تزخر مدينة القيروان بموروث غذائي منذ عقود طويلة، لكن يبقى الكفتاجي والخبز والمقروض أشهر ما يميّز هذه المدينة التونسية التي يقصدها سنويًّا مئات آلاف التونسيين، خاصة في المناسبات الدينية المتفرّقة، على غرار إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، وليلة 27 من شهر رمضان من كل عام.
وبحسب المعهد الوطني للتراث في تونس، فإن للقيروانيين عادات غذائية معروفة كالكفتاجي القيرواني والخبز السميد والإسفنجة بالعسل، ولكن القيرواني بصفة عامة لا يميل إلى الأكل بالمطاعم، بقدر ما يفضّل المأكولات المنزلية كالكسكسي بالزبيب والكسكسي بالمسلان والبرغل، والمشروبات كاللبن، والمأكولات القيروانية المعروفة.. فما هو الكفتاجي؟
الكفتاجي القيرواني
الكفتاجي هو طبق معروف في المطبخ التونسي، تختلف طريقة تحضيره من مدينة إلى أخرى، لكن يبقى للقيروان وتونس العاصمة بصمة خاصة في إعداده، حيث يتميّز الكفتاجي القيرواني بمذاقه الحار كون الفلفل الأخضر المكوّن الرئيسي في إعداده، حيث يتمّ قليه وإضافة كمية قليلة من الطماطم الطازجة والبيض المقلي، وبعض البهارات على غرار الملح والكراوية.
يتميّز الكفتاجي القيرواني بمذاقه الحار (صورة خاصة)
ورغم بساطة هذه الأكلة، إلا أن شعبيتها في تونس تزداد يومًا بعد يوم، فهي وجبة الفقراء والأغنياء التي يحرصون على تناولها في أوقات متفاوتة، بالنظر إلى رخص سعرها واحتوائها على سعرات حرارية عالية، وأيضًا نسبة عالية من الفيتامينات بفضل مكوّناته المتناسقة من الفلفل والطماطم والبيض.
لا يُعرف تحديدًا أصل أكلة الكفتاجي القيرواني، لكن تذكر مصادر أن أصلها تركي، فكلمتا “كفتة” و”كفتاجي” دخلتا اللهجة التونسية عن طريق الإمبراطورية العثمانية التي أخذتها بدورها عن اللغة الفارسية.
حيث في اللغة التركية كلمة الكفتة تعني اللحم المفروم الذي يُصنع على هيئة أصابع أو أقراص ويشوى في السفُّود على النار أو يقلى، لذا القاسم المشترك هو الفرم، وهو المعنى المأخوذ من الفعل الفارسي “كوفتن” (Koftan) بمعنى كسرَ، ضربَ، دكَّ، سحقَ، داسَ.
أما كلمة كفتاجي فهي مكونة من كلمة كفتة واللاحقة التركية “جي”، التي تدل على المهنة أو المحل الذي يشغله صاحب المهنة، فالكفتاجي باللغة التركية إذًا هو بائع الكفتة أو المحل الذي تباع فيه.
أسرار الكفتاجي القيرواني
عند زيارة مدينة القيروان، يحرص الزائرون على تناول طبق الكفتاجي، ومن بين عشرات المحلات المنتشرة في مناطق متفرّقة من المدينة، يقصد عشّاق هذا الطبق التاريخي محلات بعينها وسط المدينة العتيقة، على غرار خيري وجلال وقاسم.
وفي حديث خاص مع “نون بوست”، لا يعرف حرفيو هذه المهنة تاريخ هذه الأكلة تحديدًا، لكنهم يؤكدون على تواجدها في مدينة القيروان منذ عقود طويلة، ويشدّدون في الآن ذاته على أن أسرار الكفتاجي القيرواني تكمن أساسًا في جودة مكوّناته وطريقة تحضيره.
وللكفتاجي القيرواني طرق مختلفة في التحضير، فبينما يختار حرفيون دكّ الفلفل في آلات الفرم الكهربائية، ظلّ آخرون محافظين على المهراس التقليدي، أو ما يطلق عليه الحرفيون “الهرّوسة”، وهي وعاء نحاسي دائري يوضع داخله الفلفل والطماطم والبيض وبعض البهارات، لدكّها بمقابض نحاسية أربع، لتشكّل طبقًا متناسقًا يسرّ الناظرين ويمتّع الآكلين.
الهرّوسة” هي وعاء نحاسي دائري يوضع داخله الفلفل والطماطم والبيض وبعض البهارات (صورة خاصة)
يقول قاسم القدّاح، وهو صاحب محلّ لبيع الكفتاجي وسط المدينة القديمة في القيروان، في حديث لـ”نون بوست”: “تختلف نكهة الكفتاجي الذي يتمّ تحضيره بـ”الهرّوسة” عن أي كفتاجي آخر بآلات الفرم الكهربائيّة، فالنتيجة مختلفة تمامًا، حيث يتميّز كفتاجي “الهرّوسة” بطريقة فرمه التقليدية ومذاقه الفريد، في حين يكون شكل كفتاجي آلات الفرم الكهربائية ناعمًا جدًّا، ما يفقده لذعة الفلفل ونكهته”.
ويضيف القدّاح: “لا تكتمل نكهة الكفتاجي القيرواني إلا بالخبز القيرواني الأصيل، وهو خبز دائري الشكل، تخصصت في تحضيره مخابز عتيقة منذ عشرات السنين، ويتميّز بطريقة طهيه فيما يطلق عليه التونسيون الفور العربي، وهو فرن تقليدي حجري، يتمّ تسخينه بمواقد ناريّة قبل وضع أطباق الخبز التقليدي داخله، ليُطهى على مهل”.
خبز السميد القيرواني
ولا تكتمل زيارة القيروان إلّا بشراء خبز السميد، وهو نوع تخصصت فيه مخابز معيّنة في المدينة منذ عشرات السنين، على غرار “الكوشة العمرانية”، وهي أشهر مخبز في عاصمة الأغالبة، يقصدها يوميًّا الآلاف للظفر بأنواع الخبز الذي تعدّه منذ عقود في الفرن الحجري التقليدي.
وفي هذا السياق، يقول صلاح عمرانية، صاحب “الكوشة العمرانية”، في حديث لـ”نون بوست”: “يتجاوز عمر هذه المخبزة الـ 200 عام، ويتمّ تحضير نحو 10 أنواع من الخبز التقليدي على غرار خبز الشوّاي والمفرشخ والسميد المدوّر، يُستعمل في تحضيرها السميد والشعير والقمح، بدل الطحين “الفارينة” الذي تستخدمه المخابز الأخرى”.
لا تكتمل زيارة القيروان إلّا بشراء خبز السميد (صورة خاصة)
يؤكد عمرانية أن ميزة خبز القيروان تكمن في طريقة طهيه وشكله الفريد ومذاقه الخاص والمميّز، بفضل استعمال زيت الزيتون والسمن البلدي والإكليل والزعتر والقرفة والقرنفل، ويُضاف إليه في النهاية البسباس (الشمّر) و”السينوج” (الحبة السوداء) والعود والجلجلان (السمسم) و”حبّة حلاوة” (اليانسون).
وبحسب بعض المصادر، فإن الأندلسيين هم أوّل من أدخل هذا النوع من الخبز إلى القيروان، حيث اشتهروا بصناعة الخبز وإنتاجه، وكانت عجينة الخبز تعدُّ في المنازل من قبل ربّات البيوت، ثم تُطبخ في الأفران، وهو ما أكّده عمرانية في حديثه لـ”نون بوست”.
ويقدَّر معدل استهلاك الأسر التونسية من الخبز بـ 45 كيلوغرامًا سنويًّا وفق المعهد التونسي للاستهلاك، وتنتج تونس 90% من استهلاكها الإجمالي من القمح الصلب، ويرجّح أن تحقق اكتفاءها الذاتي من هذا الصنف عام 2022.
وتعرفُ تونس عجزًا مستفحلًا في مجال القمح الليّن، إذ تستورد أكثر من 90% من حاجتها له، ولم يتجاوز الإنتاج المحلي 25 ألف طن عام 2021، بعد أن تراجعت المساحات المخصّصة له بسبب انخفاض أسعاره عند البيع.
المقروض القيرواني
وقبل مغادرة مدينة القيروان، لا يفوّت زوار المدينة زيارة المحلات المتخصصة في إعداد حلويات المقروض التي تشتهر بها المدينة، وتتميّز بطعمها الفريد وجودتها العالية التي لا تضاهيها فيها أي مدينة أخرى.
والمقروض هو صنف مشهور من الحلويات التونسية التقليدية التي يكثر استهلاكها في المناسبات، ويتمّ إعداده من الدقيق الرقيق ويسمّى “الخمسة يسّي” والسمن والتمر، بالإضافة إلى القرفة والكركم والسكّر.
ويتمّ عجن السميد بالزيت، ويضاف إليه سائر المكونات، وحين تستوي العجينة يتمّ تشكيلها مستطيلات ويوضع التمر في الوسط في شكل حشو متوسّط السمك، ثم تطوى العجينة حول الحشو ويوضع فوقها قالب خشبي خاص بصناعة المقروض عليه نقوش مميزة، قبل أن تتمّ بواسطة سكين إزالة ما يتجاوز خط القالب، ثم يقطَّع المستقيم بخفة ودقة إلى قطع متوازية الأضلاع.
حين تستوي العجينة يتمّ تشكيلها مستطيلات ويوضع التمر في الوسط (صورة خاصة)
وبعد أن ترتاح العجينة قليلًا، توضع القطع في قدر زيت نباتي في درجة الغليان، وحين يتغيّر لونها ويميل إلى بين الأصفر والبني، تُرفع من الزيت وتوضع مباشرة في إناء فيه عسل مصنوع من السكر والليمون يسمّى “الشحور”، ويترك فيه حتى يتشبّع من ذلك العسل.
تاريخ المقروض القيرواني
يقول المؤرِّخ ابن الرقيق القيرواني عن المقروض: “إذا قحط البربر وانتابتهم سنة جدباء اشتروا تمورًا وسميدًا ثم عجنوه بزيت أخضر وقسموه كتلًا وأصابع أفطروا عليها كل يوم وربما أكلوا بلا توقيت كيف أمكن وضربوا عليه بجرعة من رايب فهي عادتهم بدل الكسرة اليابسة”، وتشير مصادر تاريخية إلى وجود القالب المستعمل في هذه الصناعة منذ ما يزيد عن 3 قرون.
قالب عتيق في إعداد حلويات المقروض (صورة خاصة)
وعن تاريخ المقروض أيضًا، يكشف الباحث في تاريخ القيروان حسين القهواجي أن “العسل كان يُجلب في قِرَب الماعز من جبل و”سلات” المعطار، أما زيت الزيتون فتدفع به البادية الفيحاء المسماة “العلا””.
ويضيف القهواجي: “تأتي التمور فوق ظهور القوافل القادمة من توزر، أرض “دقلة النور” التونسية المميزة، وتحطّ الرحال في “ذراع التمار” والرحبة الفسيحة في أرض عقبة، وترسل أرياف القيروان والولايات المجاورة قمح “فريقا”، حيث يتركّب المقروض من ضدّين مختلفين مؤتلفين: سميد جاف وتمر سهل الهضم”.
ويرى القهواجي أن المقروض القيرواني لا يوجد في أية منطقة أخرى في العالم بتلك الخصائص، رغم وجوده ببلدان المغرب وتركيا، فهذه المادة ولدت في القيروان بخصائص طبيعية مرتبطة بهذه البيئة.
وخلال السنوات الأخيرة، طوّر القيروانيون صناعة المقروض وتفنّنوا في إعداده بطرق مختلفة، حيث أدخلوا اللوز والفستق والبندق وغيرها من المكسّرات في صناعته، كما اختارت بعض المحلات إعداد المقروض وطهيه في الفرن بدل قليه في الزيت.