تناقضت الروايات الصهيونية والعربية بشأن قبر يوسف الموجود في بلدة بلاطة بمدينة نابلس، شمال المحافظات الفلسطينية على حدود 1967، وقد شهد هذا القبر معارك دموية بين الفلسطينيين والصهاينة على مرّ العقود، ما تزال مستمرة إلى اليوم.
بدأت أولى المواجهات في التسعينيات من القرن الماضي، خلال أحداث “هبة النفق الفلسطينية” وهو أول خرق لاتفاقية السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات والاحتلال الإسرائيلي، تعود أحداث هبة النفق إلى اكتشاف نفق إسرائيلي أسفل الأحياء المقدسية، حيث كان يمتد إلى داخل أسوار المسجد الأقصى.
كانت غزة ونابلس المسرح الأكبر للعمليات الفدائية ضد “إسرائيل”، فبالحديث عن نابلس، حاصر جنود الأمن الفلسطيني مقام يوسف وقتلوا عددًا من جنود الاحتلال الإسرائيلي وحاصروا 40 مجندًا آخر، فأعلن الصهاينة استسلامهم للفلسطينيين قبل أن يتم الإفراج عنهم باتفاقية جديدة لوقف إطلاق النار.
بدأت المعركة الثانية خلال أحداث انتفاضة الأقصى عام 2000، حين دارت اشتباكات على مدى أيام بين الفدائيين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، وسقط فيها عدة ضحايا من الطرفين، أدت في النهاية للانسحاب الإسرائيلي الكامل من محيط المقام، ومن بلدة بلاط التي يوجد بها المقام، وتسليمه للإدارة الفلسطينية، وكانت من أول مظاهر الاستقلال الفلسطيني على حدود 1967، لكن عاد الاحتلال للسيطرة عليه وتدنيس المنطقة في عهد رئيس السلطة الحاليّ محمود عباس.
ويجب التفريق جيدًا بين مصطلحي “ضريح ومقام”، فالأول يعني القبر والثاني هو البناء الذي يضم بداخله القبر.
والآن يتنازع العرب والصهاينة على “مقام” يوسف بين أنه مقام يضم بداخله “ضريحًا” لأحد الأولياء الصالحين للمسلمين أو نبي لليهود، وروايات من أديان أخرى تُطالب بالمقام بصفة أن الضريح بداخله النبي يوسف، وهو مبجل عند كل الأديان، وقد وُلد فلسطينيًا.
هل ضريح يوسف هو لنبي أم لقديس مسيحي أم عالم مسلم؟
يقول الباحث في التاريخ النابلسي الدكتور لؤي أبو السعود لـ”نون بوست”: “لمعرفة أصول ضريح يوسف، يجب الرجوع للرواية الأقدم التي تكلمت عنه، وهي في الزمن البيزنطي الروماني في فلسطين، فالمخطوطات الرومانية التي ما زالت موجودة في باريس وإسطنبول والأردن عن الأراضي الفلسطينية، تكلمت عن خريطة موقع يوسف”.
وبالعودة قليلًا للعصور السابقة، في الأردن حيث كنيسة القديس “جرجس” حاليًّا، توجد بها خريطة “مأدبا” الشهيرة، وهي أقدم خريطة فسيفسائية للأرض المقدسة في العالم، يتجلى من خلالها فنون الرومان قديمًا، وتعود لعام 333 ميلاديًا، وضمن هذه الخريطة وصف لـ”قبر شخص يُدعى يوسف بجوار كنيسة بئر يعقوب القريبة منه” بمدينة نابلس، ويتوقع الباحث التاريخي لؤي أبو السعود بأنه لقديس مسيحي باسم “جوزيف” كون المكان اعتبر مكانًا للديانة المسيحية في زمن البيزنطيين.
لكن مخطوطة بيزنطية فرنسية كُتبت باللغة اللاتينية باسم “صاحب رحلة الحج الأولى من بوردو للأراضي المقدسة”، دعمت خريطة “مأدبا” عندما ذكرت أنه “قبر” ليوسف النبي، وقد نشرت صحيفة العربي الجديد ترجمة المخطوطة باللغة العربية، ولم تذكر المخطوطات البيزنطية أي دلائل تُشير إلى اتخاذ اليهود الفلسطينيين من الضريح مكانًا مقدسًا، هذا يعني أنه لا يحق لليهود الصهاينة الذين يحتلون فلسطين حاليًّا المطالبة بشيء لم يطالب به اليهود الأصليون من فلسطين.
لكن بالرجوع لرواية المخطوطة الفرنسية (حاج من بوردو للأراضي المقدسة)، ذكرت أنه اعتمد على روايته نقلًا عن “السامريين”، لكن كديانة مسيحية تبنتها الدولة البيزنطية، فقد اعتمدت بأن ضريحه في قلعة القديس إبراهام، وهو المسجد الإبراهيمي حاليًّا في الخليل، وسيتم الحديث عن قبر يوسف هناك خلال هذا التقرير.
يُضيف الدكتور أبو السعود “بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، وسيطرة الصهاينة على نابلس، ادعى اليهود الصهاينة أن الضريح لنبيهم، وهي أول خطوة يهودية تنسب المكان كمقام مقدس لها في فترة متأخرة، فقد جاء ذلك لتبرير احتلالهم لنابلس والضفة الغربية، بعد المطالبات العالمية بالانسحاب من المدينة، ليدخلوا في صراع مع المسلمين”.
قصة الضريح لدى السامريين
السامريون هم الطائفة البشرية الأقدم على وجه الأرض، الطائفة الوحيدة المتبقية من سلالة بني إسرائيل، وهم فلسطينيو الأصل، إذ يُعتبر الموطن الأصلي لـ”بني إسرائيل” الأرض الفلسطينية، وتعدادهم حاليًّا أقل من 1000 شخص، قبلتهم الدينية الأساسية ومكانهم المقدس في جبل جرزيم بمدينة نابلس.
وحينما نقول الديانة الإسرائيلية أو ديانة السامريين، أي ديانة طائفة بني إسرائيل الفلسطينية بجميع أسباطها، تختلف عن الديانة اليهودية وعن توراتهم التي تقودها العصابات الصهيونية في فلسطين بعد عام 1948، وجاؤوا من بلدان أوروبا.
بما أن وجود الضريح في نابلس مرتبط بروايات طائفة بني إسرائيل التي ينتمي إليها سيدنا يوسف عليه السلام، وهو ابن النبي إسرائيل “يعقوب”، فوجب أن نأخذ بعض المعلومات من سلالته المتبقية، وهي السلالة السامرية، وهم في عداء شديد مع الصهاينة لأنهم يحاولون تدنيس مقدسات الطائفة الإسرائيلية السامرية في “جبل جرزيم“.
تم ذكر قصص التيه لبني إسرائيل في سيناء ودخولهم لفلسطين بقيادة يوشع بن نون في الروايات الإسلامية والقصص القرآنية، دون الحديث عن قصة جثة النبي يوسف
ويُضيف الكاهن حسني السامري في حديث خاص لـ”نون بوست” “حينما أمر الله بني إسرائيل بمغادرة مصر والتوجه لفلسطين بقيادة النبي موسى عليه السلام، أخذوا معهم عظام النبي يوسف لدفنه في موقع الأرض التي اشتراها أبوه النبي يعقوب – إسرائيل، من الكنعانيين في مدينة نابلس، لكنهم في طريقهم لفلسطين تاهوا في سيناء قرابة 40 سنة، ووجدوا أنفسهم بعد هذه المدة في صحراء الأردن، لكن موسى لم ينله الحظ بدخول الأرض المقدسة، فقد توفي بالأردن، وحمل رايته من بعده يوشع بن نون، ودخلوا فلسطين ودفنوا نبيهم في المكان الذي يوجد فيه الضريح حاليًّا، قبل تأسيس مملكة بني إسرائيل“.
ولقد تم ذكر قصص التيه لبني إسرائيل في سيناء ودخولهم لفلسطين بقيادة يوشع بن نون في الروايات الإسلامية والقصص القرآنية، دون الحديث عن قصة جثة النبي يوسف.
لقد تبنت توراة اليهود رواية السامريين، لكنهم تاريخيًا لم يكن لديهم أي تقديس للضريح أو مكان للتعبد فيه، وما يفعلونه الآن بعد 1967 هو لتبرير احتلال المدينة، ويتساءل الكاهن حسني: “من أين جاءت هذه الديانة اليهودية؟ ومن أين جاءت توراتهم التي يدعون فيها بأن كل أملاك الكنعانيين وبني إسرائيل لهم؟ وكيف أصبح اليهود الصهاينة يقولون عن يوسف ابن النبي إسرائيل الذين نحن من سلالته بأنه نبيهم؟”.
ضريح ارتبط تاريخيًا بالمسلمين
في حقيقة الأمر كان المقام طيلة هذه السنوات الطويلة منذ عهد الأيوبيين مرورًا بالمماليك والعثمانيين والإنجليز ثم الإدارة الأردنية على الضفة الغربية بعد عام 1948، حتى الاحتلال الإسرائيلي 1967، مكانًا إسلاميًا لم يُطالب به أحد من قبلهم كمكان مقدس سواء كان سامري أم يهودي، رغم ارتباط الضريح بروايات السامريين قديمًا.
ومع اعتراف السامريين بأنهم حُرموا من ممارسة حقوقهم الدينية في “جبل جرزيم المقدس” لأكثر من 1500 عام منذ زمن الإغريق مرورًا بالرومانيين، لم يُنصفهم ويعطيهم حقوقهم إلا المسلمين، فلم يكن هناك مُطالبات بالضريح كمكان ديني لهم، إلا الجبل المقدس.
في عام 635 ميلاديًا، دخل الإسلام لفلسطين لأول مرة بقيادة الخليفة عمر بن الخطاب بعد هزيمة البيزنطيين، الذي أعطى الأمان لطائفة بني إسرائيل الفلسطينية وحرية ممارسة أديانهم، التزامًا بوصاية النبي محمد قبل وفاته، وبالفعل للمرة الأولى بعد حرمان قرابة 10 قرون، مارسوا حقوقهم الدينية بالتعبد عند “جبل جرزيم” بنابلس، دون الالفات لمقام يوسف أو مطالبتهم به كمكان مقدس.
وفي كل العصور الإسلامية الفلسطينية لم يأخذ المسلمون أي كنيسة أو معبد يهودي أو سامري بالقوة، بل تميز الإسلام في فلسطين بالعدالة الاجتماعية والدينية، وعلى الرغم من ذلك، كانت الدولة الأيوبية أول دولة إسلامية تبني “المقام” حول الضريح عام 1187، وكانت هذه أول حالة تعمير للمقام، منذ جلاء الرومان عن فلسطين عام 635 بقيادة المسلمين، رغم الفارق الزمني بين العامين الذي يزيد على 5 قرون، وحرية الأديان للمسيحية واليهود والسامريين في تلك الفترة، لكنهم تجاهلوا بذلك قبر يوسف.
الروايات العربية عن الفرق بين الضريح والمقام
من ناحية إحدى الروايات الفلسطينية الحديثة التي تقول إن القبر بداخل المقام لشيخ مسلم يُدعى “يوسف الدويكات” وفقًا لبحث أجراه لمديرية الأوقاف الباحث عبد الله كلبونة عام 1984، وكانت المرة الأولى بتاريخ الإسلام التي يتم فيها نفي أن القبر للنبي يوسف، دون تقديم أدلة تدعم بحثه، ولأنه بحث منذ زمن قصير، فلا يمكن الارتكاز عليه، وقد تعرضت هذه الرواية للجدل بين تأييد من مؤرخين فلسطينيين ونفي.
في عهد العثمانيين، أبدوا اهتمامًا بالمقام أكثر من غيرهم، وعُثر على مخطوطة عثمانية تتضمن رسالة من السلطان عبد الحميد الثاني بتكليف عائلة الأسمر بحراسة “مقام النبي يوسف” بحماية عثمانية
فبخلاف الأبحاث الفلسطينية الجديدة التي تقول إنه لرجل مسلم وليس لنبي، كان المقام طيلة العصور الإسلامية مكانًا للمسلمين وتم الإجماع عليه أنه “مقام نبي”، دون الحديث عن ضريح، حيث اتخذوه مقامًا إسلاميًا بعد تحرير الأيوبيين لفلسطين من أيدي الاحتلال الصليبي عام 1187 ميلاديًا.
ويرى الباحث أبو السعود أن الأيوبيين اتخذوا “المبنى والمقام” نفسه حول الضريح باسم النبي يوسف، ولم يؤكدوا هوية الضريح، فأغلب المقامات في فلسطين بأسماء الأنبياء دون وجود أضرحتهم فيها، فمقام النبي موسى في أريحا مثلًا بناه الأيوبيون دون وجود أي ضريح بداخله.
يقول أبو السعود: “ازدهر مقام يوسف، حينما أمر السلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي بإقامة احتفالات سنوية ومواسم شعبية في كل فلسطين تزامنًا مع أعياد نيروز الكردية، فكانت في أريحا “موسم النبي موسى” وفي غزة “موسم المنطار” وفي مدينة الرملة “موسم النبي صالح”، وفي يافا “موسم النبي روبين”، لكل مدينة أعيادها التي تتعلق باسم المقام الذي بناه الأيوبيون”.
أما اسم الموسم في نابلس كان باسم “موسم النبي يوسف”، وذلك ارتباطًا باسم المقام وليس بالضريح، مثل باقي المقامات الأخرى، فقد كانت عادات إحياء احتفالات للأنبياء مشهورة عند الأيوبيين.
أما في عهد العثمانيين، فقد أبدوا اهتمامًا بالمقام أكثر من غيرهم، وعُثر على مخطوطة عثمانية تتضمن رسالة من السلطان عبد الحميد الثاني بتكليف عائلة الأسمر بحراسة “مقام النبي يوسف” بحماية عثمانية، ولم تذكر اسم ضريح.
وتوجد وثائق إسلامية تفيد بأن المقام مسجل لدى دائرة الأوقاف الإسلامية الأردنية عام 1956، حينما كانت الضفة الغربية تحت إدارة المملكة الهاشمية، إذ تم تحويله لمدرسة قرآنية بسبب النقص في عدد الفصول الدراسية في المدارس الأخرى، ولم تتحدث الوثيقة الأردنية عن هوية الضريح نفسه، لكنها اعتبرت هذا المكان من المقدسات.
وبالعودة للحديث مع هذه العائلة التي كُلفت من العثمانيين بحراسته، قال عبد الفتاح الأسمر: “بعد رحيل العثمانيين عن فلسطين وجاء مكانهم الاحتلال البريطاني في حدود عام 1920، اقتحموا المقام بمشاركة عدد من لصوص الآثار لتهريب الضريح لبلاد أوروبا، وبعد عملية الحفر والبحث وجدوه فارغًا، فهو مقام بداخله مجسم لقبر دون وجود أي ضريح”.
وحينما اعتمدت الدولة العثمانية فعليًا بأنه “مقام”، لكن “الضريح” اعتمدت بأنه في مدينة الخليل داخل الحرم الإبراهيمي، استنادًا لمخطوطة صليبية تعود لعام 1119 ميلادي قبل أن يطردهم من فلسطين الأيوبيون الأكراد، وقد نشرت الدولة العثمانية هذه المخطوطة عام 1881 ميلاديًا على مختلف وسائلها الإعلامية في تلك الفترة.
وبهذا ذكر الرحالة العربي ابن بطوطة في كتاب “رحلة ابن بطوطة”، عن قبر يوسف في الخليل بجوار قبر جده إبراهيم وأبيه يعقوب، وأكد الإمام الترمذي أنه دُفن هناك، بمعنى حتى الروايات الإسلامية قديمًا اعتمدت على وجود ضريحه بالخليل وليس في نابلس.
يقول مجير الدين الحنبلي في كتاب “الأُنس الجليل”: “لما استخرج موسى الرفات من النيل، حملها على عجل إلى بيت المقدس، وقبره فِي البقيع خلف الحير السُّلَيْمَانِي حذاء قبر يَعْقُوب وَجوَار جديه إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق عَلَيْهِمَا السَّلَام”، وقال في كتابه أيضًا “هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء الْأَرْبَعَة وهم إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَولده إِسْحَاق وَولده يَعْقُوب وَولده يُوسُف قُبُورهم فِي مَحل وَاحِد وَعَلَيْهِم من الْوَقار والجلال مَا لَا يكَاد يُوصف صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ”.