يحيا سوق الذهب في مصر خلال الأيام الماضية حالة من الارتباك لم يشهدها من قبل، إذ قفزت أسعاره لمستويات هي الأعلى تاريخيًا، وسط تناقض وتباين في المواقف والتصريحات بين شركات الصاغة والتجار بشأن توقف واستمرارية حركة البيع والشراء لفترات محدودة من أجل السيطرة على حالة السيولة السعرية التي أثارت قلق الكثير من المراقبين.
تتزامن حالة الارتباك تلك مع التقرير الصادر عن مجلس الذهب العالمي بشراء البنك المركزي المصري 44 طنًا من المعدن الأصفر خلال شهر فبراير/شباط الماضي، ليزيد إجمالي ما يمتلكه البنك بنسبة 54% ويصل إلى 125 طنًا، ما يعادل 17% من إجمالي الاحتياطات المصرية، ليتصدر قائمة الدول الأكثر امتلاكًا للذهب في المنطقة.
ويؤمن المصريون منذ عقود طويلة بأن الذهب الملاذ الأكثر أمانًا لمدخراتهم، وعليه يتم تحويل السيولة النقدية لكثير من الشعب المصري إلى سبائك ذهبية، سواء في البنوك أم المنازل، وهو المعتقد الذي تعزز خلال الآونة الأخيرة في ظل تراجع قيمة العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، وتضييق الخناق على الدولار الأمريكي في السوق المصري.
وسجل سعر غرام الذهب عيار 24 نحو 1390 جنيهًا، بينما سجل عيار 21 (الأكثر مبيعًا في السوق) نحو 1230 جنيهًا، في مقابل 1050 جنيهًا للغرام عيار 18، فيما وصل سعر الجنيه الذهب نحو 9920 جنيهًا، بحسب أسعار اليوم 7 مايو/أيار الحاليّ، وهي الزيادة التي تعد الأكبر في تاريخ المعدن بمصر.
وتولي مصر خلال الآونة الأخيرة اهتمامًا كبيرًا بقطاع الذهب الذي تنتج منه سنويًا ما يقرب من 15.8 طن، معظمها من منجم السكري بالصحراء الشرقية، فيما تحتضن نحو 270 موقعًا للمعدن النفيس وإن لم تكن كلها قيد التشغيل، وتستهدف زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع التعدين والتنقيب لـ375 مليون دولار خلال عامين، مع التخطيط لزيادة تلك الاستثمارات لتبلغ نحو مليار دولار في 2030.
فوضى واضطراب
بعد أن وصل سعر الذهب إلى تلك الأرقام الفلكية، التي رأها البعض غير مبررة مقارنة بالأسعار العالمية، استشعرت بعض الشركات العاملة في هذا المجال القلق، ما دفعها لوقف عملية البيع والشراء مؤقتًا لحين ضبط الأسعار بالصورة المناسبة تجنبًا لأي صدمات من شأنها أن تعرض التجار لخسائر فادحة.
في هذا السياق خرجت شركة تسمى “الإيمان” وهي إحدى الشركات المملوكة لكبار رجال أعمال يعملون في الصاغة وتجارة الذهب، ببيان أخطرت فيه جميع العاملين بها في مختلف الفروع بوقف التعامل مع العملاء مؤقتًا، ترقبًا لضبط الأسعار من البنك المركزي، كاشفة وجود فجوة كبيرة بين سعر الغرام في مصر مقارنة بسعره عالميًا، مستشهدة بالغرام عيار 21 الذي وصل سعره في السوق المصري 1220 وفق أسعار الأمس، فيما لم يتجاوز سعره عالميًا 977 جنيهًا.
البيان أربك سوق الذهب بشكل كبير، ما دفع شعبة تصنيع المعادن الثمينة باتحاد الصناعات والشعبة العامة لتجارة المجوهرات باتحاد الغرف التجارية، لإصدار بيان صحفي مشترك، لتكذيب بيان شركة “الإيمان” بوقف حركة البيع، مؤكدين أنه لم يتم إيقاف عمليات بيع وشراء الذهب من أي محل، وأن ما جاء في البيان السابق عن عدم الشفافية في التسعير “لا أساس له من الصحة”، لافتين إلى أن أسعار الذهب في مصر “تخضع لشفافية كاملة، وفقًا لآليات العرض والطلب ووفقًا لأسعار الأوقية في البورصات العالمية” بحسب البيان.
وحذرت الشعبتان من خطورة مثل تلك البيانات التي وصفتها بـ”الوهمية” من زيادة حالة الاحتقان والاضطراب داخل السوق المصري، وأن الهدف منها الإضرار بالاقتصاد الوطني، مطالبين بالحذر من تداولها واتخاذ كل الإجراءات القانونية ضد كل المروجين لها.
من جانبه يقول “عزت” صاحب أحد محال الصاغة في الجيزة، إنه بالفعل أوقف عملية البيع والشراء بالأمس بعدما وصل السعر إلى هذا الرقم الذي وصفه بـ”المجنون”، منوهًا في حديثه لـ”نون بوست” أنه استشعر القلق إزاء هذا التصاعد المفاجئ والمستمر في سعر الذهب خاصة أنه لا يتناسب مطلقًا مع سعره العالمي.
وأوضح تاجر الذهب المصري أنه ليس الوحيد الذي علق حركة البيع والشراء للمعدن الأصفر، فهناك آخرون ساورتهم الشكوك مما أسموه “الفقاعات السعرية” للذهب، منوهًا أن تلك الخطوة جاءت بصورة فردية ولم يكن هناك تعميم رسمي بها، موضحًا أنه من الصعب أن يصدر قرار رسمي بمثل تلك الإجراءات لما قد يترتب عليها من تداعيات كارثية على تجارة المعدن الأغلى في مصر.
الدولرة والسوق السوداء
تصاعدت مخاوف الكثير من المراقبين جراء الصعود المخيف لسعر الذهب في مصر، فقد اعتبره البعض جريمة تستهدف العملة المحلية وتقوض الاقتصاد المترنح بطبيعة الحال، إذ ذهبت الكثير من الآراء إلى أن السعر المروج له في سوق الذهب خلال الساعات الماضية يتعامل مع الدولار بقيمة تتجاوز 22 جنيهًا رغم أن سعره الرسمي في البنك المركزي 18.5 جنيه.
على سبيل المثال يبلغ سعر أونصة الذهب (31 غرامًا تقريبًا) نحو 1883 دولارًا، أي أن الغرام لا يتجاوز 60 دولارًا، وبالعملة المحلية 1110 جنيهات، إلا أنه يباع في السوق المحلي المصري بـ1390 جنيهًا، ما يعني أن سعر الدولار في سوق الذهب المصري يساوي أكثر من 23 جنيهًا، بزيادة قدرها 280 جنيهًا في الغرام الواحد.
ويمثل هذا التعامل بالسعر الدولاري المرتفع ضغوطًا كبيرة على البنك المركزي والاقتصاد المصري ويخلق سوقًا سوداء موازية للعملة الأجنبية، وهو ما يزيد من تفاقم الأزمة في ظل حالة الترقب التي تخيم على الأجواء في انتظار إجراءات المركزي بعد العودة من إجازة عيد الفطر ردًا على رفع البنك الفيدرالي الأمريكي قيمة الفائدة بخمسين نقطة.
وقد حذر عضو شعبة تجار الذهب، أمير رزق، من هذه الأجواء التي قد تخلق أزمة جديدة، لافتًا في تصريحات صحفية له أن “هناك حالة من عدم الاستقرار في سوق الذهب خلال الأمس بسبب عدم إمكانية حساب سعر الذهب على سعر الدولار قبل إجازة عيد الأضحي”، وأضاف “هذه الأسعار تم تحديدها بناء على سعر دولار يساوي 22 جنيهًا وبالتالي فإن هذه الأسعار هي المتداولة في السوق، لكن لم يتم فعليًا تنفيذ عمليات بهذه الأسعار سواء بيع أم شراء، لهذا هناك حالة من الترقب تسيطر على سوق الذهب انتظارًا لفتح البنوك أبوابها يوم الأحد المقبل”.
جدلية الملاذ الآمن
في الوقت الذي يميل فيه خبراء في تفسير حالة الفوضى والارتباك التي تخيم على سوق الذهب إلى كونه الملاذ الآمن للمدخرات في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجه البلاد وانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، يذهب آخرون إلى أن هذا اعتقاد خاطئ، فالذهب ليس الملاذ الآمن كما يتوقع البعض.
ومن أنصار هذا الرأي أستاذ التمويل وخبير البورصات العالمية السيد الصيفي، عميد كلية التجارة في جامعة الإسكندرية، الذي يرى أن الهرولة نحو المعدن الأصفر كوعاء ادخاري مضمون وثابت ليست الخيار الأكثر أمانًا كما يظن الكثيرون، بسبب التقلبات السعرية التي يتعرض لها بين الحين والآخر وتفقده في كثير من الأحوال الكثير من قيمته.
ويستشهد الخبير المصري بسعر الذهب في 2008، حين وصل سعر الأوقية حينها 1900 دولار، لكنها “بحسابات التضخم والفرص البديلة للاستثمار وكمية الأموال المطبوعة التي قادت إلى تخفيض قيمة العملة فإن السعر الحقيقي لأوقية الذهب ينبغي أن يكون أكثر من 6000 دولار”، أي أن سعر الذهب كان أقل من قيمته الحقيقية بأكثر من الضعفين، وعليه فإن من استثمر أمواله في شراء الذهب في ذلك الوقت خسر هذا الفارق الكبير.
واستعرض عميد كلية التجارة بجامعة الإسكندرية أبرز العوامل المؤثرة في سوق الذهب على المستوى العالمي، محددًا إياها في خمسة عوامل رئيسية تتحكم في رفع سعر المعدن أو انخفاضه، وهي: العرض والطلب، كما هو الحال مع أي سلعة يتم تداولها، غير أن الوضع في الذهب يختلف، فعلى عكس السلع الاستهلاكية فإن المعدن ليس منتجًا قابلًا للاستهلاك وأن كمية المستخرج منه سنويًا ليست عالية، وبالتالي إذا زاد الطلب على الذهب، يرتفع السعر لأن العرض نادر نسبيًا.
أما العامل الثاني فهو التضخم الذي يقود في النهاية إلى تراجع قيمة العملة وبالتالي رفع سعر الذهب المحسوب بالدولار في الأغلب، الأمر كذلك مع معدلات الفائدة التي ترتبط أسعار الذهب بها في علاقة عكسية، فإن زادت الفائدة قل الإقبال على الذهب والعكس، ثم تأتي “المصنعية” كعامل رابع مسؤول عن منظومة أسعار المعدن، وأخيرًا، التقلبات السعرية نتيجة التغيرات الطارئة بين الحين والآخر على أسعار العملات في السوق الدولية.
وفي الأخير.. فمن المتوقع أن تظل حالة القلق والفوضى تسيطر على سوق الذهب في مصر لحين التدخل الرسمي من البنك المركزي لتسعير الدولار وفق التطورات الجديدة، والمتوقع أن يكون خلال اجتماع 19 مايو/أيار الحاليّ، وحتى ذلك الحين إن لم يكن هناك تدخل من شعب التجار وصناعة الذهب لضبط السوق مؤقتًا فإن الوضع سيزداد سوءًا خاصة في ظل التوقعات بانهيار جديد للجنيه أمام نظرائه الأجانب.