بعد انتهاء موسم دراما رمضاني جديد مكدّس بالأعمال الدرامية التي يتجاوز عددها 30 عملًا، متفاوتة الجودة ومتنوعة الأسلوب والموضوع، من الممكن الآن وصفه بالموسم المتواضع، وهذا على أقصى تقدير ممكن.
بالطبع لم أشاهد الـ 30 مسلسلًا، بيد أنني حاولت متابعة ردود الأفعال بجانب مشاهدة الحلقات الأولى من أعمال كثيرة لم أكملها، ولكن هذا لا ينفي وجود عدد من المسلسلات التي يمكن أن نرفعها إلى خانة المتوسط من منظور نقدي وما فوقه بدرجات قليلة من منظور جماهيري، مع وجود عدد ضئيل يمكن رصده على أصابع اليدَين، سنذكر منه 5 أعمال هي ما لفتت انتباهنا، وحصلت على نسبة مشاهدة عالية في رمضان.
أصبح الإهمال الواضح لعملية الكتابة هو سمة الموسم الرمضاني كل سنة، فالثورة التكنولوجية التي حدثت في الأعوام الأخيرة داخل مصر على مستوى الصورة، حوّلت الإنتاجات التليفزيونية إلى صناعة ضخمة، وضيّقت المسافة بين السينما والتليفزيون، لتكتسب صناعة الدراما التليفزيونية قيمة كبيرة على المستوى البصري.
ولكن على النقيض، تقلّص عدد السيناريوهات الجيدة، وأصبحت الخلطة السحرية تنطوي على العرض الجيّد للصورة والحرص على الجودة المرئية، وهذا لا يكفي، خصوصًا في صناعة الدراما التليفزيونية، فهي تنطوي على عدد كبير من الساعات.
بجانب أننا لا نملك في مجتمعنا العربي أندريه تاركوفسكي جديد، لذا من الضروري الرجوع إلى أصول الصنعة، ومحاولة وضع الأمور في نصابها الصحيح، لهذا سنحاول في هذا المقال تناول كل مسلسل باختصار، تجنُّبًا لحرق الأحداث، وأودُّ التنويه أن القائمة لا تخضع لترتيب معيّن، بل تمَّ وضع المسلسلات بشكل عشوائي.
“سوتس بالعربي”
يُعتبر مسلسل “سوتس بالعربي” من مفاجآت الموسم الرمضاني، لأنه مقتبس من مسلسل أمريكي شهير يحمل الاسم نفسه، ما يضعه في مقارنة غير عادلة مع العمل الأصلي، فتزامنًا مع إعلان المنتج طارق الجنايني شراء حقوق الفورمات الأجنبي (الفورمات مصطلح يشمل الشروط والقواعد وشكل السيناريو الذي يجب أن يسير عليه المسلسل عند تحويله للغة أخرى، أي أن الشركة الأصلية تضع هيكلة للشكل النهائي حتى يظهر المنتَج بالشكل المطلوب)، بدأت حملات التشكيك في طاقم العمل والتسخيف من قيمته حتى قبل نزوله، ولكن على العكس ظهر المسلسل بشكل جيد.
بالطبع لا يمكن مقارنته بالأصلي، فالعملان يختلفان في ظروف الإنتاج وعدد الحلقات وبيئة التصوير والأسماء وغيرها، بيد أنه على غير المتوقع ظهر بشكل إيجابي جدًّا، خصوصًا مع قالب الـ 30 حلقة الذي يحكم الإنتاج والقصة بمعايير معيّنة قسرية، نجحَ طاقم العمل في مراوغة هذه الظروف، وصنع إيقاع مشدود، وهو العامل الأهم في مسلسلات الـ 30 حلقة.
فالإيقاع هو ما يحكم العمل بالنسبة إلى الجمهور، لا يرى المشاهد ما يراه الناقد، ونجح المسلسل في تقديم هذه الخلطة، رغم عدة سقطات على مستوى الكتابة، ولكن في المجمل قدّم المسلسل كل حلقاته بشكل جيد، وهذا يرجع إلى التفهُّم الجيد للفورمات.
يدور المسلسل في مكتب المسيري للمحاماة، يعيِّن المحامي زين ثابت (الممثل آسر ياسين) عن طريق الصدفة محامي شاب تحت التمرين اسمه آدم منصور (الممثل أحمد داوود)، ومن هنا تبدأ علاقتهما بالتشابك مع توافد القضايا بأنواعها المختلفة التي ترفع من نسق المسلسل وتمنحه ديناميكية مميزة وتشدّ إيقاعه، ليتفرّد برتم يميزه عن باقي أعمال رمضان، والمسلسل من إخراج عصام عبد الحميد.
“جزيرة غمام”
يتحرك مسلسل “جزيرة غمام” من رمزية دينية، يستلهم منها أقاصيصه ويسيّر من خلالها حكايته، لا يُعتبر التأثر باللاهوت أو القصص الدينية عيبًا سرديًّا، ولكن على الكاتب أن يستوعب هذه القصص بشكل ينصهر مع عالمه، بحيث يضيف تغييرًا حقيقيًّا في مآل القصة.
لا أقصد تغييرًا في النهايات المحتملة، بل في السياق ذاته، أصالة العالم وتأثيره على القصة داخليًّا، لذا يجب أن يحرص الكاتب على عدم وقوعه في فخّ المباشرة الفجّة، فالجميع يعرف القصص الدينية ويستطيع أن يتنبّأ بالنهاية المحتملة.
لذلك لا يلعب الكاتب لعبة النهايات أو البدايات المحتملة، بل في المساحة بينهما، أي القدرة على التأسيس للقصة بحيث تتوافق مع عالم مختلف بإشكالات مختلفة، وإمكانية بناء شخصيات موازية لكنها تحمل من عالمها أكثر ما تحمل من القصة الموازية هو ما يصنع الفارق.
حاولَ الكاتب عبد الرحيم كمال أن يسير وفقًا لهذه الخلطة تقريبًا، والحقيقة أنه نجح في صنع عالم ضخم، بإيقاع وأرضية جيدَين، حيث استهلَّ حكاياته بالنبوءة، وهي تقنية حكائية مشهورة، وتأثّر بالصراع اللاهوتي المقدس بين الخير والشر، وصنعَ شخصيات ذات قدرة على التطور.
إلا أنه للأسف لم يسمح للشخصيات بالتطور الذي يثري القصة، بل تركها شبه أحادية المنظور تحوم في عالمه، الخير المطلق والشر المطلق، الشخصية الموازية للنبي والشخصية الشيطانية، حيث صنع ذروات تفتح مجالًا حقيقيًّا لتطور شخصية عرفات، بيد أنه كان يردّها بسرعة حيث كانت.
لقد فضّل أن يكون عرفات درويشًا في كل الحكاية تقريبًا عدا حلقتَين، بجانب ذلك صعّد شخصية محارب بقوة، وأسّس لها كطرف في الصراع، ليعود ويمحو سطوتها تقريبًا دون مبرر حقيقي، ولكن المسلسل في المجمل من أفضل إنتاجات الموسم الرمضاني.
يدور المسلسل في جزيرة تسمّى جزيرة غمام، يموت شيخها ويترك نبوءة لتلاميذه الثلاثة، ليتفرّق التلاميذ بعد موته، والمسلسل من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج حسين المنباوي.
“الكبير”، الجزء السادس
صنعَ “الكبير” سمعة مميزة وقاعدة جماهيرية هائلة في السنوات العشر الأخيرة، ليطالب الآلاف من الجماهير عودة المسلسل على مدار السنوات التي لحقت جزءه الخامس، ليعود النجم أحمد مكي بصحبة المخرج أحمد الجندي، لتجسيد الشخصيات الثلاثة الأكثر شهرة، وليلاقي الجزء السادس نجاحًا جماهيريًّا هائلًا ويحصل على نسبة المشاهدة الأعلى في رمضان.
لعبَ المسلسل على ثيمات “التريند” والاتجاه السائد، ولكن بشكل متناقض مع واقع التجارب الحقيقية، ومناسب لواقع قرية المزاريطة الأقرب إلى الخيالي والتهكُّمي، حيث أدركَ صنّاع العمل بذكاء تطور ذائقة الجمهور والفجوة الكوميدية بين الجزء الخامس عام 2015 والجزء السادس عام 2022.
رصدهم لتلك الفجوة الزمانية جعلهم يتّجهون إلى تحديث المسلسل ذاته، بيد أن بعض الحلقات لم تنفَّذ جيدًا من ناحية الكوميديا وبناء المواقف، واعتمدت على “الإفيهات” المبالغ فيها والحركات الساخرة، فالمحاكاة لـ”لعبة الحبار” -لعبة السبيط في المسلسل- لم تكن على القدر الكافي من الكوميديا، وأخذت مساحة أكبر ممّا تسمح المادة الإبداعية، عكس مهرجان المزاريطة الدولي MIFF الذي صنع محاكاة ساخرة للمهرجانات ولكن على الطراز الصعيدي، لينتج كوميديا طازجة، ويصنع مواقف جديدة كليًّا على الإنتاجات العربية.
“مين قال؟!”
هو مفاجأة الموسم الرمضاني، بداية من القالب الدرامي المختلف والثوري، مرورًا بقالب الـ 15 حلقة المخالف للسائد في الدراما العربية، وصولًا إلى الوجوه الجديدة التي يقدّمها المسلسل لأول مرة تقريبًا.
ما يميز المسلسل هو موضوعه والثيمة التي يأخذها كأساس لسرديته، والتي تُعتبر ثيمة شابة تمامًا بالنسبة إلى مجتمعنا العربي، فدراما المراهقين هي دراما جديدة تمامًا على المواطن المصري، كما تميّز المسلسل بشخصياته المتعددة وواقعه القريب من واقع الشباب الحالي، الذين يقعون فريسة لسلطوية ووصاية آبائهم.
يدور المسلسل حول شريف، الفتى المراهق الذي يدفعه والده لدخول كلية الهندسة رغمًا عنه، وعلى النقيض لا يرضخ شريف لوالده، ويتحدى الظروف ليخلق سيناريو مغايرًا تمامًا وينسج قصصًا ويلفّق حكايات ليخفي عن والده خططه الرئيسية، حتى يتسنّى له إقناع والده بالعكس، والمسلسل من إخراج المخرجة الشابة نادين خان وكتابة ورشة مريم نعوم.
“بطلوع الروح”
بعد النجاح المدوي لمسلسل “بـ 100 وش”، تعود المخرجة المميزة كاملة أبو ذكري إلى الموسم الرمضاني بمسلسل “بطلوع الروح” الذي يدور في أروقة “داعش” في سوريا، ولكنها هذه المرة تتحرّك نحو مساحة مختلفة، مساحة معاناة الأنثى في المنظومة الإرهابية.
يرصد المسلسل في 15 حلقة كيف تُدار الأمور في “داعش” من ناحية خطف واستدراج النساء للمعسكرات وحبسهن وإرغامهن على الرضوخ لمطالبهم، ليصبحن جزءًا من المنظومة، ومحاولة التعاطي مع هذا الجانب من الحكاية يضيف قيمة للعمل الدرامي، لأنه يتحرك في مساحة غامضة بالنسبة إلى المشاهد العربي، وهذا يمنحه قيمة مضاعفة.
إلى جانب هذا، يحاول المسلسل الاقتراب أكثر من الشخصيات، ويحاكي الاضطرابات الداخلية والميول الجزئية التي تبطن الأفعال الظاهرة للعامة، فيكشف للمشاهد بشكل ما أيديولوجيا الإرهابي وجذور التحول والاندماج مع المنظومة الإرهابية، لأنها تخدم شعورًا معيّنًا أو رغبة ذات خصوصية.
في النهاية، العمل محاولة جيدة لرصد أيديولوجيا الأنثى الإرهابية كجزء من المنظومة وذراع من أذرع نظام “داعش”، حيث يتقصّى المسلسل حكاية “روح” التي يستدرجها زوجها إلى سوريا، لتجد نفسها في أحد أوكار “داعش”، ومن حينها وهي تحاول الحصول على حريتها، والمسلسل من تأليف محمد هشام عبية وإخراج كاملة أبو ذكري، ومن بطولة منة شلبي وأحمد صلاح السعدني وإلهام شاهين.