ترجمة وتحرير: نون بوست
أحيت “إسرائيل” ذكرى المحرقة التي يميل كثيرون خارج “إسرائيل” – من اليهود وغير اليهود على حد سواء – إلى تذكّرها. في هذا اليوم، يمجّد الكثيرون النضال ضد معاداة السامية كجزء من الإرث الرهيب للهولوكوست. ومما لا شك فيه أن معاداة السامية وأي شكل آخر من أشكال العنصرية والتعصب الأعمى ينبغي محاربته بشكل حاسم وأن النضال ضده ينبغي أن يكون أحد الدروس الواضحة التي ينبغي تعلمّها في هذا اليوم.
لكن من بين أكثر الظواهر إثارة للقلق في العقد أو العقدين الماضيين هي تعريف معاداة الصهيونية وحتى النقد القاسي لـ “إسرائيل” على أنه معاداة السامية فضلاً عن الخلط بين معاداة السامية “المعاصرة” أولاً وقبل كل شيء مع معاداة الصهيونية وحتى انتقاد “اسرائيل”.
تعد هذه المفاهيم خطيرة لأنها مستمدة من دروس مزعومة عن الهولوكوست. لذلك، يبدو أي انتقاد جوهري لـ “إسرائيل” والصهيونية لدى الرأي العام، ولاسيما بين المؤسسات السياسية والثقافية الوطنية والدولية، استمرارًا أيديولوجيًا للمحرقة. ولهذا السبب، يوصف النضال التحرري للفلسطينيين من أجل الحرية وإنهاء الاستعمار بأنه صراع يمثل في الواقع استمرارًا مباشرًا للهولوكوست والنازية.
إن تعريف الانتقادات الموجهة لـ “إسرائيل” ومعاداة الصهيونية بمعاداة السامية لا أساس له من الصحة نظرًا لأن بعض أقسى معارضي الصهيونية كانوا من اليهود. ومنذ اللحظة التي ظهرت فيها الصهيونية على مسرح التاريخ في نهاية القرن التاسع عشر نشأت معارضة لها في العالم اليهودي.
لقد عارضها الأرثوذكس المتشددون وحركة الإصلاح والليبراليون والشيوعيون اليهود وكذلك حركة البوند الاشتراكية اليهودية القوية في أوروبا الشرقية – في كثير من الأحيان بشكل حاد وعلني. أما اليوم، باتت المعارضة الشرسة للصهيونية داخل العالم اليهودي ضئيلة نسبيًا، بينما ظلّ الإرث اليهودي المعادي للصهيونية قائم الذات.
حركة استعمارية للاستيلاء على أراضي السكّان الأصليين
لا تُعتبر المعارضة العربية وخاصة الفلسطينية للصهيونية معادية للسامية بل سياسية. منذ نشأتها، وبالتأكيد بعد وعد بلفور سنة 1917، كان يُنظر إلى الصهيونية على أنها حركة استعمارية تهدف إلى الاستيلاء على أراضي سكانها الأصليين من أجل إقامة كيان سياسي ذو أغلبية يهودية. مثّل هذا جذور المقاومة العربية للصهيونية ولاحقًا لإسرائيل. وتواصل الحرب لسنوات والاحتلال وسياسات التهجير القسري وإنكار الحقوق عزّز الموقف العربي ضد الصهيونية.
لكن هذا الموقف الأساسي كان مفهومًا بشكل أوضح من قبل بعض القادة الصهاينة الأوائل. وقد أوضح زئيف جابوتنسكي، مؤسس الصهيونية التحريفية وأحد أعظم قادة الصهيونية في النصف الأول من القرن العشرين، في مقالته التي نشرها سنة 1923 بعنوان «الجدار الحديدي» أن المعارضة العربية للاستيطان الصهيوني لا تختلف عن أي معارضة للسكان الأصليين للمحتل الاستعماري قائلا: “قرائي لديهم فكرة عامة عن تاريخ الاستعمار في البلدان الأخرى. أقترح عليهم النظر في جميع السوابق التي مرت عبر التاريخ، ومعرفة ما إذا كان هناك حالة انفرادية واحدة لأي استعمار يتم تنفيذه بموافقة السكان الأصليين. لا توجد مثل هذه السابقة”.
من حيث المبدأ، تنبع هذه المعارضة من نظرة عالمية تحررية تعارض أي شكل من أشكال الاستعمار بشكل عام والاستعمار الاستيطاني بشكل خاص على أساس القيم الديمقراطية للمساواة الوطنية والسياسية والمدنيّة للجميع.
وقد أظهرت أربعة تقارير حديثة صادرة عن منظمات إسرائيلية ودوليّة موثوقة تدافع عن حقوق الإنسان مثل ييش دين وبتسيلم وهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، أن “إسرائيل” أنشات ليس في الضفة الغربية المحتلة فحسب بل داخل بقية الأراضي المحتلة – نظامًا قائمًا على الفصل العنصري الهيكلي وإنكار الحقوق.
هذا هو سبب تعرّض “إسرائيل” والصهيونية نفسها لانتقادات شديدة مثلما هو حال جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، ودول أخرى على سبيل المثال فرنسا خلال حرب الاستقلال الجزائرية؛ والولايات المتحدة أثناء الحرب في فيتنام؛ وروسيا اليوم؛ وبلدان أخرى عبر التاريخ كانت قد أثارت مظالمها النقد في جميع أنحاء العالم.
معاداة السامية الجديدة
هذا لا يعني بالطبع أنه لا يمكن أن تكون هناك دوافع معادية للسامية تتعارض مع السياسة الإسرائيلية أو الصهيونية، ولا يعني أيضا أن هذه المعارضة لا يمكنها استخدام الصور والأفكار المعادية للسامية، لأن هذا ما يحدث بالفعل.
مع ذلك، تعد معارضة السياسة الإسرائيلية وحتى معارضة الصهيونية في جوهرها معارضة أيديولوجية مشروعة تنبثق من رؤية عالمية تحررية للعدالة والحرية والمساواة. ومن يريد الادعاء بخلاف ذلك ستقع مسؤولية إثبات ذلك عليه أو عليها. إذن من أين أتى هذا الموقف الذي يقف وراء المعارضة الشديدة لسياسة “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين ومعارضة الصهيونية مع معاداة السامية ومصالح من يخدم؟
سُجل تحوّل فكري هام في أواخر الستينيات عندما بدأ باحثون إسرائيليون في تطوير مفهوم “معاداة السامية الجديدة”. تمثّلت وجهة نظرهم في أن المشاعر القديمة المعادية لليهود التي تشكلت وتغيرت على مر القرون أصبحت الآن موجهة بشكل أولي ضد المشروع السياسي اليهودي للصهيونية و”إسرائيل”.
ولكن لم يصبح هذا الموقف مهيمنا سوى في العقد أو العقدين الماضيي حيث أصبح يميز الاتجاه السائد لمعظم السياسات الغربية من اليسار، وأحيانا اليسار الراديكالي إلى الوسط واليمين المحافظ، وفي كثير من الحالات أيضا اليمين الشعبوي أو الفاشي البدائي أو اليمين العنصري الأبيض، حيث يقوم تحالف سياسي مؤثر بتطوير هذا الموقف.
أولا وقبل كل شيء، يبدو أن “إسرائيل” فشلت في تبرير سياسات الاحتلال والاستيطان والاستعمار الخاصة بها بشكل مقنع لا سيما في الضفة الغربية المحتلة والقدس وغزة في أي خطاب ديمقراطي وليبرالي، وبالتالي فهي تستخدم سلاح معاداة السامي، الذي أصبح من المحرمات في جميع الدول الغربية.
يتماهى اليمين المتطرف والشعبوي، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا في ألمانيا وترامب والأجنحة العريضة للحزب الجمهوري وأنصار التفوق الأبيض في الولايات المتحدة، مع السياسات الاستعمارية الإسرائيلية العنصرية من خلال دعمها وربط معاداة السامية بمعاداة “إسرائيل” ومعاداة الصهيونية، وهم بهذه الطريقة يحاولون إضفاء الشرعية على أفعالهم وإخفاء معاداة السامية والعنصرية.
عُرضت مبادرة البرلمان الألماني لإعلان حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات كشكل من أشكال معاداة السامية من قبل حزب البديل من أجل ألمانيا وريتشارد سبنسر، أحد قادة حركة تفوق البيض الأمريكية العنصرية والمعادية للسامية، الذي امتدح “قانون الدولة القومية” الإسرائيلي العنصري واعتبر إسرائيل نموذجا يحتذى به لدولة قومية عرقية.
الهوية اليهودية
تعاطفت معظم المؤسسات اليهودية السائدة في أمريكا الشمالية وبالتأكيد في أوروبا مع هذا الموقف ودعمته بقوة (على الرغم من أنها اجتذبت أيضا معارضة يهودية قوية جدا، خاصة في الولايات المتحدة وكندا). تتنوع أسباب الدعم اليهودي القوي لهذا التعريف، لكنها لا تتعلق عادة بالدقة التاريخية أو العدالة السياسية، بل تتعلّق بشكل أساسي بمسألة الهوية.
في العقود الأخيرة، أصبحت “إسرائيل” وفكرة الاهتمام بها جزءًا أساسيًا من الهوية اليهودية حول العالم. وبالتالي، بات ينظر إلى النقد الأخلاقي الحاد لـ “إسرائيل” وأيديولوجيتها القومية أي الصهيونية على أنه هجوم على هويتهم اليهودية ذاتها، وبالتالي يُنظر إليه (بالخطأ) على أنه فعل معاد للسامية.
وفي الوقت نفسه، من المهم الإشارة إلى أن عداء بعض أطراف اليسار الأوروبي الراديكالي (وكذلك الكتلة الشيوعية السابقة في لحظات تاريخية معينة) تجاه إسرائيل يعدّ مفرطًا في بعض الأحيان ومحاولة شيطنتها مبالغ فيها للغاية، لدرجة أنه كان من الصعب عدم الشعور بنوع من معاداة السامية تحت طبقة رقيقة من معاداة الصهيونية.
فعلى سبيل المثال، نبه المفكر اليهودي والناجي من الهولوكوست جان أميري إلى ذلك منذ أواخر الستينيات. لكن التيار الرئيسي للسياسة الأوروبية وسياسيو أمريكا الشمالية يميلون أيضًا إلى دعم هذا الوضع وتعزيزه.
لا شك أن الخلط الغريب بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية مرتبط بالعلاقات الجيدة التي تربط “إسرائيل” بالعديد من تلك البلدان إلى جانب المصالح الجيوسياسية. لكن ليس لدي شك كذلك أن هذا الوضع مدعوم مرارًا بمشاعر عنصرية مموهة ومشاعر معادية للعرب والمسلمين والمهاجرين التي أصبحت أقوى بكثير في العقدين الماضيين.
لا شك أن الأمر يتعلق كذلك بتحويل الهولوكوست إلى عنصر أساسي لهوية الغرب وحساسيته الخاصة تجاه معاداة السامية “متجاوزا في مرات عديدة الحساسيات تجاه أشكال العنصرية الأخرى والتعصب الأعمى مثل الإسلاموفوبيا”. لكنه ينبع كذلك من الرغبة والواجب الأخلاقي عند أوروبا في تشجيع ازدهار الوجود اليهودي بعد الهولوكوست.
تستند الهوية الأوروبية الليبرالية السائدة والمحافظة المعاصرة – من بين العديد من الأمور – إلى مفهوم “التراث اليهودي المسيحي” الذي يتطلب استبقاءه الرخاء اليهودي في أوروبا. يبذل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء كل جهد ممكن لإشعار اليهود بالراحة وعدم التهديد في أنحاء القارة. وفي ظل هذه التبعية، تميل التيارات الرئيسية في السياسة الأوروبية إلى تبني موقف المنظمات اليهودية الرئيسية تجاه هذه القضية.
تناقضات
لم يُصنع هذا الائتلاف من نفس اللبنة. فهو مليء بالتناقضات ويشمل الشعبويين واليمين المتطرف والمتعصبين لتفوق البيض وكذلك الليبراليين وحتى التقديميين؛ وهو يشمل إسرائيل وأنصار الصهاينة الذين يريدون تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين المحتلة إلى جانب العناصر الأوروبية التي تريد تعزيز الوجود اليهودي في أوروبا “الذي يعتبر هدفًا معاديًا للصهيونية بشكل تقليدي”.
مع ذلك، فإن القاسم المشترك بينهم جميعًا هو أنهم عمليًا – سواء عن قصد أو غير قصد – ينزعون الشرعية تمامًا عن الرواية الوطنية الفلسطينية التي تصور الصهيونية – بصورة مشروعة – كمشروع عنصري استعماري أنشأ نظامًا نموذجيًا لإلغاء حقوق السكان الأصليين.
سواء عن قصد أو غير قصد، جميعهم مشاركون في تحويل صورة الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل جذري من حركة تحريرية مطالبها الأساسية مشروعة وعادلة “حتى وإن كان من الصعب تلبيتها جميعها” إلى حركة عنصرية معادية للسامية.
جميعهم متورطون، سواء عن قصد أو غير قصد، في تغيير الخطاب السياسي حول فلسطين و”إسرائيل” من خطاب يتطلب من “إسرائيل” تحمل مسؤوليتها عن الاحتلال والاستيطان واستعمار الضفة الغربية والقدس داخل “إسرائيل” والحصار المفروض على غزة، إلى نقاش يركز على كون هذا النقاش بذاته معاديًا للسامية؛ ومن خطاب قائم على قيم المساواة إلى خطاب يُصور المساواة نفسها على أنها معادية للسامية، في سياق إسرائيل وفلسطين.
يمنع هذا الخطاب تخيل حل استرضائي ومساواة غير صهيونية للنزاع – مثل القومية المزدوجة – حيث يحصل جميع الناس في الأرض المقدسة على حقوقهم المتساوية الإنسانية والمدنية والوطنية الكاملة “وهذا في الوقت الذي تكون هذه الأفكار ضرورية للغاية حيث يبدو أن “حل الدولتين” قد تلاشى”. وبدلًا من ذلك، يشارك هذا الخطاب في مشروع “إسرائيل” السياسي لنزع شرعية القضية الفلسطينية وعمليًا إزالة القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية مرة واحدة وإلى الأبد.
المصدر: ميدل إيست آي