدة أول حالة تدمير متبادل مؤكدة.
غير أن نيران الأزمة لم تحرق طاولة المفاوضات بين الفرقاء، التي أسفرت عن انفراج الأزمة وبدء “محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية” (SALT) عام 1969، والتوقيع على نسختَيها في عامَي 1972 و1979.
سقوط الاتحاد السوفيتي لم يغير حالة الردع النووي في الميزان الأمريكي-الروسي، فروسيا التي تحارب في أوكرانيا لتأمين أمنها القومي من تهديد توسع الناتو، لن يكون منطقيًّا أن تلجأ إلى سلاح يجلب لها تهديدًا أكبر، وربما يقودها إلى التدمير الذاتي.
المقياس ذاته ينطبق على الولايات المتحدة، التي من الصعب تصور دخولها في حرب تدمير متبادل مؤكد لأجل الدفاع عن دولة لا تمثل حليفًا رئيسيًّا لها، ولذا الردع النووي لا يزال مهيمنًا على حسابات القوتَين في الحرب الحالية.
من ناحية أخرى، يبرز التساؤل عن مدى اعتبار الأسلحة النووية ضمن أولويات الحروب الحديثة، فتمتاز الأسلحة النووية بقدرتها على تدمير الخصم على أصعدة متعددة تطال -إلى جانب الأهداف العسكرية- الموارد الاقتصادية والبشرية والبنية التحتية، بما يحدث شللًا في قطاعات الدولة، ومن هنا سُمّيت بأسلحة الدمار الشامل.
غير أن التطور التكنولوجي وتأثير العولمة، وما أنتجاه من ارتباط شبكي بين القطاعات، أحدث تبدلًا في نهج العقيدة العسكرية نحو استخدام الأسلحة الذكية وأساليب الحرب غير المباشرة.
فيمكن للهجمات السيبرانية إحداث شلل في قطاعات الدولة المستهدفة، من خلال شنّ هجمات على شبكة الاتصالات في المطارات والمحطات، بما يعطّل حركة النقل والمواصلات، دون الحاجة إلى استخدام أسلحة فتّاكة.
وبينما يبقى الحسم على الأرض هو الأهم، أسهمَ التطور التكنولوجي في إحداث ثورة في الشؤون العسكرية (Revolution in Military Affairs “RMA)، على صعيد الأسلحة وطبيعة العمليات العسكرية المرتبطة بها، على غرار تطوير الأسلحة الدقيقة والطائرات النفاثة واستغلال الذكاء الصناعي في قيادة وتوجيه المراكب العسكرية.
في الحرب الروسية الأوكرانية، يشهد الفضاء الرقمي معارك محتدمة بين طرفَي الحرب، فعمدت روسيا إلى شنّ “هجمات تعطيل الخدمات” (DDoS) استهدفت المطارات وشبكة المواصلات في مدن أوكرانية، بالإضافة الى النظام البنكي ومواقع الحكومة على الإنترنت، ما دفع أوكرانيا إلى فتح باب التطوع أمام “الهاكرز” لتشكيل جيش سيبراني مضاد، وشنّ هجمات على مواقع الكرملين والمخابرات الروسية.
كما استخدمت روسيا الجيل الجديد من “صواريخ ما فوق سرعة الصوت” (Hypersonic Missiles)، التي تحلّق بسرعة عالية وعلى ارتفاع منخفض، وتستطيع تعديل مسارها أثناء التحليق، ما يمكّنها من اختراق الدفاعات الأرضية.
وحتى في حالة التقاطها، فإن الوقت المستغرَق بين صعود وارتداد الموجات إلى الرادارات -حوالي 8 إلى 10 ثوانٍ- يتيح للصاروخ الروسي الابتعاد قرابة 20 كيلومترًا عن موقع التقاطه، ما يعني فعليًّا أن روسيا تستخدم أسلحتها الفعّالة وليس بالضرورة أن تكون القنابل النووية ضمنها.
في حربها على أوكرانيا، تسعى روسيا الى استهداف موارد البلاد واقتصادها من خلال الهجمات السيبرانية، كما قامت باستخدام الجيل الجديد من أسلحتها المطورة
غير أن انحسار العمليات الروسية ومحدودية تأثير أسلحتها، وفي المقابل فاعلية خطة حرب الاستنزاف التي تخوضها أوكرانيا، تفتح المجال للتوجس حول احتمالية استخدام روسيا للأسلحة النووية التكتيكية، والتي تختلف عن القنابل النووية (الاستراتيجية)، باعتبارها ذات قوة تدميرية ونشاط إشعاعي أقل بكثير.
من الناحية العسكرية، قد يجلب السلاح لروسيا مكاسب كبيرة على الأرض ويغيّر من مجريات المعارك، إلا أن ذلك لن يسلم من جلب عواقب سياسية واستراتيجية لن يكون في مصلحة موسكو اجترارها.
ففي الوقت الذي لا يعدّ الاستخدام التكتيكي للسلاح النووي انزلاقًا نحو أسلحة الدمار الشامل، إلا أنه يظلّ في جوهره توجُّهًا نحو الخيارات النووية، ونقلة نوعية تعيد تعريف قواعد الاشتباك، ما يضاعف حجم المعضلة الأمنية ويهدد بالانزلاق النووي الذي لا ترجوه جميع الأطراف.
من ناحية أخرى، لن يكون حلفاء موسكو في مأمن من تبعات اندفاعها، ما قد يدفعهم للتخلي عنها، في الوقت الذي تعاني فيه من العزلة والاستعداء من المجتمع الدولي.
خلاصة، اندلاع حرب نووية سيؤدي بصورة حتمية إلى تدمير المتحاربين، ولذا تنشأ حالة الردع النووي كمحصلة للخوف المتبادل، ولا يعني ذلك الجزم باستحالة وقوع حرب نووية في أي نقطة من التاريخ، إلا أنه وببساطة يستند إلى أن بقاء الدولة هي المصلحة الوطنية العليا.
وبالتالي لن تتبنّى الدول خيارًا ربما تكون عاقبته زوالها، إلا في حالة كان هناك تهديد وجودي يحدق بها يفوق في حجمه عواقب الانجراف النووي، وهو ما لا ينطبق على الحرب الروسية في أوكرانيا.
كما أن الثورة في الشؤون العسكرية وما أنتجته من تكنولوجيا جديدة في صناعة الأسلحة، أدّت إلى تغيير العقيدة العسكرية وتفضيل أساليب الحروب غير المباشرة والأسلحة الدقيقة.
وفي حربها على أوكرانيا، تسعى روسيا الى استهداف موارد البلاد واقتصادها من خلال الهجمات السيبرانية، كما قامت باستخدام الجيل الجديد من أسلحتها المطوَّرة على غرار الطائرات النفاثة والصواريخ ما فوق الصوتية، والتي تبرز الاتجاه الذي تسلكه موسكو في تصعيد عملياتها العسكرية.