دخلت منطقة شمال وشرق سوريا منذ أسابيع حالة من الحرب التركية غير المعلنة ضد الوحدات الكردية المتمثلة بـ”قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة بـ”قسد”، ويبدو أن التحركات التركية هذه المرة كثفت بشكل لافت وجود الطيران المسير في ضرب تجمعات الميليشيات الكردية، وعلى الرغم من أن هذه التحركات لا تعتبر عملية عسكرية منظمة لأنقرة، فإنها تشكل هاجسًا للعديد من الفاعلين في الشأن السوري كروسيا وأمريكا وغيرهما.
تتزامن التحركات التركية في المناطق السورية مع عملية عسكرية واسعة تجريها القوات التركية ضد الوحدات الكردية الموجودة في مناطق متينا وزاب وأفشين ـ باسيان شمال العراق، وفي هذا السياق أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده “لن تقف عند قصف مواقع ميليشيا قسد والتنظيمات الإرهابية في سوريا، وذلك عقب تكرر استهدافها للمناطق السكنية شمال سوريا”.
تهديدات تركيا
أشار الرئيس التركي إلى أن العمليات في العراق من الممكن أن تتوسع لتشمل أجزاءً من سوريا، وهو ما يشير إلى تصعيد في حدّة الخطاب التركي تجاه التنظيمات الكردية، وأوضح أردوغان أن أنقرة تقصف “مواقع الإرهابيين المحددة مسبقًا عبر أسلحة طويلة المدى”، لكنها لن تكتفي بذلك حال عدم قيام الأوساط ذات النفوذ في المنطقة بمنع تلك الهجمات، ما يشير إلى تهديدات تركية بتدخل تركي جديد في المنطقة.
الجدير بالذكر أن التوتر الذي بدأ مطلع شهر أبريل/نيسان بين القوات التركية و”قسد”، سبقه هدوء استمر شهورًا وذلك عقب التهديدات التركية في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي بالتجهيز لعملية عسكرية في منطقة عين عيسى شرق الفرات، وقد هدد حينها الرئيس التركي بأن “صبر بلاده نفد حيال بؤرة الإرهاب شمالي سوريا، وأنها عزمت القضاء على التهديدات القادمة من تلك المنطقة”، إلا أن التهديدات التركية حينها لم تنفذ بفعل الحراك الحاصل على أكثر من صعيد في الملف السوري وخصوصًا الضغوط الأمريكية والروسية في هذا السياق.
وفعليًا فإن أنقرة عملت على إبعاد أخطار الوحدات الكردية عن حدودها مع سوريا عبر عمليات غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام في المناطق السورية المحاذية لحدودها، لكن الخطة التركية لم تكتمل، فالجيش التركي ما زال يضع نصب عينه السيطرة على الكثير من المناطق مثل عين عيسى ومنبج وتل رفعت، لكن الأمر مقيد بالتفاهمات مع موسكو وواشنطن، كما أنه محكوم بظروف المنطقة التي تتداخل فيها السيطرة بحسب الأطراف.
التوتر المستمر
في الشهر الأول من هذا العام، قتل 3 جنود أتراك بعد استهداف عربتهم العسكرية عند الجدار الحدودي بين سوريا وتركيا وبالتحديد في منطقة “نبع السلام” التي تضم عدة بلدات وقرى أهمها تل أبيض، وقد اتهمت أنقرة “حزب العمال الكردستاني” بتنفيذ هذا الهجوم، بعد هذا الهجوم قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار: “الاعتداءات من خارج حدودنا باتت لا تطاق، وعملياتنا العقابية ستتصاعد”، مضيفًا أنه سيصل إلى الإرهابيين والخونة أينما كانوا.
ولم تكتف “قسد” باستهداف الجيش التركي، إنما عملت في الشهور الماضية على استهداف المناطق والبلدات التي تقع تحت سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، وقتل في هذه الاستهدافات العديد من المدنيين كالهجوم الذي حصل في عفرين وقتل فيه 6 أشخاص سوريين نتيجة قصف الميليشيات الكردية للمدينة، ومع كل استفزاز تقدم عليه “قسد” يقابله رد فعل تركي إن كان على سبيل الرد العسكري أو إرسال الإشارات، وهو ما فعله وزير الدفاع التركي بزيارته للمنطقة الحدودية لبلاده مع سوريا عقب الهجوم، واصفًا استهداف المدنيين “بالهجوم الدنيء وغير الإنساني من عناصر قسد الإرهابيين”.
إلى ذلك، حاولت “قسد” عبر وسائل إعلامها الترويج بأن الجيش التركي وقوات المعارضة السورية تجهز لشن هجوم بري على مواقع بريف الرقة، وبالفعل تصاعدت الهجمات التركية منذ فبراير/شباط على مقرات “قسد” وطرق الإمدادات والقرى التي تقع تحت سيطرتها، لكن دون إشارات على وجود هجوم بري وشيك.
وفي هذا السياق أصدر “مركز جسور” للدراسات تقريرًا أوضح فيه أنه لا وجود لمؤشرات كافية على هجوم تركي وشيك على الرغم من ترويج قسد للأمر.
ويرجع المركز السبب لهذا الترويج إلى “السعي للحصول على موقف من الولايات المتحدة للضغط على تركيا من أجل تقليص حجم ضرباتها وعملياتها العسكرية ضد قسد وحزب العمال الكردستاني بدعوى التأثير على سير عمليات مكافحة الإرهاب”، مضيفًا أن كلام قسد عن عملية تركية وشيكة ما هو إلا لتوفير غطاء لسياساتها المستمرة في التجنيد القسري والتعبئة بدعوى الجاهزية العسكرية، كذلك فإنها محاولة إشغال السكان في مناطق سيطرتها عن المشاكل الاقتصادية والمعيشية الداخلية التي يعيشونها والناجمة عن الفساد وسوء إدارة الموارد واستنزافها من كوادر حزب العمال.
لكن، صحيح أنه لا توجد مؤشرات لهجوم بري وشيك أو عملية واسعة إلا أن تكتيكات جديدة باتت تتبعها تركيا في تحركها ضد “قسد”، ما يمهد لجولة جديدة بأدوات مغايرة لما سارت عليه المعارك سابقًا، فقد اتبعت تركيا في الأسابيع الأخيرة سياسة استهداف القيادات البارزة في “قسد” عبر الطائرات المسيرة، كذلك باتت هذه الطائرات تحلق بكثافة وتستهدف المقرات، ما ساهم في تقليص حركة هذه الميليشيات، وتستغل القوات التابعة للمعارضة السورية القصف التركي المستمر بتعزيز تحصيناتها في مناطق التماس مع “قسد”، كما أنها تعمل على ضرب تحصينات الأخيرة بغرض إضعافها.
وفي اليومين الأخيرين، كثفت القوات التركية قصفها المدفعي والصاروخي، على مواقع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الموجودة في قرى وبلدات ريف حلب الشمالي، خاصة في محيط بلدة تل رفعت وقرية عين دقنة التابعتين لمنطقة الشهباء شمالي حلب.
إدلب على الخط
إلى ذلك، تتزامن التحركات التركية في شمال وشرق سوريا بتحركات جديدة لروسيا والنظام السوري في مناطق إدلب، إذ شنّ الطيران الروسي بين 23 و25 أبريل/نيسان 2022، قُرابة 12 غارة جوية على مناطق ريف إدلب، وهذه المناطق تنتشر فيها القواعد العسكرية التركية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه في ذات الوقت تعرضت مدرعة تركية لصاروخ موجه من مناطق سيطرة النظام السوري المتاخمة لعفرين.
ويبدو أن التحرك الروسي جاء لتذكير أنقرة بأنها ما زالت الطرف الأكثر تأثيرًا على الساحة السورية رغم الانشغال بغزو أوكرانيا، وفي هذا الصدد يقول “مركز جسور“: “موسكو لا تنظر بارتياح إلى ارتفاع وتيرة العمليات الجوية التركية ضد كوادر حزب العمال الكردستاني والمجالس العسكرية التابعة لقسد شمال شرق سوريا، التي تتم غالبًا بمجرد الإخطار، أي دون تنسيق كافٍ معها، حيث تحاول أنقرة استثمار الظروف السياسية الراهنة لتحقيق جملة من الأهداف الأمنية”.
وكما تريد موسكو لفت الأنظار في إدلب وريفها وممارسة الضغط على تركيا هناك، تتوجه أيضًا إلى مناطق سيطرة “قسد” حيث أنشأت القوات الروسية نقطة عسكرية جديدة بريف مدينة عين العرب “كوباني”، كما وصلت تعزيزات عسكرية للقوات الروسية إلى مطار القامشلي بمحافظة الحسكة في شمال شرقي سوريا.
وبالعودة إلى التصعيد الروسي في إدلب، يقول مركز جسور: “من المحتمل أنّ روسيا تنتهج أسلوب الضغط العسكري في محافظة إدلب التي تنتشر فيها القوات التركية، بهدف التأثير على قرارات أنقرة السياسية، عَبْر إعادة التأكيد على قدرتها على تهديد الأمن القومي التركي حال كان لديها رغبة بتعزيز التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة على حساب روسيا”.
يذكر أن القوات التركية الموجودة في مناطق ريف إدلب، وبالتحديد في منطقة جبل الزاوية، بدأت بتغيير أماكنها وقواعدها وتغيير بعض التكتيكات في المنطقة، وكانت القوات التركية قد زجت بتعزيزات عسكرية ضخمة في مارس/آذار الماضي إلى قواعدها في محافظة إدلب، وتضمنت التعزيزات عربات مدرعة وراجمات صواريخ وأجهزة تشويش.
وقد بدأت هذه التغييرات التركية تشتد بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فيما يبدو أن أنقرة تريد الاستفادة من ارتدادات الملف الأوكراني لتقوية حضورها إقليميًا خاصة في سوريا وتعزيز وجودها على حساب الوجود الروسي والعمل على ضرب أعدائها من الميليشيات الكردية عسكريًا بالتزامن مع فتح الموضوع سياسيًا مع الفاعلين على رأسها واشنطن، داعم ومموّل منظمة “قسد”..