في الشهر الأول من هذا العام، واجهت المشافي في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية أزمة دعم كبيرة من المانحين الدوليين، ما أدى إلى تراجع أعمالها والخدمات التي تقدمها للسكان في هذه المناطق، ويعتبر القطاع الصحي والطبي في الشمال السوري عصب الحياة، إذ إنه يخدم أكثر من 4 ملايين نسمة يقطنون هناك منهم مئات آلاف النازحين والمهجرين وساكني الخيام.
بالإضافة لانقطاع الدعم عن هذ القطاع الحيوي، فإن الشمال السوري يتعرض مرارًا وتكرارًا لهجمات من روسيا والنظام السوري، ما يفاقم معاناة الأهالي والطواقم الطبية، فخلال عشر سنوات مضت تعرضت المشافي لخسائر كبيرة، قالت منظمة الصحة العالمية إن 337 هجومًا وقع على مرافق طبية في شمال غرب سوريا بين عامي 2016 و2019، وأكدت أن نصف المنشآت الطبية البالغ عددها 550 منشأةً في المنطقة باتت خارج الخدمة، وأوضحت “لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)” أن “نحو 70% من العاملين في القطاع الصحي غادروا البلاد، وباتت النسبة اليوم طبيبًا واحدًا لكل 10 آلاف نسمة، ويضطر الكثير من العاملين في القطاع الطبي إلى العمل أكثر من 80 ساعة أسبوعيًا”.
عاودت بعض المنظمات الدولية إمداد المشافي والمراكز الصحية بالدعم لكن ليس كما قبل، حتى إن العديد من المراكز باتت خارج إطار خطة الدعم الصحي لهذا العام..فإلى أي مدى سيبقى هذا العصب الصحي تحت رحمة الداعمين وتقلبات المزاج الدولي؟
موارد شحيحة
في تقريرها الذي صدر مؤخرًا، قالت منظمة العفو الدولية: “تناقص المساعدات الدولية الممنوحة لشمال غرب سوريا في العام الماضي ترك نحو 3.1 مليون شخص، بينهم 2.8 مليون نازح داخليًا، في مواجهة أزمة صحية تكافح فيها المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى للعمل بموارد شحيحة”، وفي هذا السياق يقول حسام أبو محيي الدين المسؤول في منظمة سيما الطبية إن الوضع الطبي ما زال في تدهور يومًا بعد آخر بسبب قلة الدعم المقدم الذي بدأ بالانقطاع منذ الشهر الأول هذا العام.
ويقول أبو محيي الدين في حديثه لـ”نون بوست”: “مشاريع الدعم التي كانت تمد المشافي والمراكز الصحية تراجعت بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الخدمات المقدمة للسكان”، مضيفًا “المشافي باتت تحت ضغط سكاني كبير خصوصًا بعد عام 2020 ونزوح الناس من المناطق التي سيطر عليها النظام بحملته العسكرية، تلك المناطق كانت مخدمة بمشافي، لكن مع سيطرة النظام عليها ذهبت، ومع انتقال السكان إلى المناطق الجديدة لم يتم افتتاح مشافي ومراكز صحية جديدة إنما حصل الضغط على المؤسسات الموجودة وهو الأمر الذي ينذر بكارثة”.
الجدير بالذكر أن هذه المراكز والمشافي تعتمد بشكل كلي على الدعم الدولي المقدّم من مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، وهو ما أكده تقرير العفو الدولية الذي بيّن أن “المرافق الطبية هناك تعتمد على تمويل المجتمع الدولي بشكل كامل لتقديم خدمات صحية وأدوية مجانية، وعلى مدى الأشهر العشر الماضية، تراجعت المساعدات الدولية لقطاع الصحة بأكثر من 40%، بسبب انخفاض إجمالي في المساعدات الدولية المقدمة لسوريا”.
تقول نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية لين معلوف: “من المفترض أن يكون بديهيًا، بعد عامين من الوباء، أن أنظمة الرعاية الصحية هي خدمات حيوية يحتاجها الناس للبقاء على قيد الحياة”، مضيفةً “لقد أدى الانخفاض الهائل في التمويل في العام الماضي على الفور إلى إغلاق المستشفيات والخدمات الحيوية، وترك ملايين السوريين – الذين عانوا من الصراع والعنف – يكافحون من أجل الحصول على الأدوية وخدمات الرعاية الصحية الأساسية”.
بدوره يقول حسام أبو محيي الدين: “بعض الدول باتت تقيّد إرسال المساعدات للمنطقة من بينها المساعدات الطبية، كما أن الأزمة الأوكرانية استحوذت على اهتمام الدول، ما جعلهم يعطون الأولوية في المساعدات لذلك البلد وهو ما أثر على سير العمل في المنظمات المحلية التي تعتمد على المانحين الكبار”.
كارثة محتملة
إذن، انقطاع الدعم المستمر منذ أشهر أثر بشكل كبير على الخدمات المقدّمة للمواطنين في جميع الاختصاصات، وهنا يروي لنا المسؤول في القطاع الطبي أبو محي الدين، أن مشفى الإخاء الذي يخدم منطقة المخيمات في قرية أطمة الحدودية مع تركيا، “بات دون دعم ويعمل حاليًّا ببعض التبرعات المرسلة من الحملات التي تطلقها المنظمات، لكن أيضًا التبرعات لم تعد تكفي كما كانت قبل”.
بحسب تقرير العفو الدولية فقد تم تأمين 25% فقط من الدعم المطلوب للقطاع الصحي في الشهر الأخير من العام الماضي، بينما وصل الدعم المقدم قبل ذلك بأشهر 67%، ووفقًا لمديرية صحة إدلب “فقدت 10 من بين 50 مستشفى، بما في ذلك 6 مستشفيات لأمراض النساء والأطفال، و12 مركزًا للرعاية الصحية الأولية وثلاثة مراكز طبية متخصصة التمويل في 2022، كما ستكون مرافق الرعاية الصحية الأخرى التي لديها عقود أطول للأشهر أو السنوات القليلة المقبلة، معرضة لخطر الإغلاق إذا لم يتم تجديد العقود”.
انخفاض الدعم غير المسبوق على المشافي والمراكز الصحية، من الممكن أن يؤدي إلى “كارثة إنسانية كبيرة في هذه المناطق” وفقًا لما تحدث به لـ”نون بوست” الدكتور علاء الحمد، مشيرًا إلى أن بعض المستشفيات انخفضت طاقتها الاستيعابية إلى أقل من 20%، مضيفًا “المتأثر الأكبر من المشافي هو المختص بالأطفال والولادة”.
ما قاله الدكتور الحمد أكده تقرير العفو الدولية الذي أشار إلى أن مشفى التوليد وطب الأطفال في إدلب كان يستقبل قبل قطع التمويل نحو 500 مريض يوميًا، أما اليوم فلا يستقبل إلا 10% من هذا العدد أي 50 حالة فقط، لأن المشفى علق جميع الخدمات باستثناء خدمات العلاج الأساسي في غرفة الطوارئ”.
الأزمة الكبيرة في القطاع الصحي دفعت الكثير من الأطباء والكوادر الطبية إلى التفكير بالخروج من هذه المنطقة إلى خارج البلاد إما إلى تركيا وإما إلى غيرها، ما سيشكل كارثة تزيد من معاناة الشمال السوري أكثر فأكثر، ففي الأصل يعاني الشمال السوري من نقص الكوادر الطبية.
وفي هذا الصدد يقول حسام أبو محيي الدين إن العديد من الكوادر الطبية تعمل الآن في المشافي على أساس المنح الشهرية، ما يعني عدم وجود رواتب دورية، الأمر الذي يدفع الأطباء للتفكير بالخروج إلى أماكن أخرى وفقًا لأبو محي الدين.
هجرة الأطباء
يشير أبو محيي الدين إلى أن تخفيضات الرواتب طالت جميع الكوادر، فمثلًا كان راتب الطبيب 1200 دولار أمريكي شهريًا، واليوم يتراوح بين 700 إلى 900 دولار لكن ليس شهريًا، كما أن الرواتب تعتمد على التبرعات بعد أن كانت ضمن مشاريع الدعم الخاصة بالمنظمات الدولية وتتجدد كل سنة، وكذا فإن رواتب الممرضين انخفضت بنسبة 40%، ويوضح أبو محيي الدين أن كوادر بعض المستشفيات لم تتلق أي رواتب لمدة 3 أشهر متتالية، وهي المراكز التي تعتمد على المنظمات الدولية ولا تأتيها تبرعات.
وبالسؤال عن إمكانية الاستعاضة بالمشافي والعيادات الخاصة في المنطقة، أفاد الدكتور علاء الحمد أن الحالة الاقتصادية الصعبة تجعل من الصعب الاعتماد على مثل هذه المراكز، ويشير إلى أن 95% من سكان هذه المناطق لا يستطيعون الذهاب أو مراجعة القطاع الصحي الخاص، لأن التكاليف مرتفعة ولا يوجد أي دعم للحالات الطارئة هناك.
الجدير بالذكر أن الدراسات أحصت 3400 سرير في المنشآت الصحية بمناطق المعارضة السورية لما يقارب 4.4 ملايين نسمة، بمعدل أقل من سرير واحد لكل ألف شخص، وبحسب الأمم المتحدة فإن المناطق الأكثر خطورة تقع وستظل موجودة في خمس محافظات في شمال غرب وشمال شرق سوريا، وأضاف بيان للأمم المتحدة مطلع العام الحاليّ “من بين 4.4 مليون شخص من أولئك الذين يعيشون في شمال غرب سوريا حاليًّا، 3.1 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة الصحية”.
بالمحصلة، فإن عدم إيجاد حلول لهذا القطاع ينذر باستفحال الكارثة الصحية يومًا بعد آخر، في ظل تكاثر الأزمات على أهالي الشمال السوري على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية وعدم الاستقرار العسكري الحاليّ، ويبقى الحل بيد الدول والمنظمات باستئناف هذا الدعم لإنقاذ هذا القطاع وملايين المستفيدين منه.