على جسر “الرئيس” في العاصمة السورية دمشق، تجمعت آلاف العائلات التي تبحث عن وجوه الأحبة ممن غيبتهم سجون وأفرع الأمن التابعة لبشار الأسد ونظامه منذ سنوات، ومن على هذا الجسر تواردت المقاطع المبكية لحالة السوريين الهائمين على وجوههم لعلهم يرون ابنًا أو أخًا أو قريبًا أو صديقًا غاب لسنوات، ووسط هذه الجموع تتحدث إحداهن أنها تريد فقط خبرًا عن أبيها وأخيها اللذين تم اعتقالهما منذ 9 سنوات هل هم أحياء أم في عداد الموتى؟
هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها الناس لاستقبال المعتقلين بهذه الطريقة وفي هذه الأمكنة بالذات، فجسر “الرئيس” يقع في مركز العاصمة ولم يسبق أن تجمع الناس من أجل استقبال المعتقلين المفترض الإفراج عنهم بهذه الطريقة، ويبدو أن النظام السوري أراد توريد هذه المشاهد إما للتغطية على “مجزرة التضامن” وإما إعطاء صورة للخارج بأن سوريا باتت آمنة من أجل تسريع تعويم النظام وإعادة التطبيع معه.
قوانين العفو
قبل توارد الأخبار أن دفعات من المعتقلين في سجون النظام السوري بدأت بالخروج من أماكن الاحتجاز، كان رئيس النظام السوري بشار الأسد قد أصدر مرسومًا يقضي بالعفو العام “عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30-4-2022 عدا التي أفضت إلى موت إنسان والمنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم (19) لعام 2012″، وبحسب المرسوم “لا يؤثر هذا العفو على دعوى الحق الشخصي وللمضرور في جميع الأحوال أن يقيم دعواه أمام المحكمة المدنية المختصة”، ويعتبر مسؤولو النظام أن هذا العفو من “أهم مراسيم العفو وأوسعها شمولًا بالنسبة للجرائم الإرهابية”.
لكن بشار الأسد، كان قد أصدر العديد من المراسيم المشابهة التي تتضمن عفوًا عن المساجين والمعتقلين على خلفية مشاركتهم بالثورة ضده، إلا أن أعدادًا قليلة جدًا خرجت وفقًا لهذه المراسيم، فالأفرع الأمنية ما زالت تسيطر على هذا الملف، ولم تكن هذه المراسيم إلا عبارة عن وعود فارغة تجعل العوائل تعيش الألم مرات متعددة، المرة الأولى عند اعتقال قريبهم ومرات أخرى عند انتظار عودة المعتقل لكن دون جدوى.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن الأسد أصدر أكثر من 20 مرسوم عفو خلال 11 عامًا، أولها بعد انطلاق الثورة السورية بعدّة أيام، حينها أفرج عن عشرات المعتقلين السياسيين والجهاديين من سجن صيدنايا، وتبع ذلك عدّة مراسيم صدرت خلال سنوات الثورة، لكن هذه القوانين كانت عبارة عن حبر على ورق، فما زال يقبع في سجون النظام ما لا يقل عن 131 ألفًا و469 شخصًا ما بين معتقل ومختف قسريًا منذ مارس/آذار 2011، وفقًا لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
حشود الناس
بعد العفو الذي أصدره الأسد عن “الجرائم الإرهابية” بساعات، أفرج النظام عن عدد من المعتقلين الموجودين في سجن صيدنايا العسكري، وفي الدفعة الأولى كان المعتقلون من قرى وادي بردى ومدن وبلدات الغوطة الشرقية وبلدات القلمون، وقد نُقل المعتقلون من السجن عبر حافلات عسكرية إلى إحدى الساحات في بلدة صيدنايا، حيث جرى إطلاق سراحهم، وتنوعت فترات الاعتقال للمُفرج عنهم بين عامين وعشرة أعوام.
وبحسب موقع “صوت العاصمة” السوري، فإن “معظم الذين خرجوا من سجن صيدنايا العسكري كانوا قد اعتقلوا بعد إجراء التسويات الأمنية إبان سيطرة النظام السوري على مناطقهم” أي في السنوات الأخيرة.
بعد الدفعة الأولى من إطلاق سراح المعتقلين، وبعد انتشار أخبار الإفراج بين السوريين في مناطق النظام، توجه الكثير من الأهالي الذين لديهم أبناء في معتقلات النظام في البداية إلى بلدة صيدنايا عسى أن يجدوا أبناءهم أو معارفهم ضمن المفرج عنهم رغم قلة أعداد المفرج عنهم.
لكن النظام أخرج بعض الدفعات ووضعها عند جسر “الرئيس” في العاصمة دمشق دون أن يعلن عن أي تفاصيل تخص الأشخاص الذين يشملهم هذا العفو ومن هم الذين سيفرج عنهم، فلم تصدر قوائم بأعداد أو أسماء المعتقلين الذين أفرج عنهم، بالإضافة إلى أنه تم الإفراج عن المعتقلين في جنح الظلام، وكل المعلومات التي تصدر عن المفرج عنهم يكون مصدرها أهلهم وأقاربهم ووسائل التواصل الاجتماعي.
بدورها قالت رئيسة محكمة الإرهاب التابعة للنظام السوري، زاهرة بشماني: “وفق الأصول القضائية لا يتم الإعلام عن موعد إطلاق سراح الذين شملهم مرسوم العفو”، وأضافت بشماني “المحكمة لا ترسل أي كتاب، بل يجري تنفيذ العفو بإطلاق المعتقلين مباشرة دون دعوتهم إلى المحكمة أو أي مكان آخر، ويعتبر المشمول بالعفو حرًا طليقًا وله حرية الذهاب إلى أي جهة يرغب بها، وبالتالي فإن القوائم التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لا صحة لها”.
وفي هذا السياق يقول المرصد السوري لحقوق الإنسان: “وثق إفراج النظام عن 252 معتقلًا، وهو رقم ضئيل جدًا، حيث من المفترض أن يُفرج عن آلاف بل عشرات الآلاف من المعتقلين بموجب هذا العفو، بيد أن ذلك لم يحدث على الرغم من مرور أيام على صدور العفو”، ويشير إلى أن ذلك يأتي “في الوقت الذي يواصل النظام إهماله الاعتيادي بعدم إصدار أي إحصائيات رسمية ثبوتية أو قوائم أسماء حول الذين أُفرج عنهم والذين سوف يتم الإفراج عنهم بموجب عفو بشار الأسد”.
إلى ذلك، فقد بدأ النظام السوري إخلاء منطقة جسر “الرئيس” التي تعج بالناس المنتظرين، ونشرت وزارة الداخلية في النظام السوري، بيانًا دعت فيه الأهالي المتجمعين في الساحات الرئيسية والأماكن العامة، بانتظار إطلاق سراح أبنائهم وذويهم المعتقلين، لإخلاء مناطق التجمع والعودة إلى منازلهم، وقال بيان الوزارة: “المشمولون بالعفو يتم إطلاق سراحهم مباشرة بشكل فردي ومتتابع بعد إتمام الإجراءات القانونية ولا يتم نقلهم إلى أماكن هذه التجمعات”.
وقد تدخلت دوريات من الأمن الجنائي والشرطة العسكرية لفض هذه التجمعات، فأخبروا الأهالي بضرورة العودة إلى منازلهم، وسط تهديدات باعتقال الموجودين، كما أن هذه الدوريات أكدت للموجودين أن المفرج عنهم لن يأتوا إلى هذه المناطق.
بدوره يقول الطبيب عزام أبو محمد، أحد الموجودين في منطقة جسر الرئيس: “الأيام الماضية شهدت إذلالًا للناس الموجودين في منطقة جسر الرئيس من النظام”، ويشير أبو محمد أنه كان موجودًا في المنطقة لعله يلتقي بأخيه المعتقل منذ سنوات في أفرع النظام، مضيفًا خلال حديثه لـ”نون بوست” “الإشاعات هي التي دفعت الناس للذهاب إلى منطقة الجسر لكن لم تأت إلا سيارة واحدة خلال الأيام الماضية إلى هذه المنطقة، لكن الأمل لدى الأهالي هو ما دفعهم للبقاء”.
الطبيب عزام قال إن عناصر النظام الموجدين في المنطقة وجهوا إهانات للأهالي لأن “أبنائهم إرهابيون” وقال إنه سمع من يقول لأم معتقل “ما بتخجلي تجي لتشوفي ابنك الإرهابي”، ويشير إلى أن “العديد من العائلات قدمت من خارج دمشق على أمل اللقاء بأبنائهم إلا أن عدد المعتقلين الذين خرجوا لا يتجاوز العشرات”، ويضيف “العديد من الأهالي يحملون صور أبنائهم لعرضها على المعتقلين الخارجين للاطمئنان على أحبابهم”.
ويرى الطبيب السوري أن النظام عمد إلى إحداث مثل هذه الفوضى بين الناس، من أجل إتاحة المجال للسماسرة الذين باتوا ينتشرون في هذه المنطقة كثيرًا، حيث يكثر النصب والكذب والخداع، ويشير عزام أبو محمد إلى أن أحد المجندين في النظام أتى إليه وقال: “إذا أردت أستطيع أن أقرب لك موعد خروج المعتقل الذي يخصك وعليك أن تدفع 3 ملايين ليرة سورية، أي ما يقارب 800 دولار بشكل مبدأي”.
تغطية على المجزرة
يرى الكثير من السوريين أن توقيت العفو الذي أصدره بشار الأسد كان للتغطية على الفيديوهات الصادرة من مجزرة حي التضامن، كما أن الفوضى التي حصلت في دمشق من أجل الإفراج عن المعتقلين إنما هي تشويش على الرأي العام الذي صدمته مقاطع تلك المجزرة الفظيعة، وفي هذا السياق يقول المعارض السوري عبد الباسط سيدا، إن “السوريون، خاصة الثكلى والأرامل والأيتام، في انتظار أحبتهم بعد العفو المزعوم الذي جاء للتخفيف من آثار صدمة صور مجزرة حي التضامن، على المستويين المحلي والدولي. مَن يعفو عن مَن؟ وما زال هناك من يريد إقناع السوريين بإمكانية تعويم رأس سلطة المجازر”.
لكن من السوريين من يرى أن النظام ليس بحاجة إلى أن يغطي على مجزرة التضامن بمثل هكذا عفو، إذ إنه تخطى مسألة الاهتمام الدولي أو الاستنكار والإدانات، فهذا النظام أصبح آمنًا من العقوبة على الأقل حاليًا، لكن هذا العفو والمشاهد الواردة من دمشق إنما كانت للإذلال والتشفي في السوريين بشكل عام وهو الرأي الذي يؤكده الصحفي السوري عمر قصير، فيقول: “لا أرى أن النظام حاول بهذا “العفو” التغطية على مجزرة التضامن، هو فصل آخر من فصول الإمعان في الإذلال والتشفي والقهر، هو يستلذ برؤية الناس بهذا الشكل، هكذا تحافظ دولة الخوف على وجودها”.
ويذهب الكاتب السوري عصام اللحام إلى أن النظام من خلال إقراره هذا العفو وما سبقه من قوانين تجريم التعذيب وتغليظ عقوبات الجرائم الإلكترونية، “قد تأتي في مجملها ضمن سياق تأمين البيئة القانونية الآمنة لعودة المهجرين واللاجئين، ويتفق مع مقاربة خطوة بخطوة التي طرحها المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن والحصول على كامل الدعم من جميع الأطراف المعنية بالملف السوري”.
محاولة للتعويم
شهد هذا العام والذي سبقه إعادة لتطبيع العلاقات مع هذا النظام من أطراف عربية عدّة وأهمها الإمارات والأردن وغيرها، وصاحبها شروط من بعض الدول بإطلاق سراح المعتقلين في السجون لإعادة العلاقات مع هذا النظام.
ووفقًا للتغيرات الحاصلة التي تحيط بالملف السوري والمحاولات التي تقودها روسيا وإيران وبعض الدول العربية لإعادة تعويم النظام على المستوى العالمي، فإن على النظام اتخاذ العديد من الخطوات حتى ولو كانت شكلية وفارغة، وهو ما يضمن له الترويج لروايته بأن سوريا أصبحت آمنة وذلك من أجل إنهاء ملف اللاجئين والبدء بملف إعادة الإعمار في البلاد.
وهنا لا بد من التذكير أيضًا أن أربعًا من الدول باتت تبحث بشكل جدي العودة الطوعية للاجئين السوريين الموجودين على أراضيها وهي تركيا ولبنان والأردن والعراق، ولطالما روج النظام أن البلاد أصبحت آمنة لإعادة اللاجئين، وفي هذا الصدد تكذب المنظمات الحقوقية هذه الرواية فقد قال محققو جرائم الحرب التابعون للأمم المتحدة، الثلاثاء 14 سبتمبر/أيلول 2021: “سوريا ما زالت غير آمنة لعودة اللاجئين، وكذا قالت منظمة العفو الدولية وغيرها”.
بالمحصلة، فإن ما حصل في الأيام الماضية في دمشق، إنما كان حلقة في مسلسل بدأه النظام منذ سنوات لإذلال السوريين والتغطية على المجازر وإيهام العالم بأنه يعمل على تحسين البلاد والمصالحة الوطنية من أجل تعويمه وإعادته إلى الحظيرة الدولية، وبالطبع فإن النظام لا يبالي بأهالي المعتقلين أو بالمعتقلين أنفسهم.