يرتبط العيد في مصر بحزمة من الطقوس والمظاهر جعلت المحروسة واحدةً من أكثر مناطق العالم جذبًا للسائحين في مثل تلك المناسبات التي تتميز بخصوصية قلما توجد في بلد آخر، يتساوى في ذلك العادات المنزلية أو تلك التي تشهدها الشوارع والطرقات والميادين العامة.
من الكعك والبسكويت وأشهى الأطباق والمأكولات مرورًا بالملابس الجديدة والأغاني والأهازيج حتى الصباح من مخارج المحال والمولات ووسائل المواصلات، وزخات الكرم والتكافل التي تمطر سماء متوسطي ومحدودي الدخول، وصولًا إلى ساحات العيد المكتظة وتبادل العناق وزخم الزيارات العائلية، ظلت مصر متربعة على عرش الاحتفالات بعيدي الفطر والأضحى.
السنوات الأخيرة تحديدًا شهدت تغيرًا ملحوظًا في خريطة الاحتفاء وطقوس العيد، كان مرده الأساسي القفزات الجنونية في أسعار السلع والخدمات التي جردت المصريين من قدراتهم على الاحتفال الذي تحول إلى حلم يطرب خيالات الجميع على ألحان الماضي وشريط الذكريات دون القدرة على معايشته واقعيًا.. فما الذي حدث؟ وهل فقد المصريون شغف فرحة العيد التي كانت سمتهم المميزة لعشرات القرون؟
هكذا كانت الاحتفالات قديمًا
“كان من النادر أن تجد بيتًا لا تخرج من بين ثناياه مظاهر الفرحة بالعيد، التجمعات النسوية داخل المنازل لصنع الكعك ومشتقاته، الأهازيج التي كانت تهز أركان المنزل، الأطفال الصغار المنتشون بالفرح والسرور أمام البيت”، هكذا حاول الصحفي عزت جاد، استعادة ذكرياته القديمة مع الاحتفال بالعيد في بلدته بمحافظة الدقهلية (شمال شرق).
ويضيف جاد أن القرية التي ولد بها كانت تتميز في السابق بطقوس ما عادت موجودة تلك الأيام، أبرزها حالة التكافل بين الناس، إذ من المحال أن يدخل العيد وهناك بيت لم يدخله السرور، فالخير الوفير كان يعم الجميع، منح ومساعدات وتكافل، حتى إذا جاء صباح العيد كان الكل في أبهى صورة، يتساوى في ذلك الغني والفقير.
الاحتفال بالعيد وتنسم عبير فرحته، بجانب أنه فريضة إلهية وسنة نبوية، فهو ضرورة اجتماعية لالتقاط الأنفاس وشحن الروح مجددًا لتحمل صدمات بقية العام
أما حسناء (50 عامًا) وتعمل معلمة بإحدى المدارس الثانوية في محافظة الغربية، فتشير إلى أن احتفالات العيد كانت تبدأ مع بداية العشر الأواخر من رمضان، فتملأ الزينة أركان البلدة، وتكتسي جدرانها برسومات الفرحة بقدوم الضيف السعيد، هذا بخلاف الأهازيج التي كان يرددها الأطفال في الشوارع على أنغام “طبلة” المسحراتي.
وتستعيد المعلمة المصرية بعض مفردات والدتها في مثل تلك الأيام، حين كانت تعلق على حالة التكافل العظيمة التي كانت بين الناس في قريتها “في بلدنا محدش مينفعش ميفرحش، الكل لازم يفرح، العيد ربنا أحله لينا عشان نفرح، الغني يساعد الفقير إنه يفرح، والصحيح يدعم المريض إنه يفرح.. لو جاء يوم العيد وفي البلدة شخص واحد فقط حزين لا يسمى عيدًا ولا يجوز لنا أن نفرح”.
واليوم صارت
السنوات القليلة الماضية تغير الوضع بصورة جذرية، وعامًا تلو الآخر تتقلص مظاهر الاحتفاء بالعيد، في البداية كان البعض يعتبرها حالةً عابرةً وستمر سريعًا، لكن الأمور بدأت تخرج عن سياقها المتوقع، ليفقد المصريون شيئًا فشيئًا شغف فرحة العيد.
“عيد.. بأي حال عدت يا عيد”.. بنبرة يكسوها الألم، أجاب سيد عن سؤال بشأن مظاهر فرحته بالعيد، مشيرًا إلى أن إحساس الفرحة القديم تراجع بشكل واضح، قائلًا: “كنا زمان بنفرح من أقل حاجة، دلوقتي الوضع اختلف مهما كان الوضع أفضل مما كان عليه”.
ويرى المحاسب المصري (48 عامًا) أن ضغوط الحياة الاقتصادية والاجتماعية كان لها تأثيرها القوي في عدم الإحساس بفرحة العيد كما كان في السابق، منوهًا في حديثه لـ”نون بوست” أن البساطة والرضا بالقليل والتكافل كانت العناوين الأبرز للسعادة قديمًا، أما اليوم وفي ظل حالة الزخم والتكالب على الحياة والانخراط في تروس المعيشة الصعبة، تسللت الفرحة من بين ثقوب تلك الضغوط.
تصدرت الأسعار قائمة المتورطين في جريمة إجهاض فرحة المصريين بالعيد، فالقفزات الجنونية التي شهدتها خلال الآونة الأخيرة مع ثبات نسبي للأجور والرواتب، وضع متوسطي ومحدودي الدخل في مأزق حرج وخطير
ويستعرض سيد الطقوس التي اختفت من المجتمع المصري فاختفى معها الشغف بالأعياد عمومًا أبرزها “عدم إحساس الناس ببعضها” فلم يعد الفقير على رادار الأغنياء، فغاب عنصر التكافل بشكل نسبي، فزاد من تأزم بعض الأسر، هذا في الوقت الذي تخلت فيه الحكومة عن الجميع وتركت الشعب يتعامل مع بعضه البعض وفق متوالية معينة، ما ساهم في تعميق الأزمة.
وفي المقابل يرى “خالد” الذي يعمل أستاذًا جامعيًا، أن الوضع مهما كان يجب ألا يسحب من المصريين بساط فرحتهم بالعيد، فقد خلق الله تلك المناسبات لإدخال السرور على المسلمين، ومن ثم لا يمكن بأي حال من الأحوال السماح لأي منغص مهما كان أن يسلبهم تلك المنحة الربانية التي تأتي مرتين فقط في العام.
ويشير الأكاديمي المصري في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن العالم كله يمر بأزمات المعيشة الحاليّة، بسبب ظروف بعضها عالمي والآخر محلي، لكن ذلك ليس سببًا كافيًا لأن يتخلى المصريون عن تلك المناسبات التي من المفترض أن تشحن بطاريات مقاومتهم للضغوط وتبث في صدورهم الأمل والفرحة بما يؤهلهم على الاستمرار والتحدي لحين تحسين الأوضاع.
الأسعار.. كلمة السر
تصدرت الأسعار قائمة المتورطين في جريمة إجهاض فرحة المصريين بالعيد، فالقفزات الجنونية التي شهدتها خلال الآونة الأخيرة مع ثبات نسبي للأجور والرواتب، وضع متوسطي ومحدودي الدخل – وهم السواد الأعظم من الشعب المصري – في مأزق حرج وخطير.
“قبل عشر سنوات تقريبًا أو أقل قليلًا كنا نشتري ملابس العيد لأبنائي الثلاثة وزوجتي بمبلغ لا يتجاوز 1000 جنيه، اليوم لا يكفيني 5000 جنيه لشراء نفس الملابس، علمًا بأن راتبي لا يتجاوز 3200 جنيه”، هكذا علق مصطفى (50 عامًا) الذي يعمل في إحدى مطابع الكتب، على أسعار ملابس العيد هذا العام.
هذا بخلاف أسعار مستلزمات العيد التي لا تقل في مستوياتها السعرية القياسية عن الملابس، التي ما عادت تتناسب وظروف معظم المصريين، “طبعا البيت لم يعرف شكل الكعك وأقرانه منذ أكثر من 3 سنوات، بعيدًا بقى عن فسح العيد وخروجات زمات، محتاج ميزانية أخرى لا أقدر عليها حاليًّا”.. هكذا أضاف في حديثه لـ”نون بوست”.
يذكر أن السلع في مصر – كما هي في العالم – شهدت ارتفاعًا جنونيًا في خريطة الأسعار، تجاوزت في بعضها حاجز الـ500%، فيما زادت معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، وهو ما ترتب عليه فجوة كبيرة أخرجت ملايين المصريين من زمرة القادرين على تحمل كلفتها، وهو ما يمكن قراءته في المؤشرات الرسمية عن الوضع المعيشي في مصر، فأكثر من 30 مليون مواطن تحت مستوى خط الفقر، فيما تشير التوقعات إلى زيادة هذا الرقم مستقبلًا بصورة ربما تصل إلى أكثر من الضعف حال استمر الوضع على ما هو عليه.
لم تكن الأسعار وحدها سبب فقدان شغف الإحساس بالعيد، فهناك أبعاد سياسية واجتماعية أخرى تزيد من المعاناة، كتضييق الخناق وكبت الحريات وإستراتيجية الاعتقالات وخنق المجال العام، فهناك أكثر من 60 ألف أسرة على سبيل المثال لا تشعر بالعيد من الأساس لوجود أحد ذويها خلف السجون والمعتقلات لا لأسباب جنائية إنما بسبب آرائهم السياسية حسبما تشير المنظمات الحقوقية الدولية.
ورغم تلك المعطيات يبقى التمسك بالعيد كمناسبة لاستعادة الفرحة المفقودة وفرصة يجب التمسك بتلابيبها، منهجًا لدى الكثيرين ممن يرون أن السحب مهما كانت حالكة لا يمكن أن تعكر صفو الأجواء، فبعيدًا عن كونها فريضة إلهية وسنة نبوية، فالاحتفال بالعيد وتنسم عبير فرحته ضرورة اجتماعية لالتقاط الأنفاس وشحن الروح مجددًا لتحمل صدمات بقية العام.