انتكاسة جديدة عرفها نظام الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 8 مايو/ أيار 2022، بعد أن عجز أنصاره عن ملء شارع الحبيب بورقيبة، أكبر شارع في العاصمة، في المظاهرة التي دعوا إليها لمساندته، والتعبير عن وقوفهم معه في تنفيذ مشروعه السياسي، القائم على تركيز جمهورية جديدة تقطع مع كل مقوّمات البناء الديمقراطي، وتؤسِّس لمرحلة جديدة قوامها البناء القاعدي.
حيث “تظاهر مئات التونسيين يوم الأحد لتأييد الرئيس قيس سعيّد ودعم خطواته نحو إعادة صياغة الدستور، الذي يقول المعارضون إنه سيرسّخ حكم الرجل الواحد”، والتعبير هنا لوكالة الأنباء العالمية “رويترز”، في فشل آخر يُضاف إلى تاريخ سلطة الأمر الواقع في تونس، والتي لطالما ادّعت في كل مناسبة أنها تستمدّ مشروعيتها من الشعب، ومن ملايين المؤيّدين لها.
تضيف وكالة “رويترز” في برقيتها الإخبارية: “قال أنصار سعيّد، الذين كان تجمُّعهم في وسط تونس العاصمة أقل حشدًا من احتجاجات نظّمتها المعارضة في الآونة الأخيرة، إن معارضي الرئيس فاسدون، ودعوا إلى محاسبة أحزاب المعارضة”.
لن نقف كثيرًا عند برقية الوكالة الإخبارية الأشهر في العالم، لكن الاقتباس منها يهدف كشف حقيقة ما حدثَ البارحة، حيث كانت الصدمة قوية في صفوف أنصار الرئيس التونسي، ممّن فشلوا في تنظيم مظاهرة ضخمة لمساندته، رغم توفير كل الإمكانات اللوجستية والاتصالية والمالية تمهيدًا لإنجاحها.
يعلم المتابعون لمسار الأحداث في تونس أن مظاهرة 8 مايو/ أيار كانت مصيرية بالنسبة إلى النظام التونسي، لعدة أسباب لا يتّسع المجال لذكرها كلها، لكننا سنحاول في النقاط التالية ذكرها وتحليل أبعادها بعيدًا عن المواقف الذاتية.
كانت الصدمة شديدة في صفوف مناصري قيس سعيّد، فعدد المشاركين الذي لم يتجاوز بضع مئات، كشف أمام العالم أن النظام الحالي لا مشروعية شعبية واقعية له على أرض الواقع
خلال الأشهر الأخيرة، وصلَ الضغط الدولي المسلَّط على نظام سعيّد أشدّه، فالانتهاكات الحقوقية وتغوّل الأجهزة الأمنية وقمع المعارضين والتجسُّس عليهم وسجنهم ومنعهم من ممارسة حقهم الدستوري في التعبير، إضافة إلى حلّ المؤسسات الدستورية ووضع اليد على وسائل الإعلام بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ومحاكمة الصحفيين بقانون الإرهاب وأمام المحاكم العسكرية، وغيرها من الانتهاكات الجسيمة، وضعت سلطة الأمر الواقع في موقف دولي محرج، بالتزامن مع فشل دبلوماسي في تبييض صورة النظام أمام العالم.
منذ أسابيع، ضجّت الصفحات والمجموعات والشخصيات المحسوبة على نظام قيس سعيّد بالدعوات إلى تنظيم مظاهرة حاشدة في شارع الحبيب بورقيبة، لمساندته وتوجيه رسالة إلى الخارج أن “سعيّد ليس وحده” وأنهم لن يسمحوا لـ”التدخل الأجنبي”.
وقد وصلت بعض هذه الدعوات للمطالبة بالاحتجاج أمام سفارات الدول التي عبّرت عن تخوّفها ممّا يحدث في تونس، ودعت في مناسبات عديدة للعودة إلى الدستور والديمقراطية، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية.
في 8 مايو/ أيار 2022، توجّهت كاميرات ومراسلو وسائل الإعلام العالمية التي تعمل في تونس، بالإضافة إلى وسائل الإعلام المحلية، صوب شارع الحبيب بورقيبة، حيث توجد الحواجز الأمنية والمدرّعات والمئات من أعوان الأمن منتصبة في كل مداخل ومخارج الشارع لتأمين المظاهرة.
إلا أن ما حدث كان بمثابة الصدمة الكبرى للنظام التونسي، الذي نزل بثقله السياسي لإضفاء مشروعية ودعم كاملَين للمتظاهرين، بعد أن شاركَ وزير الداخلية التونسية توفيق شرف الدين ومحافظ تونس كمال الفقي في هذا التحرّك الداعم لقيس سعيّد، في حركة نزعت ما تبقّى من حيادية لطالما ادّعاها المسؤولان البارزان في المنظومة الحالية الحاكمة.
الأسابيع والأشهر المقبلة ستكون ساخنة سياسيًّا وصعبة اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فمعارضو سعيّد لا يزالون عاجزين عن تغيير المزاج الشعبي المناوئ لهم في غالبيته
كانت الصدمة شديدة في صفوف مناصري قيس سعيّد، فعدد المشاركين الذي لم يتجاوز بضع مئات وفق وكالة “رويترز”، كشفَ أمام العالم أن النظام الحالي لا مشروعية شعبية واقعية له على أرض الواقع، بعد نحو 10 أشهر من انقلابه الذي ضربَ الانتقال الديمقراطي في مقتل، وسمّم الحياة السياسية والمناخ العام، وزاد من تعفُّن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على التوالي.
في مناسبات عديدة، خرجَ الرئيس قيس سعيّد على التونسيين بخطابات تهديد ووعيد وتخوين لخصومه، مقابل شكر وتمجيد لأنصاره والمساندين له ممّن أسماهم بـ”الصادقين”، لكن هؤلاء “الصادقين” خيّبوا آماله في 8 مايو/ أيار، وصاروا مادة ساخرة على شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب مشاركتهم الضعيفة وإقبالهم الباهت على المظاهرة المساندة لسعيّد.
فقد كان سعيّد يعوّل على هذه المظاهر للمضيّ قدمًا في تنفيذ مشروعه السياسي، وربما حلّ الأحزاب السياسية واعتقال قيادييها ووضع بعضهم في الإقامة الجبرية، بحسب ما كشفه عضو جبهة الخلاص، أحمد نجيب الشابي، في ندوة صحفية الأسبوع الماضي، بالإضافة إلى تزامن تاريخ المظاهرة مع “اليوم العالمي للحمير”.
لا أحد يتوقّع تداعيات هذه المظاهرة على النظام التونسي الحالي، فردود أفعال الرئيس سعيّد لا يمكن التنبؤ بها، لكن ممّا هو مؤكّد أن التونسيين والعالم بأسره اكتشفا، بما لا يدع مجالًا للشك، أن سلطة الأمر الواقع لا تستمدّ مشروعيتها من الشارع على أرض الواقع، على عكس مناوئيها بشقَّيهم (جبهة الخلاص وجبهة عبير موسي)، بقدر ما تستمدّه من المزاج الشعبي العام، الناقم على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تسود البلاد قبل انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021.
تونس على صفيح ساخن، ومن المؤكد أن الأسابيع والأشهر المقبلة ستكون ساخنة سياسيًّا وصعبة اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فمعارضو سعيّد لا يزالون عاجزين عن تغيير المزاج الشعبي المناوئ لهم في غالبيته، وفي المقابل لا يزال سعيّد ومن معه عاجزين اليوم عن تعبئة الموارد المالية الضرورية لتمويل ميزانية 2022، ومنع الدولة من الإفلاس والانهيار، بالتزامن مع ارتفاع كبير في الأسعار ورفع تدريجي للدعم وانخفاض تاريخي في قيمة الدينار التونسي مقابل الدولار الأمريكي، فما الذي يخفيه المستقبل القريب لتونس؟