على إثر تولّيه حكم قصر المرادية، أكّد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون نيته اتّباع سياسة مدّ اليد للحوار، إذ سمعنا حديثًا عن تهدئة ومصالحة وطنية ورصّ الصفوف وإطلاق سراح المعتقلين، لكن الممارسات خلاف ذلك تمامًا.
وقعت السلطة في تناقض مع نفسها، حيث مارسَ النظام سياسة القبضة الحديدية، وضاعفت السلطات من وتيرة الاعتقالات والملاحقات القضائية والإدانات للنشطاء والمعارضين والإعلاميين ورواد مواقع التواصل، فضلًا عن تخوين المعارضين سواء في الداخل والخارج.
لم تثنِ هذه التضييقات معارضي النظام من مواصلة معارضتهم له، رغم تراجع حدّة المظاهرات مقارنة بالفترة الأولى لحكم تبون نتيجة عدة أسباب، وهو ما دفع القائمين على النظام إلى التفكير في مبادرة جديدة علّها تخفِّف الضغط قليلًا عن المرادية.
مبادرة جديدة
لم يخرج مسؤول في الدولة للحديث عن أي مبادرة رئاسية جديدة للحوار ولمّ الشمل، لكن يمكننا أن نستشرف ذلك من خلال ما نشرته “وكالة الأنباء الجزائرية” الرسمية قبل يومَين، فمن دون مناسبة تحدّثت الوكالة عن تبون كونه رئيسًا جامعًا للشمل، ومن المعروف أن الوكالة لا تنشر شيئًا دون الرجوع إلى مؤسسة الرئاسة.
تمهيدًا لطرح المبادرة الجديدة، نشرت الوكالة مقالًا بعنوان “عبد المجيد تبون، رئيس جامع للشمل”، وأشارت فيه إلى أن “تبون الذي اُنتخب من قبل كل الجزائريين الذين يتطلّعون إلى جزائر جديدة، هو رئيس جامع للشمل، حيث نجح في توحيد الشباب والمجتمع المدني خلال حملته الانتخابية، ليشكّل انتخابه أول تداول ديمقراطي في تاريخ البلاد”.
وجاء في المقال أيضًا: “يجب أن يعرف أولئك الذين لم ينخرطوا في المسعى أو الذين يشعرون بالتهميش، أن الجزائر الجديدة تفتح لهم ذراعَيها من أجل صفحة جديدة، فكلمة إقصاء لا وجود لها في قاموس رئيس الجمهورية الذي يسخّر كل حكمته للمّ شمل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي”.
يمكن القول إن الهدف الأبرز من مبادرة لمّ الشمل والمصالحة الوطنية إن تمّت، هو احتواء غضب الشارع الجزائري
من المنتظر أن يتمَّ طرح هذه المبادرة بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر عن المستعمر الفرنسي، وفق ما فهمناه من نص المقال، إذ ورد أن “الجزائر، بشعبها البطل والموحّد بكل تنوعه، بحاجة إلى جميع أبنائها للاحتفال معًا بالذكرى الستين للاستقلال”.
في هذا السياق، دعا رئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل، مختلف فعاليات المجتمع إلى الالتفاف حول مسعى “إرساء دعائم ومعالم الجزائر الجديدة”، وذلك في إطار “سياسة لمّ الشمل التي دعا إليها الرئيس عبد المجيد تبون”، وفق بيان للمجلس.
هؤلاء اربع شباب من بين ستة من الأوراس يقبعون في سجن قسنطينة منذ حوالي 8 أشهر بدون محاكمة …
براهيم حيدوش، اسامة دنداني، فاتح فارز، وحيد مازيغ … هذا هو لم الشمل وتوحيد الشباب في الأوراس … !؟
كل التضامن والمساندة … pic.twitter.com/RyjT8moCUa— Lina Laily (@LinaLin42809688) May 4, 2022
يعني ذلك أن هناك تمشّيًا واضحًا لطرح هذه المبادرة، وشدّد قوجيل على مبدأ “الجزائر للجميع ويبنيها الجميع”، وأن الالتفاف حول رئيس الجمهورية وسياسته “واجب وطني”، من أجل “الحفاظ على الوحدة الوطنية وتدعيم استقلال القرار السياسي عن طريق ضمان استقلالية القرار الاقتصادي”.
بالون اختبار؟
تُعتبر هذه الخطوة السياسية مهمة جدًّا إن تمّت بالفعل وحصل لمّ شمل جميع الجزائريين، ذلك أن الجبهة الداخلية للجزائر تحتاج تماسكًا أكبر لمواجهة التحديات التي تواجهها، في ظلّ الأزمات العالمية والتحولات التي تعرفها المنطقة في السنوات الأخيرة.
لكن إلى حدّ الآن ليس هناك معلومات كافية حول هذه المبادرة، ولم تظهر أي ملامح أو قرارات بخصوصها بخلاف مجرد بيان لـ”وكالة الأنباء” فقط، ما يمكن أن يُعتبر وفق الناشط السياسي الجزائري عبد الله كمال “بالون اختبار” لمعرفة رد ّفعل الشارع والطبقة السياسية، ورؤيتهم لمبادرات الصلح ولمّ الشمل التي يجب أن يقودها النظام.
يضيف كمال في حديثه لـ”نون بوست”: “نحن الآن أمام تصور لمبادرة غامضة قد يتمّ إطلاقها بالتوازي مع ذكرى 5 يوليو/ تموز المقبلة، ولكن لا يوجد شيء مؤكّد للآن، وغير معروف ما سينتج عنها وأي تصور سيتبعه النظام ولا طريقة طرحها”.
وأكّد محدثنا أنه “من المبكّر الحكم على هذا المشروع قبل معرفة حيثياته وتفاصيله، فالأخبار متضاربة حوله، والنظام لم يدلِ بأي تصريح رسمي في خصوصه، ما يجعلنا نترقّب قادم الأيام لعلّه نتبيّن خلالها بعض التفاصيل التي يمكن لها أن تساعدنا في الفهم والحكم”.
استثناء “رشاد” و”الماك”؟
لم تفصح الجهات الرسمية بعد عن تفاصيل أكثر بشأن المبادرة التي يمكن أن يطرحها تبون، ولا يُعرف بعد هوية المشمولين بهذا المسعى التصالحي، هل سيشمل معارضة الداخل فقط أم أنه سيشمل المعارضة في الخارج أيضًا، وبخصوص معارضة الخارج هل سيشملها جميعها أم فئة فقط.
أشار بيان “وكالة الأنباء” إلى نقطة مهمة، إذ جاء في البيان أن “يد الرئيس عبد المجيد تبون، وهو رئيس لطالما اهتمَّ بالنقاش السائد في المجتمع، ممدودة للجميع بشكل دائم، ما عدا للذين تجاوزوا الخطوط الحمراء وأولئك الذين أداروا ظهرهم لوطنهم، فهو ليس من دعاة التفرقة، بل بالعكس تمامًا”.
لم يسمِّ البيان مَن “تجاوزوا الخطوط الحمراء”، لكن يمكن القول إنه يقصد جماعة “رشاد” و”الماك”، خاصة أن الدولة تصنِّف التنظيمَين على أنهما إرهابيان، وكان تبون قد أطلق يد الأجهزة الأمنية لمحاربة أي وجود سياسي لحركة “رشاد” التي تضمّ عناصر من الجبهة الإسلامية للإنقاذ السابقة، وحركة “الماك” التي تطالب باستقلال منطقة القبائل التي يسكنها الأمازيغ.
يجرّم النظام الجزائري النشاط السياسي والتحركات الاحتجاجية، فهو يرى فيها محاولة لزعزعة نظامه القمعي الذي يسيطر على كل مجالات الحياة في البلاد
بدأ مطلب حركة “ماك”، التي يرأسها فرحات مهني المقيم في باريس، بالدعوة إلى إقامة حكم ذاتي في منطقة القبائل، قبل أن يتطور إلى مطلب انفصال تامّ عن الجزائر، لكن حضورها ضعيف في أوساط الجزائريين حتى في منطقة القبائل.
ويقول النظام الجزائري إن هاتَين الحركتَين استغلّتا انسحاب بعض الكتل السياسية من الحراك حتى تقوداه وتتزعّما الاحتجاجات، ويرتكز النظام في ذلك على الشعارات التي رُفعت في بعض المظاهرات، والتي تهاجم الجيش والجنرالات وتصف تبون بالرئيس الذي جاء به العسكر، إلا أن العديد من نشطاء الحراك ينفون ذلك ويصرّون على سلمية تحركاتهم.
احتواء غضب الشارع
يمكن القول إن الهدف الأبرز من مبادرة لمّ الشمل والمصالحة الوطنية إن تمّت، هو احتواء غضب الشارع الجزائري جرّاء ارتفاع الأسعار والتضخُّم المالي والاقتصادي، في ظلّ غياب أي منجز اقتصادي خلال العهدة الأولى لتبون.
وتشهد الجزائر نسبة عجز كبيرة في الموازنة العامة نتيجة ارتفاع فاتورة الاستيراد، كما ارتفعت نسبة التضخم في الفترة الأخيرة، والشيء نفسه بالنسبة إلى الأسعار، رغم أنها مصنَّفة ضمن البلدان النفطية، بالنظر إلى عائداتها من المحروقات التي تجاوزت العام الماضي 30 مليار دولار.
كما تسعى السلطة من خلال المبادرة إلى تخفيف الضغوط الحقوقية الداخلية والخارجية الممارسة عليها، حيث تطالب منظمات حقوقية محلية ودولية وأحزاب معارضة نظامَ تبون بإطلاق سراح نشطاء الرأي الموقوفين والمعتقلين في السجون.
عرفت الجزائر مؤخرًا وفاة معتقل الرأي عبد الحكيم دبازي في سجن القليعة قرب العاصمة، في ظروف لا تزال حيثياتها غامضة، وهو أب لـ 3 أطفال، كان قد اُعتقل وأُودع الحبس المؤقت في 22 فبراير/ شباط الماضي، ولم تتمَّ محاكمته بالتهمة الموجهة إليه، والمتعلقة بإعادة مشاركة منشورات ذات طابع سياسي عبر صفحته على فيسبوك.
ويجرّم النظام الجزائري النشاط السياسي والتحركات الاحتجاجية، فهو يرى فيها محاولة لزعزعة نظامه القمعي الذي يسيطر على كل مجالات الحياة في البلاد، وغالبًا ما تُدين المنظمات الجزائرية والدولية الاستخدام غير القانوني للقوة والترهيب بحقّ النشطاء، ومضايقة وسوء معاملة المدافعين عن حقوق الإنسان ومواصلة الاعتقال التعسفي واستهداف الصحفيين، وعدم التحقيق في مزاعم الاعتداءات البدنية والجنسية في أماكن الاحتجاز، بما في ذلك فصل قاصر عن والدَيه.
“”هذا هو لم الشمل””… بدون الحراك اقوال النضام هو حبر على الورق.
“” الشارع هو الحل””. pic.twitter.com/d6iBvvH5qm— Amazigh 2972?? ?? (@2971Amazigh) May 4, 2022
أين كانت تفاصيل المبادرة الجديدة، فإن الماضي القريب ليس في صالح تبون ونظامه، ذلك أنه لم يصدق في مبادرات الحوار التي أطلقها سابقًا، لذلك يحتاج القائمون على قصر المرادية جهدًا كبيرًا لإقناع الشارع والطبقة السياسية بجدّية طرحهم وقابلية النظام للحوار.