ما زال أحمد العلي (33 عامًا) من قاطني محافظة الحسكة يلملم أحزانه بعد وفاة أخيه “محمد” نتيجة انفجار خزان وقود في إحدى الحراقات البدائية بريف الحسكة، العام الفائت.
أحمد العامل أيضًا في نفس الحراقة يصف المشهد بالمأساوي بعد رحيل أخيه تاركًا ورائه أسرة مكونة من سبعة أفراد، يروي أحمد لموقع “نون بوست” تفاصيل ذلك اليوم، قائلًا: “سمعنا صوت انفجار خلال فترة الظهيرة ثم توجهنا إلى مكان الانفجار فوجدت أخي ملقيًا على الأرض دون حراك”.
متابعًا “كنت أخرج برفقة أخي فجر كل يوم إلى الشدادي بريف الحسكة للعمل في الحراقة، كانت مهمتنا جلب النفط الخام وإيقاد النار تحت خزان الحراق لمدة 15 إلى 20 ساعة، ثم نجمع باقي عملية التكرير من شوائب ونفايات صلبة لنبيعها بغرض استخدامها بالتدفئة”.
لافتًا إلى أن “أقسى ما يواجهه العامل هو تنظيف الخزان وإزالة الشوائب العالقة بجدرانه وقاعه، فقد كان علينا تحمل الحرارة العالية داخل الخزان والرائحة الواخزة الكريهة التي تسبّب الغثيان لكثير من العمال، التي لا ينفع معها عشر كمامات”، حسب وصفه.
وأكد أحمد أنه “ترك العمل في الحراقة بعد وفاة أخيه مباشرة، نتيجة التهاب القصبات الهوائية الحاد الذي يعاني منه بسبب تعرضه المستمر للدخان الناتج عن عملية حرق النفط لفترات طويلة”.
أسر تبكي أطفالها
انتشرت الحراقات البدائية منذ اندلاع الثورة السورية وانسحاب النظام من العديد من المناطق، إذ زادت الحاجة الملحة لإشباع الأسواق بالمحروقات التي تُنتَجُ عن طريق الحراقات البدائية، إبان حكم تنظيم الدولة وبعد انحساره وبسط قسد سيطرتها، فقد عملت قوات قسد لسد النقص والاحتياجات على بيع النفط الخام لبعض التجار الذين اشتروا مصاف صغيرة لتكرير النفط ومن ثم بيعه، إضافة لإصدارها تراخيص لعشرات الحراقات البدائية بالعمل في المنطقة.
حيث يتم بها حرق النفط وتكريره بدائيًا، لتأمين الاحتياجات من الوقود للسيارات والتدفئة ومجالات أخرى، إلا أنها كانت وبالًا على حياة الناس، فبالإضافة إلى مخاطر انفجار خزاناتها، ظهرت حالات اختناق (بلع اللسان) بين العاملين جراء استنشاق الغازات الصادرة عنها، وظهور حالات تشوه بين الأطفال حديثي الولادة، وفقدان الحوامل أجنتهنّ.
“أبو الشابيّ” (30 عامًا) من سكان الشدادي بريف الحسكة، متزوج منذ سنتين تقريبًا، فقدت زوجته جنينها بعد أن شعرت بإعياء ووهن جسدي وانعدام حركة الجنين في بطنها، وعند مراجعة الطبيبة المختصة أكدت لهم أن الجنين مات منذ فترة في بطنها.
ولفت أبو الشابي لموقع “نون بوست” إلى أن الطبيبة رجّحت أن السبب هو تلوث الهواء بسبب قرب بيتهم من حراقة بدائية، مضيفًا “لا يمكن لأحد تحمّلُ تلك الراوئح الناتجة عن التكرير التي تؤدي إلى سعالٍ مزمن وحشرجة في الصدر”.
أمراض خطيرة وآثار قد تمتد لسنوات
مع انبعاثات الحراقات التي تُلحق أضرارًا صحية عديدة بالجسم، ظهرت أمراض أخرى خطيرة أهمها: السل والسرطان نتيجة المواد العضوية السابحة في الهواء، حتى بات الأهالي يتمنون استنشاق الهواء النقي، فضلًا عن ارتفاع أعداد مراجعي المراكز الصحية الذين يعانون أمراضًا تنفسيةً والنساء الحوامل والأمهات اللواتي يصطحبن معهن أطفالهن الصغار وحديثي الولادة.
يقول الطبيب محمود لموقع “نون بوست” (فضل عدم كشف نسبته) وهو طبيب مختص في تشخيص وعلاج أمراض الطفولة منذ الولادة: “هناك حالات تشوهٍ كبيرة عند الأطفال حديثي الولادة، فمنهم من يولد ولديه فتحة في القلب أو نقص في التروية، أو التهاب حاد بالرئة أو ضعف واضح في البنية وتأخر النمو، وهذا ناشئ عن استنشاق الأم الحامل أو المرضع لانبعاثات الحراقات شديدة الضرر”.
لافتًا إلى أن تعرض النساء الحوامل لتلك الغازات الصادرة عن الحراقات يعتبر سببًا مهمًا لولادة أطفال مشوهين أو حتى وفاتهم بسبب التشوهات بعد ولادتهم أو داخل أرحام أمهاتهم.
وأضاف الطبيب محمود “حتى البالغ لا يسلم من الضرر، وخاصة التهاب الجيوب الأنفية والإصابة بالربو التي قد تصل حد الاختناق والموت والالتهابات الجلدية المزمنة والتهابات العيون، والأضرار قد تدوم آثارها لعشرات السنوات”.
جهود لتقليل الحراقات تتضارب مع توقف أرزاق العمال
نظرًا لما تسببه عمليات تكرير النفط من أمراض وآثار صحية سلبية، كانت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بداية العام الحاليّ قد أنشأت مصفاة نفط متطورة في حقول الرميلان بريف محافظة الحسكة شمال سوريا بالتعاون مع شركة أمريكية، وبطاقة إنتاجية تبلغ 3 آلاف برميل نفط يوميًا، في سعي منها أيضًا لتقليل الاعتماد على حراقات النفط البدائية، من جهة أخرى منع المدنيين من وجود حراقات ضمن المناطق السكنية المأهولة، خاصة أن أضرارها لحقت بالمواشي المحلية، وأصابتها بأمراض متنوعة أهمها الجرب، كما لحقت تلك الأضرار محاصيلهم الزراعية.
يقول إبراهيم الحسين صحفي في الريف الشرقي لدير الزور لموقع “نون بوست”: “الحراقات منتشرة بشكل كبير في مناطق شمال شرق سوريا، في أرياف دير الزور والحسكة والرقة، ولا يوجد إحصائية لعددهم”، لافتًا إلى أن “قوات قسد بالإضافة لاعتمادها على إنتاج تلك المحارق فهي تعتمد أيضًا على حراقات كهربائية تابعة لها”.
ما زال المدنيون بين حدين: الأول احتياجهم إلى المشتقات النفطية، والثاني ضريبة يدفعونها من صحتهم وصحة أطفالهم بسبب انعدام الوسائل التي تمنع انتشار تلك الغازات السامة
ولفت الحسين إلى أن “إنتاج الحراقة متفاوت بين حراقة وأخرى، لكن متوسط إنتاج الحراقة الواحدة من 7-8 براميل يوميًا، وأجرة العامل متفاوتة أيضًا حسب خبرة العامل تبدأ من 5000 ليرة سورية إلى عشرين ألف ليرة يوميًا، أي ما يعادل 1.28$ حتى 5$ تقريبًا”.
ويشير الحسين إلى أن “العاملين في الحراقات يفتقدون لوسائل حماية ووقاية ضمن عملهم، إضافة إلى عدم اعتراف صاحب العمل بحقهم في التعويض، إذا لحق بهم ضرر ما، أو التكفل بعلاجهم”.
مؤكدًا “مخاطر انفجار خزان الحراقات، قد يؤدي لحالات تشوه قد تصل بنسبة 100% أو 75%، أو تسبّب إعاقة دائمة، والأغلب فقدٌ للحياة، فكل عامل في مجال تكرير النفط يعلم حقيقة المخاطر التي يسببها العمل على صحته، إلا أن الدافع المادي وتردي الأوضاع المعيشية وانتشار البطالة هي ما يجبر العاملين على اختيار هذه المهنة”.
من جهته، تواصل “نون بوست” مرتين عبر تطبيق واتساب مع مدير المكتب الإعلامي لمجلس دير الزور المدني التابع للإدارة الذاتية بهدف إيصالنا بالمسؤولين المعنيين بغرض توضيح بعض النقاط، إلا أن مدير المكتب أكد في المرة الأولى أن أعضاء المجلس غير مخولين بالحديث، وفي المرة الثانية زعم بأنه قدّم استقالته منذ فترة، رافضًا إيصالنا بالمدير الجديد.
ومع تفاقم معاناة المدنيين شمال شرق سوريا، ومع ما تركته الحراقات ومخلفاتها من أذى صحي وبيئي ما زال المدنيون بين حدين: الأول احتياجهم إلى المشتقات النفطية، والثاني ضريبة يدفعونها من صحتهم وصحة أطفالهم بسبب انعدام الوسائل التي تمنع انتشار تلك الغازات السامة وتقلل من أخطارها وتقي العمال منهم بتلك الحراقات من أمراض يبدو أنها لن تستثني البشر والشجر.