يتميز المسلمون في هولندا بقدرتهم على الاندماج السريع داخل المجتمع، حتى باتوا ضلعًا أساسيًّا في مكونات الدولة رغم قلة العدد مقارنة بالبلدان الأوروبية الأخرى، وبعيدًا عن بعض الخطوات والإجراءات والحوادث العنصرية التي تستهدف الجالية المسلمة هناك، إلا أنها واحدة من أنجح الأقليات في البلاد.
ويمثّل المسلمون ما نسبته 5% من إجمالي عدد السكان البالغ عددهم 17 مليون نسمة، بواقع 850 ألف نسمة، وفق إحصاءات 2019، معظمهم من الأتراك الذين يبلغ تعدادهم قرابة 400 ألف نسمة، يليهم المغاربة بحوالي 390 ألف، وفق مركز الإحصاء الهولندي “سي بي إس“.
ويتوزّع المسلمون بين المدن الصناعية والريفية، إذ حققوا نجاحات على كافة المستويات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وباتت هناك مناطق بأكملها ذات أغلبية مسلمة، خاصة أن بعض أبناء الجالية تمتدّ جذورهم في هولندا إلى الجيل الرابع حاليًّا، ويتمركزون في بعض المناطق الاستراتيجية أبرزها العاصمة أمستردام وأولتريخت ولاهاي ودون هاج وهرلم.
المغاربة.. موجة الهجرة الأولى
تعود معرفة هولندا بالإسلام إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، عن طريق المهاجرين من المستعمرات الهولندية من سورينام وإندونيسيا والذين هاجروا إلى البلد الأوروبي للعمل وتحسين مداخيلهم، ووصل عددهم عام 1950 حوالي 5 آلاف مسلم، دشّنوا سوية اللبنة الأولى في جدار الأقلية المسلمة هناك.
وفي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، ومع انطلاق موجات الهجرة الآسيوية الأفريقية الشرق أوسطية نحو دول أوروبا، التي فتحت أبوابها في ذلك الوقت أمام شعوب العالم للإعمار والتعمير بعد الحرب العالمية الثانية، توافدت أعداد غفيرة من المسلمين والعرب إلى هولندا، حيث التحقوا بالمجالات الزراعية والصناعية.
وبحسب نائب رئيس الجامعة الإسلامية في هولندا سابقًا، مرزوق أولاد عبد الله، والذي انتقلَ للحياة في أمستردام عام 1974، فإن المغاربة كانوا أول الجنسيات الإسلامية التي استقرت في البلد الأوروبي بشكل ثابت ودائم، وليس مجرد فترة قصيرة ثم العودة للوطن الأمّ، تلاهم الأتراك ثم بقية الجنسيات الأخرى.
واستطاعت تلك الأقلية التي لم يتجاوز عددها بداية الأمر بضعة آلاف، ثم ارتفع بشكل كبير ليصل إلى 260 ألف مسلم بنهاية عام 1979، أن تبني أول مسجد لها في هولندا وبالتحديد في مدينة أمستردام عام 1975 وهو المسجد الأمّ حتى اليوم، وكان الخطوة الأولى نحو بناء مئات المساجد في بقية المدن الأخرى، تنقسم حسب جنسية كل جماعة، فهناك مساجد للمغاربة وأخرى مخصصة للأتراك وثالثة للباكستانيين وهكذا.
وفي نقلة نوعية في مسار الجالية المسلمة في هولندا، تمَّ تدشين “جامعة أوروبا الإسلامية” بمدينة سخيدام (غرب) عام 1998، لتكون أول جامعة إسلامية في أوروبا، وتمَّ تدشين فرع لها في أمستردام عام 2001.
وتدرّس هذه الجامعة المواد الشرعية الإسلامية المستوحاة من المناهج الأزهرية من قرآن وأحاديث وتفسير وفقه وتاريخ وسيرة، وقد ساعدت المسلمين على الحفاظ على هويتهم وتعلُّم أمور دينهم، بشكل قادهم للثبات في مواجهة علمنة الدولة وتيارات التنصير المستمرة في أوروبا بأكملها.
الاندماج.. مرونة حكومية
اتخذت السلطات الهولندية خلال العقود الماضية حزمة من القرارات والقوانين لتسهيل اندماج المسلمين في المجتمع الهولندي، عكس الكثير من الدول الأوروبية الأخرى التي شدّدت من قيودها على الأقليات بصفة عامة.
ففي عام 1990 أصدر البرلمان الهولندي قانونًا يسمح للأجانب بالمشاركة في الانتخابات البلدية، شريطة أن يمرَّ على إقامتهم 5 سنوات فقط، وبعد 3 سنوات فقط من القانون حصل المسلمون على 3 مقاعد برلمانية ارتفعت إلى 7 بعد مرور 8 سنوات.
بجانب ذلك سهّلت الحكومة حصول الوافدين على الجنسية الهولندية، فلم تعد اللغة شرطًا أساسيًّا، كما تمَّ تقليص المدة لـ 5 سنوات فقط للحصول على الإقامة ومن ثم الجنسية، وهو ما شجّع على الهجرة التركية والمغربية للبلاد في أواخر الألفية الماضية وبدايات الألفية الجديدة، حيث ارتفع عدد المسلمين من 13 ألفًا عام 1990 إلى 171 ألفًا عام 1999.
كما دعمت الحكومة المنظمات التابعة للمسلمين بالدورات التدريبية واللغوية التي تعزِّز الاندماج وتقرِّب المسافات بين الأقليات والهولنديين، فضلًا عن فتح أبواب العمل أمام الشباب المسلم، ما أدّى إلى انخفاض نسبة البطالة بين المسلمين من 18% عام 1990 إلى 6% عام 1998.
وعلى الجانب النسوي، فقد شهدت المرأة المسلمة احتواءً كبيرًا من قبل العديد من المؤسسات الاجتماعية الهولندية، حيث فُتحت أمامها مجالات العمل المختلفة، ومُنحت دورات ودروس تعليمية في مجالات اللغة، ووصل الأمر إلى ضمّ المسلمات إلى قطاع الشرطة النسائية، وخُصص لهنّ زي إسلامي خاص (الحجاب).
ومن باب المساعدة على الانخراط في المجتمع الهولندي وتقديم صورة إيجابية عن الجالية المسلمة، أجرى التلفزيون الهولندي، قبل عامَين، تجربة اجتماعية جيدة، حيث جمع 8 هولنديين مسلمين تحت سقف واحد لمدة أسبوع كامل، وذلك ضمن برنامج “مسلمون مثلنا” (بريطاني الأصل)، بهدف إظهار أن مسلمي هولندا لا يختلفون في قضاياهم عن الهولنديين أنفسهم، وذلك ردًّا على دعاوى اليمين المتطرف التي كانت تضع المسلمين كلهم في سلة واحدة من التشدد والتطرف.
ونجح البرنامج بعد انتهاء مدة الأيام السبعة في إثبات مدى تمايز المسلمين الثمانية في أفكارهم الخاصة رغم وحدة الاعتقاد، واجتماعهم على مواقف وقضايا وطنية ثابتة، هي ذاتها التي يتّفق معها أبناء هولندا الأصليين من العرقيات والأديان الأخرى، الأمر الذي انعكس بصورة كبيرة على تقبُّل المجتمع الهولندي للمسلمين كشركاء في الوطن وليسوا مهدِّدًا له.
هموم وتحديات
“بداية لا بدَّ أن نشير إلى أن همومنا كجالية مسلمة في هولندا أقل بكثير ممّا هي عليه في بلدان أخرى، رغم تنامي نفوذ اليمين المتطرف خلال السنوات الماضية إلى حد ما”، هكذا استهلَّ عضو الحزب الإسلامي الديمقراطي في هولندا، حسام عيسى (50 عامًا)، حديثه عن واقع المسلمين في هذا البلد الأوروبي.
وأشار عيسى ذو الأصول المصرية إلى أن أول تجمع عائلي مسلم في هولندا كان بداية السبعينيات، حين بدأ المغاربة في استقدام عوائلهم، تلاهم الأتراك بعد ذلك ثم الأندونيسيون وغيرهم، لتتحول الأقلية المسلمة إلى تجمعات عائلية، وكان ذلك إعلانًا رسميًّا لاستقرار تلك العائلات والبدء في وضع الرتوش الأولى نحو التأقلم والتكيف مع المجتمع الهولندي.
وفي حديثه لـ”نون بوست” الذي تطرق فيه لواقع وتحديات الجالية المسلمة، قال عضو الحزب الإسلامي الديمقراطي الهولندي إن التعليم هو أكبر هموم المسلمين هناك، إذ يواجهون معضلات التأقلم والتأخُّر الدراسي ومشاكل اللغة، غير أن حدّة تلك المشكلة بدأت تتلاشى رويدًا رويدًا بفضل المنظمات الإسلامية، التي وفّرت دروسًا ودورات خاصة للطلاب المسلمين للالتحاق بالتعليم.
وينقسم التعليم في هولندا إلى نوعَين، تعليم مفتوح ويلتحق به كل المواطنين، وتعليم ديني خاص بكل ديانة على حدة، وفق الدستور الصادر بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم إن بناء مدارس إسلامية حق شرعي دستوري قانوني، وإنما المعضلة الأبرز في عرقلة الأشخاص والمواطنين وبعض المسؤولين، بحسب عيسى الذي قال إنهم قد حصلوا على ترخيص لإنشاء مدرسة إسلامية في إحدى البلدان التابعة للاهاي منذ 4 سنوات، إلا أن السكان اعترضوا على إقامتها رغم صدور ترخيص لها.
ورغم وجود 47 مدرسة إسلامية في مختلف مدن هولندا، إلا أن الجالية هناك تبحث عن المزيد للحفاظ على الهوية، غير أن هناك صعوبات بالغة في الحصول على تراخيص، ففي فترة 2004-2014 لم يحصل المسلمون سوى على ترخيص مدرسة واحدة في لاهاي.
وعن فلسفة تعطيل التراخيص، يقول عيسى: “مشكلتنا الأساسية هي تعطيل المدارس الابتدائية، ما يسبّب تعطيل المدارس الثانوية، لو لديك 3 مدارس ابتدائية في المدينة يحقّ لك إنشاء مدرسة ثانوية، لو عندك 167 طفلًا في الصف الرابع أو الخامس فأنت من حقك أن تطلب مدرسة ثانوية، ولذا كان التعطيل في إعطاء تراخيص المدارس الابتدائية”.
وأضاف: “في لاهاي 20% من السكان هم من المسلمين، حيث قالت إحدى الدراسات التي أجرتها جامعة أوترخت يجب أن يكون في لاهاي من 17 إلى 20 مدرسة إسلامية، بينما نحن لدينا 3 فقط”.
ومن أبرز المشاكل التي تواجه مسلمي هولندا تلك الخاصة بالتقاليد الصحية، ففي الوقت الذي يوجد في هولندا أحد أفضل أنظمة التأمين الصحي في العالم، إلا أنها تصطدم بحزمة العادات المسلمة، لا سيما المتعلقة بطبّ المرأة والمسنين، غير أن تلك المشكلة تراجعت مؤخرًا مع بداية الجيل الثالث والرابع، حيث ظهور الطبيب المسلم المتفهّم لتلك الخصوصية.
هذا بخلاف مشكلة البطالة التي تراجعت كثيرًا عمّا كانت عليه في السابق، تلك الفترة التي خضعت فيها لإجراءات عنصرية بحتة، حيث كان يتمّ استبعاد المسلمين من العمل بسبب أسمائهم الثلاثية التي كانت تكشف عن هويتهم الدينية ومن ثم يتمّ استبعادهم، وعليه تمّت المطالبة بعدم التعامل مع متقدّمي العمل بناءً على أسمائهم لكن من خلال أرقام ورموز لا تكشف عن هوية صاحبها ولا اسمه، ولا تعطي أي مدلول سوى مؤهّلاته وفقط.
أما عن الحضور السياسي، فكان المسلمون في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي يميلون أكثر إلى حزب العمل، سواء برغبة شخصية من أبناء الجالية أو بناءً على تعليمات قادمة من عواصم بلدانهم الأصلية في تركيا والمغرب، لكن الوضع الآن تغيّر نسبيًّا، بحسب عضو الحزب الإسلامي الديمقراطي، الذي كشف عن وجود الكثير من الأعضاء المسلمين داخل أحزاب هولندا الكبرى، وعلى رأسها حزب الخضر.
مع بداية الألفية الجديدة، تعرّض المسلمون إلى مشاكل كبيرة خاصة بالاندماج نتيجة تصاعد الخطاب العنصري، ومن ثم جاءت فكرة تدشين حزب سياسي إسلامي يتحدث باسمهم، وعام 2005 تمَّ إنشاء الحزب الإسلامي الديمقراطي في لاهاي، وكان بمثابة ضربة قوية لليمين المتطرف.
فحزب إسلامي في دولة علمانية كان قبوله صعبًا في البداية، لكنه لاحقًا أصبح مألوفًا بعد الجلسات المكثفة التي عقدها المسلمون مع أبناء الجاليات الأخرى ومع الهولنديين أنفسهم، وبدأوا في تغيير الصورة المشوهة المأخوذة عنهم، هذا بخلاف العديد من الأعضاء داخل حزب نداء.
يُذكر أن المسلمين في هولندا حققوا إنجازات كبيرة على المستوى الاقتصادي، حيث مئات المشاريع والاستثمارات في مختلف البلدان، بل إن بعض المناطق بعينها باتت حكرًا على مشاريع المسلمين فقط، هذا بجانب التفوق الواضح في بعض المجالات كالأسواق التجارية والمطاعم التي يسيطر عليها الأتراك والمغاربة بصورة كبيرة.
العنصرية واليمين المتطرف
انعكس تنامي اليمين المتطرف بداية من الألفية الجديدة على واقع المسلمين في هولندا، كما هو حال بقية الأقليات في مختلف دول القارة الأوروبية، ونجحَ خيرت فيلدرز وحزب من أجل الحرية في تحقيق عدة نجاحات على أكثر من مسار في تقويض النفوذ المسلم، حيث عطّلوا بناء المساجد والمدارس وطالبوا بغلقها بحجّة أنها عقبة أمام الاندماج في المجتمع الهولندي.
يذكر أنه في شهر رمضان العام الماضي اجتمع أنصار فيلدرز وحزبه أمام مسجد أهل السنّة، أحد أكبر المساجد في مدينة لاهاي، وقاموا بحفل شواء لحم الخنزير، من أجل استفزاز المسلمين الذين استدعوا الشرطة بطبيعة الحال التي أبعدتهم عن المكان، لكن في الجهة المقابلة قررت بعض العائلات الهولندية دعم المسلمين من خلال صيام أحد أيام رمضان والمشاركة في إفطار جماعي مع الجالية، بحسب شهادات بعض مسلمي الجالية هناك لـ”نون بوست”.
تتمحور أزمة الأقلية المسلمة مع المتطرفين في هولندا في عدم معايشة الهولنديين للمسلمين بشكل مباشر، إذ إن كافة التصورات الخاطئة والمتطرفة الخاصة بالمسلمين تمَّ الحصول عليها سماعًا وعبر وسائل الإعلام الموالية للشعبويين.
لهذا تبنّى الحزب الإسلامي الديمقراطي هناك سياسة “اسمع منا ولا تسمع عنا”، حيث نظّم العديد من الاجتماعات واللقاءات مع أنصار اليمين المتطرف في شمال وجنوب هولندا، وتبادلوا سوية الحديث عن سماحة الإسلام وديمقراطيته ومدنيته، بعيدًا عن الصورة المغلوطة المشوَّهة التي انتشرت لأسباب سياسية وعقدية.
هذه السردية أكّدها المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، في دراسته الصادرة في فبراير/ شباط 2021 تحت عنوان “تصورات المسلمين الهولنديين حول الإسلاموفوبيا”، والتي استندت إلى نتائج 15 مقابلة متعمِّقة مع شخصيات من المجتمع المسلم ومسح نظري لـ 102 مشارك من 8 مساجد.
كشفت الدراسة أن حالة القلق التي يعاني منها المجتمع الهولندي تجاه المسلمين مردّها الأساسي الإعلام والتعليم، حيث التحذيرات المستمرة من المسلمين ومحاولة تصدير صورة سلبية عنهم كونهم جماعات متطرفة.
وهناك حالة ربط غير مبرَّر بين الإسلام والجماعات المتطرفة كتنظيم الدولة وخلافه، والإيهام بأن الجالية المسلمة في مجملها خلية من خلايا هذا التنظيم، وهي التصورات التي ألقت بظلالها نسبيًّا على قبول المجتمع الهولندي للمسلمين، خاصة ممّن لم يعايشوهم من أبناء المدن الشمالية والجنوبية تحديدًا.
وفي النهاية، يبقى واقع الجالية المسلمة في هولندا أحد أبرز النماذج الناجحة، لا سيما بعدما فرضت نفسها كضلع أساسي في الدولة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، بجانب حضورها السياسي المتنامي، وهو ما تترجمه التقديرات المستقبلية بأنه خلال السنوات المقبلة ربما يحتلّ المسلمون مرتبة متقدمة فيما يتعلق بثقلهم الكمّي والكيفي.