“إذا حصلنا يومًا على القدس، وكنت لا أزال حيًا وقادرًا على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسًا فيها لدى اليهود، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قرون”، بهذه الجمل القصيرة كشف زعيم الصهيونية ومؤسسها الأول تيودور هرتزل، ملامح السياسات الإسرائيلية الممنهجة تجاه مدينة القدس والمسجد الأقصى والنوايا الحقيقية لدولة الاحتلال إزاء المدينة المقدسة.
فرضت كلمات هرتزل نفسها على الأسماع مجددًا في أعقاب التصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، التي قال فيها: “جميع القرارات المتعلقة بالمسجد الأقصى ومدينة القدس سيتم اتخاذها من قبل إسرائيل” التي اعتبرها “صاحبة السيادة على المدينة بغض النظر عن أي اعتبارات خارجية”، وذلك خلال كلمة له بمستهل الاجتماع الأسبوعي للحكومة أمس الأحد 8 مايو/أيار 2022.
ورغم السياسة الإسرائيلية المنظمة تجاه القدس منذ احتلالها عام 1948، التي تهدف إلى فرض السيادة الإسرائيلية على مقدسات المسلمين كأمر واقع من خلال خطط وإستراتيجيات ممنهجة، فإن تصريحات بينيت أحدثت حالة من الارتباك لدى الشارع الفلسطيني والأردني على حد سواء، كونها تأتي في وقت يشهد فيه المسجد الأقصى ومحيطه، توترات متصاعدة منذ بداية أبريل/نيسان الماضي، جراء اقتحامات نفذها آلاف المستوطنين لباحات المسجد، بحراسة من الشرطة الإسرائيلية، أسفرت عن سقوط عدد من الشهداء ومئات الاعتقالات في صفوف المرابطين.
مخالفة للقانون الدولي
بموجب القانون الدولي فإن دائرة أوقاف القدس، التابعة لوزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية بالأردن، هي المشرف الرسمي على المسجد الأقصى وأوقاف القدس (الشرقية)، كون المملكة آخر سلطة محلية مشرفة على تلك المقدسات قبيل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
ووفق قرار عصبة الأمم عام 1930، فإن ملكية المسجد الأقصى المبارك وحائط البراق والساحة المقابلة له تعود للمسلمين وحدهم دون غيرهم، كما أن القدس الشرقية بكل مقدساتها، المسلمة والمسيحية، هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، حسب القرارات الدولية وآخرها القرار رقم 2334 الذي أكد أن “القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن جميع أشكال الاستيطان غير شرعية في جميع الأراضي الفلسطينية”.
ويحتفظ الأردن بحقه في الإشراف على المسجد وبقية المقدسات في القدس بموجب اتفاقية “وادي عربة” للسلام، التي وقعها مع “إسرائيل” في 1994، فضلًا عن الاتفاقية الموقعة في مارس/آذار 2013 بين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين والرئيس الفلسطيني محمود عباس، التي تعطي المملكة حق “الوصاية والدفاع عن القدس والمقدسات” في فلسطين.
طالب نتنياهو صراحة برحيل الحكومة الحاليّة وتشكيل حكومة وطنية قوية برئاسته على الفور، بزعم قدرتها على استعادة السلام والأمن للإسرائيليين على حد قوله
وعليه جاء بيان حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ردًا على مزاعم بينيت بأنها محاولة يائسة لفرض واقع غير موجود إلاّ في أحلام الإسرائيليين، معتبرًا أن تلك التصريحات تمثل “تعدّيًا صارخًا على حقوق شعبنا المقدّسة، وعلى الرعاية الأردنية الهاشمية للمسجد الأقصى المبارك، واستهتارًا بكل الأعراف والمواثيق الدولية”.
فيما وصف النائب محمد الظهراوي، رئيس لجنة فلسطين بمجلس النواب الأردني، في بيان له، تلك التصريحات بأنها “انقلاب على الواقع التاريخي والديني في المسجد الأقصى المبارك والقدس الشريف”، مضيفًا “الكيان الإسرائيلي قوة احتلال استعمارية تُمارس الإرهاب والإجرام ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، ولا تمتلك أي شرعية دينية وتاريخية وقانونية في المدينة المُقدسة”.
وأوضح أن “المسجد الأقصى، البالغة مساحته 144 دونمًا (الدونم الواحد يساوي ألف متر مربع) إنما هو حق خالص للمسلمين وحدهم، ترعاه وصاية هاشمية مباركة، التي يحملها صامدًا ثابتًا على الحق الملك عبدالله الثاني”، مجددًا رفض بلاده للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، و”الوقوف بكل صلابة في وجه الضغوطات المباشرة وغير المباشرة التي يتعرض لها” ومؤكدًا أن القدس ستبقى العاصمة الأبدية لفلسطين.
ضغوط على حكومة بينيت
تاتي تلك التصريحات في سياق الضغوط التي تواجهها حكومة بينيت بسبب عمليات المقاومة الأخيرة داخل العمق الإسرائيلي، وآخرها عملية “إلعاد” مساء الخميس 5 مايو/آيار الحاليّ بالقرب من تل أبيب، وأسفرت عن مقتل 3 إسرائيليين وإصابة آخرين.
تلك العملية التي وضعت الحكومة في مرمى الانتقادات، أبرزها تلك التي وجهها زعيم المعارضة في دولة الاحتلال، رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، حين أشار إلى أن المقاومة الفلسطينية ترى أمامها حكومة ضعيفة وغير قادرة على الحفاظ على الأمن لمواطني “إسرائيل”، في إشارة لحكومة بينيت.
وطالب نتنياهو صراحة برحيل الحكومة الحاليّة، وتشكيل حكومة وطنية قوية برئاسته على الفور، بزعم قدرتها على استعادة السلام والأمن للإسرائيليين على حد قوله، وتابع في تغريدة له “في عهد حكومة الليكود (اليمينية برئاسته) كان الوضع الأهدأ والأكثر أمانًا في تاريخ البلاد، أما الآن ووفقًا لبيانات الجيش الإسرائيلي، قُتل 19 شخصًا في شهر ونصف”.
وعلى المستوى الشعبي خرجت بعض المسيرات داخل تل أبيب للمطالبة بالانتقام والثأر لمقتل عدد من المستوطنين وجنود الاحتلال على أيدي المقاومين الفلسطينيين خلال الآونة الأخيرة، بل وصل الأمر إلى دعوة بعض المسؤوليين والصحفيين الإسرائيليين باغتيال زعيم حركة حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، الأمر الذي مثل ضغوطًا كبيرةً على الحكومة الحاليّة التي تعاني من تشققات على المستوى الداخلي.
هل تنسحب القائمة العربية الموحدة؟
مأزق آخر ربما يجد بينيت نفسه فيه في ظل تصاعد الأصوات المطالبة لحزب “القائمة العربية الموحدة” برئاسة منصور عباس، بالانسحاب رسميًا من الائتلاف الحكومي، وهي الخطوة التي لو تمت ستفقد الحكومة أغلبيتها البرلمانية وتضعها أمام سيناريو الحل والانتخابات المبكرة.
وسبق لعباس المقرب من الأردن أن انتقد الحكومة الإسرائيلية جراء الانتهاكات التي مارستها في الأقصى طيلة شهر رمضان المنقضي، واستهداف المرابطين في محاول لتفريغ المسجد أمام المستوطنين للاحتفاء بعيد الفصح وممارسة طقوس ذبح القرابين، ما أدى في النهاية إلى مواجهات أسفرت عن سقوط عدد من الشهداء والمصابين.
عمليًا تمارس دولة الاحتلال كل أنواع الهيمنة والسيطرة على مدينة القدس والمسجد الأقصى، هيمنة ميدانية وإن كانت دون غطاء قانوني أو شرعي
وكان رئيس “القائمة العربية الموحدة” قد صرح قبل ذلك بأن بقاء حزبه في التحالف الحاكم مرهون بـ”التفاهمات التي سيتم التوصل إليها بين الأردن وإسرائيل”، بحسب ما نقل “عربي 21” عن موقع “i24″ الإسرائيلي، الذي لفت إلى أن عباس ذكر أنه أحاط بينيت ونائب رئيس الوزراء علمًا بذلك”.
وقد أثار موقف عباس الجدل داخل الشارع الإسرائيلي، إذ تساءلت القناة “12” العبرية في تقرير لها عقب تصريحاته الأخيرة: “هل يقرر ملك الأردن مصير الحكومة؟”، منوهة إلى أن “عباس شدد على أن الحل النهائي هو إنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، عاصمتها القدس، وفي قلبها المسجد الأقصى”، فيما توقعت القناة الإسرائيلية أن تكون الدورة البرلمانية القادمة للكنيست أكثر صعوبة مما كان يتوقعه الائتلاف الحاكم الذي بات مستقبله السياسي على المحك.
بين البروباغندا وحفظ ماء الوجه
لا يمكن قراءة تصريحات بينيت المتعلقة بفرض السيادة الإسرائيلية المنفردة على الأقصى بمعزل عن محاولة استعادة شعبيته المتراجعة ومحاولة التصدي لمخطط المعارضة إزاحته من رئاسة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وذلك على مسارين لا ثالث لهما.
الأول فرض حالة من البروباغندا والدعاية السياسية له وحكومته التي تعاني من انقسامات داخلية وترجيح احتمالات سحب الثقة بعدما فقدت أغلبيتها البرلمانية، ومحاولة مغازلة اليمين المتطرف وكتلته التصويتية الكبيرة، سواء داخل الكنيست أم لدى الشارع الإسرائيلي، على أمل أن تسفر تلك التصريحات الشعبوية الاستفزازية عن تعاطف شعبي وسياسي معه، ولعل هذا أحد التفسيرات المطروحة لفهم التصعيد الإسرائيلي الأخير ومخطط جرجرة الساحة إلى حرب جديدة داخل غزة، يحقق من خلالها بينيت مكاسب سياسية، رغم الصعوبات التي فرضتها التحديات الإقليمية والدولية التي وقفت حائلًا دون مواصلة هذا المخطط.
أما المسار الثاني فحفظ ماء الوجه والحفاظ على هيبة الحكومة التي تشوهت بصورة كبيرة بعدما سقطت أوهام العمق الأمني الذي لا يخترق على أعتاب عمليات المقاومة الفردية في الداخل الإسرائيلي، وهو ما ألمح إليه نتنياهو حين أشار إلى أن الفلسطينيين باتوا ينظرون إلى حكومة بينيت على أنها “حكومة ضعيفة” لا تستطيع الدفاع عن أمنها أو الحفاظ على أمن مواطنيها.
هل يفعلها الاحتلال؟
عمليًا تمارس دولة الاحتلال كل أنواع الهيمنة والسيطرة على مدينة القدس والمسجد الأقصى، هيمنة ميدانية وإن كانت دون غطاء قانوني أو شرعي، وهو ما يجعل تصريحات الأمس “مغازلة للاستهلاك المحلي” لن تغير كثيرًا في معطيات الواقع الذي يقول إن المساحة الواقعة تحت الوصاية والحكم الأردني حاليًّا لا تتجاوز 2220 دونمًا بما نسبته 11.48% من مساحة القدس، مقابل 16261 دونمًا تحت السيطرة الإسرائيلية بما نسبته 84.13% من مساحة المدينة المقدسة، فيما تمثل مناطق الأمم المتحدة والمناطق الحرام 850 دونمًا بنسبة 4.39% فقط.
ومنذ الاحتلال الإسرائيلي للقدس ويحاول الكيان المحتل تهويد المدينة من خلال عدة مسارات، حددها الكاتب المتخصص في الشأن الفلسطيني علي إبراهيم، في أربعة رئيسية، أولها: مسار التهويد الديني والعمراني، حيث تهويد كل ما في المدينة من معالم دينية وعمرانية وثقافية، عبر الاقتحامات اليومية وتكثيف الوجود اليهودي، واستحداث معالم ذات صبغة يهودية، خاصة في محيط المسجد الأقصى والبلدة القديمة، كذلك تزوير الآثار والادعاء بأنها يهودية، من خلال هدم وتدمير أي آثار عربية وإسلامية، مقابل الادعاء بإيجاد قطع أثرية تعود إلى حقبة “المعبد”.
أما المسار الثاني فهو مسار اختراع هوية يهودية للقدس، من خلال تبني خطط تغيير هوية المكان، وخطوة لتغيير الهوية العربية والإسلامية للقدس المحتلة، ومحاولة اختراع هوية يهودية، عبر استهداف المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعرقلة وصول المصلين إلى الأقصى في الأعياد الإسلامية، بجانب تغيير أسماء الأماكن في المدينة المحتلة وإطلاق أسماء متصلة بأسطورة “المعبد” وحاخامات يهود بدلًا عنها، فضلًا عن استهداف مقابر القدس الإسلامية التي تُشكل جزءًا من هوية المدينة، وتحويل هذه المقابر إلى حدائق توراتية، على غرار ما يجري في المقبرة اليوسفية، وإلى مشاريع استيطانية على غرار ما جرى في مقبرة مأمن الله.
تحاول حكومة الاحتلال ومعها حلفاؤها في المنطقة تجنب مسارات التصعيد حاليًّا، في ظل المستجدات الإقليمية والدولية التي يشهدها العالم وتفرض حزمة من التحديات تجعل من فتح جبهة توتر جديدة مسألة صعبة
فيما يأتي المسار الثالث الخاص بالتهويد الديموغرافي عبر زيادة أعداد المستوطنين القاطنين في المدينة في مقابل السعي الدائم إلى تقليل أعداد المقدسيين واستهداف وجودهم، مع حرمانهم من السكن، عبر هدم منازلهم من أذرع الاحتلال (تُشير التقديرات إلى أن نحو 20 ألف منزل مقدسي مهدد بالهدم من بلدية الاحتلال) إضافة إلى إجبار المقدسيين على هدم منازلهم ذاتيًا، وسحب بطاقات الهوية الزرقاء من المقدسيين، وإخراجهم مباشرة من المدينة المحتلة.
أما المسار الأخير فيتعلق بتهويد القطاعات الحياتية للمقدسيين، من خلال استهداف قطاع التعليم ومحاولة فرض المنهاج الإسرائيلي على المدارس الفلسطينية في المدينة، بجانب استهداف القطاع الصحي، من خلال ربط الفلسطينيين بالمنظومة الصحية الإسرائيلية، واستهداف القطاع الاقتصادي، عبر الضرائب الباهظة والاعتداء على أصحاب المحال التجارية، وأخيرًا استهداف مؤسسات المجتمع الأهلي، عبر الإغلاق المتكر ووضعها على لوائح الإرهاب، لحرمان المجتمع المقدسي من مقومات صموده.
وهنا تساؤل: هل من الممكن أن تُقدم حكومة الاحتلال على الانفراد بالسيادة على الأقصى وإزاحة الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية هنالك؟ لا شك أن خطوة كهذه سيكون لها ارتدادات سلبية على الداخل الإسرائيلي وعلاقات الاحتلال الخارجية، عبر التصعيد مع المقاومة وخسارة حليف قوي مثل عمان فضلًا عن احتمالية أن يقود ذلك إلى توتر في العلاقات مع القاهرة وأنقرة والرياض وأبو ظبي، وهو ما تتجنبه تل أبيب في هذا الوقت.
تحاول حكومة الاحتلال ومعها حلفاؤها في المنطقة تجنب مسارات التصعيد حاليًّا، في ظل المستجدات الإقليمية والدولية التي يشهدها العالم وتفرض حزمة من التحديات تجعل من فتح جبهة توتر جديدة مسألة صعبة، خاصة في ظل ما تعانيه خريطة التحالفات الدولية من سيولة وتغيرات محورية تدفع كل قوى إلى العودة خطوة للوراء قليلَا لحين انجلاء الغبار واتضاح الرؤية بشكل كامل.
وعليه فإن “إسرائيل” في غنى عن الدخول في حرب جديدة قد تجد نفسها مدفوعة لها حال ترجمة تصريحات بينيت إلى قرارات رسمية، وفي المقابل فإن المقاومة والسلطة كلاهما لا يريد استنزاف ما لديه من طاقة وإمكانات في ظل حالة الفوضى التي تخيم على الأجواء، ومن ثم تأتي تلك المزاعم في سياق الدعاية السياسية التي يحاول بها بينيت ترسيخ أركان حكومته حتى انتهاء ولايتها الأولى، وإلا فستكون كل الخيارات مفتوحة.