تواصل الحرب الروسية الأوكرانية أسبوعها العاشر وسط حالة من اليأس تخيم على الأجواء بشأن احتمالية أن تسفر جهود الوساطة الدبلوماسية عن تقدم في مسار إنهاء القتال والعودة للمسار السياسي، بعد تعثر المفاوضات نتيجة الانتهاكات الروسية المستمرة بحق المدنيين والفظائع المرتكبة في بعض المدن وفق الرواية الأوكرانية.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قال في تصريحات له بالأمس: “هناك احتمالات كبيرة لتوقف محادثات السلام مع موسكو”، مرجعًا ذلك إلى الغضب الشعبي إزاء جرائم الروس، فيما أكد مستشار بالرئاسة الأوكرانية أن اللقاء المرتقب بين زيلينسكي ونظيره الروسي “لن يعقد قريبًا للأسف كما قالت تركيا، بل علينا الانتظار”.
تتزامن تلك التصريحات مع تصعيد متبادل بين موسكو والغرب، فالقوات الروسية تصعد هجماتها في مناطق الجنوب والشرق، مع ترتيبات بشأن إعادة المناوشات على حدود العاصمة مرة أخرى، فيما يواصل الغرب عقوباته المفروضة مع استمرار تسليح القوات الأوكرانية بأسلحة ثقيلة تذهب إلى أن المعركة لن تنتهي في الوقت القريب.
يذكر أن أوكرانيا ورسيا لم يجريا أي محادثات سلام مباشرة منذ 29 مارس/آذار الماضي، فيما تستمر الاتصالات الرسمية وغير الرسمية بطرق غير مباشرة، ما دفع إلى التساؤل عن مستقبل الوساطة التركية بعد النجاحات النسبية التي حققتها بداية الأمر، وكيف يكون الوضع إذا انسحبت أنقرة من هذا المسار حال استمر الطرفان في عنادهما وتصعيدهما؟
روسيا.. رفع العقوبات ووقف التسليح أولًا
وضعت موسكو حزمة من الشروط الأولية لاستمرار عملية المفاوضات مع الجانب الأوكراني، أبرزها كما جاء على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، رفع العقوبات الغربية المفروضة على بلاده، لافتًا إلى أن هذه هي الخطوة الأولى نحو عودة الجدية مرة أخرى لمباحثات السلام التي وصفها بالصعبة وإن كانت مستمرة بشكل يومي عبر تقنية “الفيديو كونفرانس”.
ودون الدخول في تفاصيل، كشف لافروف عن أجندة المباحثات الجارية الآن مع كييف، التي شملت “قضايا التخلص من النازيين، والاعتراف بالحقائق الجيوسياسية الجديدة ورفع العقوبات ووضع اللغة الروسية”، وفق حديثه لوكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا)، الذي نُشر على الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الروسية.
تعتبر كييف أن مسألة العقوبات والتسليح لا يمكنهما أن يكونا على طاولة قائمة التنازلات المقترحة في جولات المفاوضات، كونهما حائط الصد الوحيد حاليًّا أمام التمدد الروسي داخل الأراضي الأوكرانية
ومن أبرز الملفات التي تقف حجر عثرة أمام المفاوضات – بحسب الرؤية الروسية – استمرار التسليح الغربي لأوكرانيا، ما يعني دخول أوروبا وأمريكا كأطراف في الحرب بشكل مباشر وإن لم يكن عبر جنود مشاركين على خط المواجهة، ومن ثم دعا لافروف كل من حلف شمال الأطلسي (ناتو) والولايات المتحدة إلى وقف تسليح كييف.
وكشف وزير الخارجية الروسي عن تدفق الأسلحة الثقيلة للقوات الأوكرانية عبر مسارات عدة أبرزها حاليًّا بولندا ودول الناتو وأمريكا، مضيفًا “إذا كانت الولايات المتحدة والناتو مهتمين فعلًا بحل الأزمة الأوكرانية، فعليهما قبل كل شيء أن يستيقظا ويتوقفا عن تسليم نظام كييف أسلحة وذخيرة”.
أوكرانيا.. استمرار الدعم الضمانة الوحيدة
وفي الجهة المقابلة تعتبر كييف أن مسألتي العقوبات والتسليح لا يمكنهما أن يكونا على طاولة قائمة التنازلات المقترحة في جولات المفاوضات، كونهما حائط الصد الوحيد حاليًّا أمام التمدد الروسي داخل الأراضي الأوكرانية، وفي حال التخلي عنهما ولو مؤقتًا فإن ذلك سيمنح موسكو ضوءًا أخضر للسيطرة على كل أوكرانيا، فيما حذر زيلينسكي أنه لو سقطت بلاده فلن تكون الأخيرة أمام الروس الطامعين في المزيد من التوسع الأفقي.
وتماشيًا مع هذا التوجه يواصل الغرب تزويد القوات الأوكرانية بالأسلحة المتطورة نسبيًا بما يحقق الحد الأدنى من التوازن أمام التسليح الروسي المتقدم، فقد أعلنت القوات الجوية الأوكرانية في مناطق الجنوب تلقيها منظومة دفاع جوي من طراز “إس-300” (S-300) من إحدى الدول الصديقة من دون الكشف عنها.
وساعدت تلك المنظومة في تعزيز القدرات الدفاعية للقوات الجنوبية بما أهلها للتصدي للضربات الجوية الروسية التي تعتمد عليها موسكو في حربها التوسعية داخل أوكرانيا، فيما تشير تقارير أخرى إلى تلقي القوات الأوكرانية عشرات البطاريات العاملة من منظومة إس 300 لدعم قدراتها بجانب ما صرحت به بعض وسائل الإعلام البولندية بشأن تسليم وارسو لكييف 200 دبابة من طراز “تي-72” (T-72) إضافة إلى عشرات العربات المدرعة.
وكانت كييف قد دعت الاتحاد الأوروبي لحذو النهج الأمريكي واتخاذ خطوات جادة لحظر واردات النفط الروسي ضمن الحزمة السادسة من العقوبات، فيما أشارت بعض المصادر إلى أنه من المرجح موافقة الاتحاد على حظر تدريجي للنفط الروسي خلال اجتماعه الأسبوع المقبل حسبما نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مصادرها الخاصة.
من الواضح أن هناك مخططًا غربيًا لاستنزاف الروس عبر إطالة أمد الحرب أطول فترة ممكنة، وهي النتيجة التي تبرهن عليها العديد من المؤشرات
تصاعد الاشتباكات
شهدت الساعات الماضية تصعيدًا لافتًا في ميادين القتال بعد فترة هدوء نسبي، فقد حققت القوات الروسية تقدمًا ملحوظًا في معاركها شرق وجنوب أوكرانيا، فيما أقرت هيئة الأركان الأوكرانية بوقوع خسائر كبيرة في تلك المعارك، كاشفة أن العمليات الروسية في الإقليم الشرقي (الدونباس) تستهدف السيطرة الكاملة على منطقتي دونيتسك ولوغانسك والطريق نحو شبه جزيرة القرم.
الخسائر التي وقعت في صفوف الأوكرانيين حسبما أشارت هيئة الأركان تمحورت حول سقوط قتلى ومصابين بجانب الاستيلاء على عدد من البلدات والقرى، جراء قصف القوات الروسية خط الجبهة بالكامل في منطقة دونيتسك بالصواريخ والمدفعية وقذائف الهاون والطائرات، فيما أكد أوليكسي أريستوفيتش مستشار الرئيس الأوكراني “تكبدنا خسائر كبيرة، لكن الخسائر الروسية أفدح بكثير”.
واحتدمت المواجهات بين الروس والأوكرانيين في جبهة بارفينكوفا جنوب خاركيف خلال الـ24 ساعة الماضية، بحسب مراسل الجزيرة عمر الحاج الذي أوضح أن القوات الروسية باتت على مسافة 20 كيلومترًا من المدينة وأنها صعدت من قصفها باستخدام الصواريخ والمدفعية الثقيلة، وفي المقابل تسيطر القوات الأوكرانية على مناطق شمال إقليم خيرسون (جنوب)، بعد أيام من إعلان روسيا سيطرتها على كل حدود الإقليم.
وفي ماريوبول (شرق) تشتد الكارثة الإنسانية التي يعاني منها سكان المدينة بعدما حولها الروس إلى أطلال جراء القصف المستمر والحصار على مدار شهرين كاملين، فهناك قرابة 100 ألف مدني محاصر بداخلها بينما تتواصل عمليات الإجلاء لإخراج المتحصنين بمجمع “آزوفستال” الصناعي الذي يتحصن فيه مئات المدنيين وبعض أفراد القوات الأوكرانية في مخابئ تحت الأرض.
ومن الدونباس إلى العاصمة، حيث عاودت القوات الروسية قصفها لكييف مرة أخرى تزامنًا مع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للمدينة، إذ تعرضت لصاروخين مساء الخميس 28 أبريل/نيسان الحاليّ، فيما تتواصل عمليات انتشال الجثث من تحت الأنقاض التي خلفها القصف الروسي، حسبما أشار عمدة المدينة فيتالي كليتشكو.
هل تفشل جهود الوساطة؟
كما ذُكر سابقًا، من الواضح أن هناك مخططًا غربيًا لاستنزاف الروس عبر إطالة أمد الحرب أطول فترة ممكنة، وهي النتيجة التي تبرهن عليها العديد من المؤشرات، على رأسها تسليح القوات الأوكرانية بالأسلحة الثقيلة وتشكيل كيانات وتحالفات لدعم كييف حتى بعد انتهاء الحرب، مع استمرار التصعيد الأمريكي تحديدًا عبر تشديد العقوبات الاقتصادية ومحاولة عزل موسكو عن منظومة الاقتصاد العالمي.
وتواجه الجهود الدبلوماسية التي تبذلها أنقرة لتخفيف حدة التوتر ووقف الحرب عقبات بالغة في ظل عناد أمريكي واضح ورغبة ملحة في المضي قدمًا في مسار التصعيد، ما يضع الوسيط التركي في مأزق، ويُفقد موسكو الثقة في جدية تلك المفاوضات، ما يدفع الأخيرة إلى تصعيد انتقامي مضاد، يدفع الأوكرانيون ثمنه الفادح.
الوصول إلى مرحلة “الكفر بالمسار السياسي” سيُدخل الحرب نفقًا آخر، ربما تكون تبعاته على الجميع غير متوقعة، وهو ما يعيه الجميع جيدًا رغم خطاب العناد المستخدم
يتمسك الأتراك بالدبلوماسية الضعيفة، وسط دعم أوروبي مقبول، لكن يبقى الصلف الأمريكي الروسي وتمسك كل طرف بشروطه العقبة الأبرز، وسط حالة من التشاؤم إزاء عودة أي منهما خطوة للخلف قبل تحقيق أهدافه كاملة، وهو ما يعني استمرار القتال لفترة قد تمتد لأشهر بحسب خبراء.
لو ألقى الروس الراية البيضاء بشأن المفاوضات فمن المرجح أن يكون هناك تصعيد آخر أكثر ضراوة، فليس هناك شيء يُبكى عليه، إذ لم يعد أمام موسكو حينها إلا إستراتيجية الأرض المحروقة لتحقيق أكبر قدر من الانتصارات العسكرية تؤهلها لفرض شروطها – أو على الأقل جزء منها – على طاولة أي مفاوضات مستقبلية، حتى لو وصل الأمر إلى التلويح مرة أخرى بالرادع النووي، إذ تحدد تلك الحرب ونتائجها بشكل كبير مسار مستقبل بوتين السياسي، وهو ما سيمثل ورقة ضغط قوية على الغرب والمجتمع الدولي الذي يعاني من استمرار تلك الحرب لا سيما على المستوى الاقتصادي.
الوصول إلى مرحلة “الكفر بالمسار السياسي” سيُدخل الحرب نفقًا آخر، ربما تكون تبعاته على الجميع غير متوقعة، وهو ما يعيه الجميع جيدًا رغم خطاب العناد المستخدم، الأمر الذي يجعل الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يتطلب مزيدًا من الجهود الدبلوماسية التركية مع احتمالية دخول وسطاء آخرين على الخط، لكن يبقى السؤال: متى ترضخ واشنطن وموسكو لتلك الضغوط؟